ملخص
على رغم التطور الكبير في التكنولوجيا والإعلام، فإن رسم المحاكمات لا يزال يحتفظ بمكانته في نقل الأحداث القانونية، بخاصة عندما يتعلق الأمر بالقضايا ذات الأبعاد الإنسانية العميقة. في حين يمكن للتصوير الفوتوغرافي والفيديو تقديم صورة واقعية للحظة، إلا أن الرسم يضفي بعداً إنسانياً لا يمكن تقليده.
في قاعة المحكمة، حيث تكتب فصول درامية من التاريخ، يكون التوثيق البصري شاهداً صامتاً على لحظات مفصلية. منذ قرون شكل رسم المحاكمات نافذة للناس على قضايا أثارت الرأي العام، من محاكمات السحر في سالم في ماساتشوستس، إلى محاكمة القاتل المتسلسل تشارلز مانسون، حيث وثقت رسومات الفنانين مشاهد لم يكن بالإمكان تصويرها بعدسات الكاميرا. في العصر الحديث، لا تزال هذه المهنة قائمة، على رغم التطور التكنولوجي الذي يجعل من السهل تسجيل كل شيء بضغطة زر. لكن لماذا ما زلنا نحتاج إلى فناني المحاكم في زمن تملأ الصور والشاشات حياتنا؟
أصول رسم المحاكمات
رسم المحاكمات هو فن قديم ظهر كوسيلة لتوثيق الإجراءات القضائية بصرياً قبل ظهور التصوير الفوتوغرافي. تعود أصول هذه الممارسة إلى أوروبا في العصور الوسطى، حيث كان الفنانون يكلفون بتوثيق المحاكمات الكبرى التي كانت تحظى باهتمام واسع. واحدة من أقدم الرسومات المعروفة لمحاكمة تاريخية تعود إلى عام 1586، حين صور فنان إنجليزي مجهول محاكمة ماري ملكة الاسكتلنديين، أثناء مثولها أمام محكمة إنجليزية في قلعة فوذرينغاي. كما يذكر أن رسومات توثيقية لمحاكمة غاليليو غاليلي عام 1633 لا تزال محفوظة حتى اليوم في متحف اللوفر.
في بريطانيا خلال القرن الـ19، لعب الرسم دوراً مهماً في توثيق المحاكمات الشهيرة مثل محاكمة أوسكار وايلد عام 1895، حين ساعدت الرسومات المنشورة في الصحف على تشكيل الرأي العام حول قضيته. وفي الولايات المتحدة، يعود تاريخ رسم المحاكمات إلى محاكمات السحر في مدينة سالم في ماساتشوستس عام 1692، حين نشرت رسومات توضيحية لمحاكم التفتيش التي أقيمت لمقاضاة النساء المتهمات بالسحر. وفقاً لدراسة أجرتها جامعة سياركوز في نيويورك، كانت الصحف في العصر الفيكتوري تعتمد على الفنانين الذين كانوا يلقبون بـ"رسامي الإطفاء" نظراً إلى استدعائهم على وجه السرعة، إذ كانوا يهرعون إلى المحاكم ويرسلون رسوماتهم إلى الصحف في اليوم نفسه لنشرها.
قبل ظهور التصوير الفوتوغرافي في القرن الـ19، كانت هذه الرسومات تستخدم كأداة لنقل وقائع المحاكمات إلى الجمهور، سواء عبر الصحف المطبوعة أو المعارض العامة. فقد كانت الوسيلة الوحيدة التي مكنت الناس من رؤية تعابير المتهمين والقضاة والشهود أثناء المحاكمة. حتى اليوم، تظل هذه الرسومات مهمة في المحاكم التي تحظر التصوير، مثل المحاكم الفيدرالية الأميركية والمحاكم البريطانية، حيث يتم يُوظف فنانو الرسم لتوثيق القضايا المهمة بصرياً.
