ملخص
بعض المتعاملين المحترفين يستفيدون من الانهيار سواء بمراهنتهم على الهبوط في "البيع القصير" أو من خلال حيازتهم لأسهم هوت أسعارها لكنها يمكن أن تعاود الارتفاع.
مع تذبذب مؤشرات الأسهم في الأسواق الكبرى حول العالم، وخصوصاً في السوق الأميركية، عادت بقوة توقعات المستثمرين والمحللين باحتمال انهيار السوق بعد فترة طويلة من ارتفاع مؤشراتها المستمر ووصولها إلى ما توصف بأنها "نقطة الغليان" لفقاعة كبيرة.
بداية، وعلى رغم أن عدداً من المستثمرين المخضرمين وغيرهم توقع أزمات سابقة في السوق فإنه من الصعب توقع مسار أسواق الأسهم في ظل تغيرات وعوامل كثيرة. صحيح أنه منذ بداية هذا العام تراجع أداء الأسواق نتيجة الاضطراب الذي سببته سياسات الإدارة الأميركية الجديدة للرئيس دونالد ترمب وحربها التجارية مع العالم، لكن ذلك وحده لا يبدو كافياً لتفجير فقاعة الأسهم.
لكن لا يمكن استبعاد انفجار فقاعة الأسهم مع المغالاة المستمرة في قيمة الأصول حتى أصبحت هناك قيمة زائدة لا تعكس واقعاً حقيقياً تصل إلى تريليونات الدولارات، هذه القيمة مجرد أرقام على الورق وفي سجلات الكمبيوتر لكن ليس لها مقابل حقيقي من أصول مادية فعلية للشركات المسجلة في البورصة، ذلك هو الغليان داخل السوق الناجم في الغالب عن المضاربات والتداول عالي الأخطار، وهو ما يجعل مؤشرات الأسواق تصل إلى مستويات "غير متوازنة" أو قابلة للاستمرار.
وغالباً ما ينتهي ذلك إما بانهيار مفاجئ للأسواق أو تراجع مستمر يسمى "هبوط تصحيحي" حتى تقترب من نقطة توازن، أي أن تصبح القيمة الاسمية للأسهم قريبة من قيمتها الدفترية، وفي النهاية يهدأ تقييم الأصول ليقترب تقييم السوق من القيمة الحقيقية لها في الواقع.
الانهيار والهبوط
للأسواق دورات من صعود وهبوط كما للاقتصادات من نمو وركود، تتباين مدتها ومداها وحجم التغير فيها وليست لها قاعدة صارمة ثابتة، إنما سيناريوهات توقعات واحتمالات. وغالباً يعرف "انهيار سوق الأسهم" بهبوط البورصة كلها أو مؤشر أساس فيها بنسبة تزيد على 10 في المئة خلال يوم تداول واحد، وفي معظم الأحوال يبدأ ذلك بهبوط شديد في أسعار أسهم أحد القطاعات ثم يمتد إلى بقية الأسهم على مؤشرات السوق.
ويمكن أن يكون الانهيار سريعاً لكنه موقت ويستمر لفترة قصيرة حتى تعاود السوق التعافي، ويمكن أن يكون الانهيار عميقاً ويستمر لفترة أطول، وفي الحال الأولى قد لا يكون هناك تأثير واسع لانهيار السوق وبخاصة إذا لم يمتد إلى أسواق أخرى، أما في الثانية فيمكن أن تكون التبعات كبيرة على أسواق العالم والنظام المالي كله.
في دورات أسواق الأسهم، هناك هبوط للمؤشرات وأسعار الأسهم في عمليات تصحيح منطقية وضرورية لتعود السوق إلى الوضع الأقرب للطبيعي، وفي تلك الحالات يكون انخفاض المؤشرات بأقل من نسبة 10 في المئة، وفي معظم الأحول تشهد تذبذباً بين الصعود والهبوط في ذلك النطاق الضيق لتكون المحصلة في المتوسط الانخفاض المعقول خلال فترة معينة. ويحدث الهبوط باستمرار ولا يثير القلق على النظام المالي بل يعد من أسباب قوته نتيجة المرونة والتصحيح الذاتي لتقليل الأخطار والأزمات.
أما الانهيار فإذا اتسع نطاقه واستمر لفترة، أي تعمق أكثر، فيؤدي إلى أزمة في النظام المالي كله تتجاوز أسواق الأسهم وتصل إلى البنوك والمؤسسات المالية وأسواق السندات والسلع وغيرها، ويكون انهيار السوق أكثر خطورة إذا أدى إلى أو تزامن مع انهيار في قطاعات معينة مثل القطاع العقاري.
وخلال الأعوام الأخيرة، ومع انتشار ربط الأسواق عبر الإنترنت والتداول الإلكتروني للمؤسسات والأفراد أصبحت احتمالات أن يؤدي انهيار في سوق معينة إلى ردود فعل واسعة في بقية الأسواق، بخاصة لو كانت سوقاً كبيرة جداً ومهمة مثل سوق الأسهم الأميركية في نيويورك.
أسباب الانهيار وتبعاته
هناك أسباب وعوامل تؤدي إلى انهيار السوق ويصحبها عمليات بيع كبيرة للأسهم فتهوي أسعارها وتنخفض المؤشرات بشدة، منها عوامل تتعلق بالسوق وسلوك المستثمرين وعوامل تتعلق بالاقتصاد الكلي. وأول تلك العوامل هو ما يسمى "الفقاعة الاقتصادية" التي تحدث حين يزيد تفاؤل المستثمرين والمتعاملين بارتفاع الأسواق مستقبلاً، ويقبلون بكثافة على شراء أسهم معينة يتوقعون ارتفاع أسعارها بقوة، من ثم ترتفع أسعار تلك الأسهم بصورة مغالى فيها وبما لا تعكس قيمتها الحقيقية، وحين تنفجر تلك الفقاعة يحدث الانهيار.