من أبرز رسامي المحاكمات المشهورين الذين تركوا بصماتهم في هذا المجال: هوارد برودي الذي قدم رسومات شهيرة خلال محاكمات مثل محاكمة شارلز مانسون، ومارلين تشيرش التي وثقت محاكمة القاتل المتسلسل ديفيد بيركوفيتش في سبعينيات القرن الماضي. كذلك اشتهر بيل روبليز بتوثيق محاكمة أو جي سيمبسون ومجموعة من القضايا البارزة الأخرى. أصبح كثير من هذه الرسومات يساوي أموالاً ضخمة في المزادات العلنية، حيث بيع بعضها بمبالغ عالية، بل حتى إن نسخاً مقلدة منها متوافرة للشراء عبر الإنترنت. مما يثير الاهتمام أيضاً هو أن بعض الصور الشهيرة لفنانين معروفين رُسمت بواسطة رسامي محاكمات، على رغم أنهم لم يدخلوا قاعات المحاكم أبداً.
تحديات قانونية وتقنية
في كثير من الأنظمة القانونية حول العالم، يمنع التصوير الفوتوغرافي والفيديو داخل المحاكمات لأسباب تتعلق بالحفاظ على نزاهة الإجراءات القضائية وضمان خصوصية الأطراف المعنية. في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، يعود هذا المنع إلى عام 1935 بعد محاكمة قضية اختطاف وقتل ابن الطيار الشهير تشارلز ليندبرغ، التي كانت محور اهتمام إعلامي ضخم، إذ أدى استخدام الكاميرات إلى فوضى في المحكمة وأثر سلباً في سير القضية. رداً على ذلك، فرضت الجمعية الأميركية للمحاماة حظراً على الكاميرات في المحاكم، وهو الحظر الذي تم تأكيده بموجب القواعد الفيدرالية عام 1944، خصوصاً في القضايا الجنائية، من خلال القانون "53" الذي يمنع التصوير في قاعات المحكمة.
تعد هذه القيود أحد الأسباب الرئيسة التي تجعل دور الرسامين حيوياً في توثيق المحاكمات حتى يومنا هذا، إذ تستخدم رسوماتهم لتوفير صور دقيقة للأحداث التي تتم خلف الأبواب المغلقة. وعلى رغم وجود قوانين تقيد التصوير، فإن الرسامين يمتلكون ميزة فنية في توثيق مشاهد المحاكم التي لا يمكن أن تلتقطها الكاميرات، مثل التعبيرات الدقيقة أو المشاعر الإنسانية التي تظهر بصورة جلية في الرسومات. يقول الرسام الشهير بيل روبلز، إن الفنان لا يستطيع أن يكون كاميرا، ولكن من الناحية الأخرى، يستطيع الفنان أن يفعل ما لا يمكن للكاميرا أن تفعله.
علاوة على ذلك، يمكن أن تؤثر هذه القيود في مهنة رسم المحاكمات بصورة غير مباشرة، إذ يبقى بعض الفنانين في حال قلق دائم من أن يتغير الوضع القانوني في المستقبل، ويسمح بالكاميرات داخل المحاكم، مما قد يقلل من حاجة المحاكمات إليهم. وعلى رغم ذلك هناك بعض الفروق القانونية بين الدول حول توثيق المحاكمات. ففي بعض الدول مثل الولايات المتحدة، تسمح بعض المحاكم بوجود الفنانين أثناء مجريات المحاكمة، ولكن ذلك يعتمد على قرار القاضي، بينما في دول أخرى مثل المملكة المتحدة وهونغ كونغ، يمنع على الفنانين الرسم في قاعات المحكمة وتقتصر رسوماتهم على الذاكرة والتخيل بعد مغادرة المحكمة.
لماذا لا تزال مهمة اليوم؟
على رغم التطور الكبير في التكنولوجيا والإعلام، فإن رسم المحاكمات لا يزال يحتفظ بمكانته في نقل الأحداث القانونية، بخاصة عندما يتعلق الأمر بالقضايا ذات الأبعاد الإنسانية العميقة. في حين يمكن للتصوير الفوتوغرافي والفيديو تقديم صورة واقعية للحظة، إلا أن الرسم يضفي بعداً إنسانياً لا يمكن تقليده. الفنانون في قاعات المحكمة قادرون على التقاط المشاعر الدقيقة التي قد تفوتها عدسة الكاميرا. على سبيل المثال، يمكن للفنان نقل التعبيرات الدقيقة على وجه المتهم، أو الأجواء العاطفية للمحكمة، أو حتى التوتر في المكان، بصورة فنية تجعل المشهد أكثر تأثيراً.
يستند هذا النوع من الرسم إلى تقنيات تتجاوز التصوير الفوتوغرافي العادي. ففي محاكمة مايكل جاكسون عام 2005، حين كان يواجه اتهامات بالتحرش بالأطفال، كانت رسومات الفنانين مثل بيل روبليس وميشيل كيركو تأسر الجمهور بمشاهد مفعمة بالتوتر والدراما، تظهر اللحظات التي تحمل أكبر كمية من العاطفة والضغط، وهو أمر كان من الصعب أن تلتقطه كاميرات التلفزيون. وبالنسبة إلى محاكمة إيمي واينهاوس، التي كان يملأها الحزن والتوتر النفسي، كانت الرسوم تجسد الاضطراب الداخلي للمغنية بصورة أكبر مما يمكن لأية صورة أن تنقله.
في حين أن بعض المحاكمات البارزة تبث مباشرة على الهواء، مثل النزاع القضائي بين جوني ديب وآمبر هيرد في 2022، نجد أن المحاكمات الأخرى، مثل محاكمة دونالد ترمب أو دومينيك بيلكوت، وُثقت من طريق الرسومات فقط. هذه المفارقة بين بث اللحظات الحية عبر الكاميرات والتوثيق الدقيق والمبدع للحظات من خلال الرسوم تظهر كيف أن الرسم ما زال يحتفظ بدوره الفريد في توثيق القضايا.
في دراسة نشرتها جامعة كولومبيا بعنوان "رسوم المحاكم وتطور الصحافة القانونية"، تم تأكيد أن الرسومات لا تقتصر فقط على توثيق الأحداث، بل تلعب دوراً في توجيه الجمهور نحو تقييم الأحداث بطرق قد لا تكون ممكنة عبر التصوير الفوتوغرافي فقط.
هذه الفروق بين التصوير الفوتوغرافي والرسم تجعل من الأخير أداة غير قابلة للاستبدال في توثيق المحاكمات، إذ لا يقتصر دوره على التسجيل المرئي للأحداث فحسب، بل يضاف إليه جانب إنساني وفني يبرز التوترات والتعقيدات التي قد لا يمكن لأية كاميرا أن تلتقطها.
تطور الأساليب والتقنيات
شهدت أساليب رسم المحاكمات تطوراً ملحوظاً بمرور الزمن، إذ بدأت المهنة في العصور القديمة باستخدام الأدوات التقليدية مثل أقلام الرصاص والحبر، وصولاً إلى تقنيات الرسم الرقمي الحديثة. في القرون الماضية، كان الرسامون يعتمدون على أدوات بسيطة مثل الفحم والحبر لإنتاج رسومات سريعة وموجزة توثق اللحظات الحاسمة في المحكمة. على سبيل المثال، في محاكمة غاليليو عام 1633، استخدم الرسامون وسائل تقليدية لتوثيق المحاكمة التي كانت تحت نظر الإمبراطورية البابوية. كانت هذه الرسومات تهدف إلى نقل جوهر الأحداث والتوترات السياسية والدينية التي كانت تكتنف المحاكمة.
لكن مع تطور وسائل الإعلام والتكنولوجيا، دخلت أساليب فنية جديدة في مجال رسم المحاكمات. في النصف الثاني من القرن الـ20، بدأ رسامو المحاكمات باستخدام الألوان المائية والأقلام الملونة لتقديم صور أكثر حيوية ودقة. في محاكمة تشارلز مانسون، على سبيل المثال، كانت الرسومات المنتجة تجسد بصورة واضحة الحركة العاطفية في المحكمة. بمرور الوقت، أصبح الرسم يتسم بدقة أكبر في التفاصيل، مع التركيز على الأبعاد النفسية للأشخاص في القاعة.