هناك أيضاً سلوكات المستثمرين والمتعاملين في السوق مثل المضاربات الشديدة على أسهم قطاع معين، كما هي الحال الآن فيما يخص أسهم شركات التكنولوجيا، ويشبه ذلك ما حدث في انهيار الأسوق عام 2000 فيما عرف باسم "أزمة دوت كوم"، أما خلال عام 2008 مثلاً فكانت المضاربات على القطاع العقاري.
ومن بين العوامل المرتبطة بسلوك المستثمرين والمتعاملين في السوق زيادة الاقتراض للاستثمار في الأسهم، وهو ما يجعل السوق أكثر انكشافاً على تغيرات أسعار الفائدة وغيرها من المؤشرات الاقتصادية، وبالنسبة إلى الاقتصاد أيضاً يمكن أن يحدث الانهيار في حالات التباطؤ الاقتصادي الشديد أو الركود، إضافة إلى التوترات السياسية والاضطراب وعدم اليقين، كما هي الحال الآن في ما يتعلق بالحرب التجارية عبر فرض رسوم وتعريفة جمركية.
كل تلك العوامل أو بعض منها تقود في لحظة ما إلى ما يسمى "البيع المذعور"، أي إقبال عدد كبير من المستثمرين على التخلص من أسهم معينة مرة واحدة، مما يهوي بأسعارها ويهبط بمؤشرات السوق المسجلة عليها تلك الأسهم بنسب كبيرة خلال وقت قصير، وتبدو تلك الدلائل واضحة حالياً مما جعل بعضاً يتوقع الانهيار بهبوط مؤشرات كبرى بنسب تتجاوز النصف.
أما تبعات انهيار السوق فيمكن أن تمتد بسرعة للاقتصاد في صورة توقف النمو داخل البلد أو المنطقة المعنية، وإذا كان الانهيار كبيراً يؤدي ذلك إلى تباطؤ أو ركود اقتصادي عالمي، وحينذاك تلجأ الحكومات إلى سياسات تقشفية لضبط دفاترها فتخفض الإنفاق مما يعني تدهور النشاط الاقتصادي، كما أن الشركات تجد صعوبة في الوصول إلى تمويل نشاطها من السوق إضافة طبعاً إلى الخسائر الهائلة التي يُمنى بها المستثمرون.
وبوصول الأزمة إلى القطاع المصرفي والمؤسسات المالية نتيجة اضطرارها لتوفير قروض كبيرة لتعويض الخاسرين واعتماد إجراءات لتخفيف أعباء الديون، يحدث ما يسمى أزمة "انكماش ائتماني" تزيد من أخطار الركود الاقتصادي بصورة عامة.
سبل الوقاية من الانهيار
كل ما سبق يستند إلى خلاصة الدروس والتجارب من الأزمات السابقة التي نجمت عن انهيار السوق، ومن تلك الدروس ما ينصح به المحللون والاقتصاديون المستثمرين للوقاية من الخسارة الكبيرة في حال انهيار السوق، وربما حتى الاستفادة من الانهيار وهبوط أسعار الأسهم بشدة.
بالطبع، تنفع هنا النصائح العامة التي توجه دوماً للمستثمرين في الأسواق، مثل تنويع الأصول وعدم وضع كل الأموال في السهم بل توزيعها على أصول أقل خطراً مثل السندات وشهادات الإيداع وأذون الخزانة وغيرها، كذلك ينصح بتوازن المحافظ الاستثمارية بين الأسهم عالية التذبذب والأسهم الراسخة التي توفر عائداً عليها وصناديق التداول وغيرها من الأدوات.
ومن المفيد الاستثمار في الأصول التي تسمى "ملاذاً آمناً" مثل الذهب والدولار الأميركي وغيرها، وإن كانت تلك الأصول تتأثر قيمتها أيضاً خلال وقت الأزمات، لكنها تظل صورة من صور الحماية من الأخطار الشديدة في حال انهيار السوق، كذلك من المهم اعتماد استراتيجيات تحوط للوقاية من الآثار السلبية لحركة السوق بصورة عامة.
مع أن انهيار السوق يمثل كارثة لغالب المستثمرين نتيجة الخسائر الهائلة من هبوط أسعار السهم التي يمتلكونها، إلا أن بعض المتعاملين المحترفين يستفيدون من الانهيار سواء بمراهنتهم على الهبوط في عمليات تسمى "البيع القصير"، أو من خلال حيازتهم لأسهم هوت أسعارها لكنها يمكن أن تعاود الارتفاع.
هذا بالنسبة إلى المستثمرين والمتعاملين في الأسواق، أما بالنسبة للنظام المالي كله وللحكومات فالمسألة تكون أكثر صعوبة إذا اتسع نطاق انهيار السوق وتبعاته، ومع أن الأزمة المالية العالمية الأخيرة قبل نحو عقدين أدت إلى اعتماد إجراءات وقواعد تحد من الضرر في حال انهيار الأسواق، لكن تلك التعديلات لم تعالج بصورة كاملة أسباب الاختلالات الهيكلية في النظام المالي العالمي، من ثم تظل احتمالات الأضرار الكبيرة من انهيار السوق واردة إلى حد كبير.