ومع دخول العصر الرقمي، تغيرت التقنيات بصورة كبيرة. بدأ بعض رسامي المحاكمات في استخدام الأدوات الرقمية مثل الرسم على الكمبيوتر اللوحي أو الكمبيوتر المحمول، مما أتاح لهم تعديل الرسومات بسرعة وتقديم صور أكثر دقة وفورية. لم تعد هذه التقنية تقتصر على الرسم اليدوي، بل أصبحت جزءاً من الأساليب الحديثة التي تسمح بإنشاء رسومات يمكن نشرها بصورة أسرع وأكثر كفاءة في وسائل الإعلام. على سبيل المثال، في محاكمة مايكل جاكسون، استخدم الرسامون تقنيات رقمية لتحسين جودة الرسومات التي تنشر على الإنترنت وعلى شاشات التلفزيون، وهو ما جعل الرسومات أكثر قابلية للوصول في الزمن الفعلي مقارنة بالأساليب التقليدية.
لكن السؤال الأبرز في العصر الحديث هو ما إذا كان الذكاء الاصطناعي يمكن أن يحل محل الرسامين البشريين في توثيق المحاكمات. تشير بعض التقارير والدراسات إلى أن الذكاء الاصطناعي قد يكون قادراً على إنشاء رسومات تعتمد على الصور الفوتوغرافية أو الفيديوهات، مثلما يحدث في بعض المجالات الفنية الأخرى. على سبيل المثال، استخدم الباحثون في جامعة أكسفورد الذكاء الاصطناعي لتحليل واستخراج تفاصيل من صور ثابتة، وهو ما قد يشكل تهديداً للعمل اليدوي في بعض المجالات. ومع ذلك لا يزال للرسامين البشر ميزة فنية لا يمكن استبدالها بالكامل، بخاصة في ما يتعلق بقدرتهم على نقل الإحساس والعواطف من خلال الصور.
في محاكمة إيمي واينهاوس، كان الفنانون يلتقطون ليس فقط ملامحها الجسدية، بل أيضاً تعبيرات وجهها المعقدة التي تعكس مشاعرها الداخلية. بينما قد ينجح الذكاء الاصطناعي في تقليد الصور المرئية، فإن التفرد الذي يضيفه الرسام البشري في نقل المشاعر الإنسانية، وكذلك التفسير الفني للأحداث، يظل غير قابل للاستبدال. في دراسة نشرتها جامعة نيويورك حول تأثير الذكاء الاصطناعي في الفن المعاصر بعنوان "اللمسة الإنسانية في الفن الرقمي"، أُشير إلى أن الذكاء الاصطناعي قد ينجح في محاكاة الأسلوب الفني، لكنه لن يقدر على توصيل تلك اللمسات البشرية التي تجعل الرسم أكثر من مجرد صورة.
مستقبل يواجه التحديات والتطور
يشير كثير من الخبراء إلى أن مهنة رسم المحاكمات قد تكون في خطر بسبب تطور تكنولوجيا التصوير وتزايد الاعتماد على الكاميرات في المحاكم. مع ذلك ووفقاً لأبحاث جامعة سيراكيوز التي أظهرت أن وجود الكاميرات في المحاكم غالباً ما يؤدي إلى "التمركز الإعلامي" والتركيز على الجوانب الدرامية على حساب الحقيقة القانونية، فإن هذا يعزز الحاجة إلى الرسامين الذين يتمتعون بقدرة على تقديم تفسير بصري غير متحيز.
في ما يتعلق بتكيف هذه المهنة مع التغيرات القانونية والتكنولوجية، يمكن أن يكون الحل في دمج الأساليب الرقمية الحديثة مع الممارسات التقليدية. ومع ذلك تبقى هذه الأساليب الحديثة في حاجة إلى لمسة إنسانية يمكن أن تضيفها الخبرات الفنية للمبدعين. في تقرير نشرته مجلة "آرت نيوز" عام 2020، أُشير إلى أن الرسامين الرقميين يمكنهم تقديم رؤية فنية مختلفة تستفيد من تقنيات مثل "التكبير والاقتصار على أجزاء معينة من الصورة"، مما يجعلهم أداة قيمة في توثيق المحاكمات المعقدة.
في النهاية، وعلى رغم التحديات المستقبلية التي قد تواجه مهنة رسم المحاكمات، يبدو أن هذه المهنة ستظل ضرورية، بل قد تصبح أكثر أهمية في المستقبل. قد لا تحل التقنيات الحديثة محل الرسام البشري بالكامل، ولكن يمكن أن تتكامل معه، مما يخلق جيلاً جديداً من الرسومات المحكمة التي تجمع بين التقنية والإبداع الفني.