ملخص
يبدو تحقيق استقلالية دفاعية أوروبية أمراً بالغ التعقيد. فحتى مع السعي لتعزيز القدرات الذاتية، تبقى المظلة الأميركية، بتفوقها العسكري والاستخباراتي، عاملاً محورياً في أمن القارة. فهل تستطيع أوروبا كسر قيد التبعية الدفاعية، أم إن أمنها سيبقى رهناً للقرار الأميركي؟
كثيراً ما اعتمد الاتحاد الأوروبي على الولايات المتحدة وحلف الـ"ناتو" في تأمين حدوده وحماية مصالحه الاستراتيجية، لكن الأزمات الأخيرة، من الحرب في أوكرانيا إلى التوترات مع الصين، كشفت عن نقاط ضعف في هذا النهج. وقد دفع ذلك قادة أوروبيين، وعلى رأسهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إلى طرح مفهوم "الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي" بديلاً يضمن للقارة القدرة على حماية نفسها من دون الاعتماد المفرط على الحلفاء.
تتزعم فرنسا، صاحبة أحد أقوى الجيوش الأوروبية، هذا التوجه عبر زيادة الإنفاق الدفاعي والاستثمار في التقنيات المتقدمة، إذ خصصت 413 مليار يورو (نحو 449 مليار دولار) لموازنتها العسكرية بين 2024 و2030 لتقليص الفجوة مع الولايات المتحدة وروسيا. ومع ذلك يواجه المشروع تحديات سياسية وعسكرية واقتصادية، إذ يظل الاتحاد الأوروبي منقسماً في شأن العلاقة مع واشنطن. فبينما ترى دول أوروبا الشرقية، مثل بولندا ودول البلطيق، في الوجود العسكري الأميركي ضمانة أمنية لا بديل عنها، تسعى دول مثل فرنسا وألمانيا إلى تعزيز الاستقلال الدفاعي، رغم إدراكها صعوبة تحقيق ذلك على المدى القريب.
وفي ظل تزايد القلق الأوروبي من تراجع الالتزام الأميركي، أعلنت فرنسا استعدادها استخدام ترسانتها النووية لحماية أوروبا، بما في ذلك نشر مقاتلات نووية في ألمانيا إذا انسحبت القوات الأميركية، مما يعكس تحولاً في استراتيجيتها الدفاعية، لكن هذه الخطوة تثير تساؤلات حول مدى تقبل بقية الدول الأوروبية هذا الطرح.
في الأثناء يرى ماكرون أن "الاستقلال الاستراتيجي لأوروبا" ضرورة لتعزيز قدرتها الدفاعية واتخاذ قراراتها الأمنية بعيداً من الهيمنة الأميركية، بخاصة في ظل التحديات الجيوسياسية المتفاقمة، لكن هذا الطموح يصطدم بعوائق عدة، أبرزها تباين المواقف الأوروبية حيال العلاقة مع واشنطن، والتفاوت في القدرات العسكرية بين دول الاتحاد، مما يجعل تحقيقه رهناً بتوافق أوروبي أكبر وإرادة سياسية واضحة.
تحليل الواقع الدفاعي لأوروبا
في حوار مع رئيس تحرير موقع "لوفيغارو" فنسان روو أكد أن فرنسا، وكذلك أوروبا بصورة عامة، لا تستطيع الاستغناء عن الحماية الأميركية في الوقت الحالي. وأوضح قائلاً "وفقاً للمقابلات التي أجريتها خلال النسخة الثانية من مؤتمر باريس إديشين الذي عقد في المدرسة العسكرية الفرنسية في باريس، يؤكد عديد من الخبراء العسكريين أن أوروبا في حاجة إلى أعوام طويلة لتطوير قدراتها الدفاعية واستقلالها العسكري مقارنة بالولايات المتحدة". وأشار فنسان روو إلى "أن الموضوع لا يتعلق بالانفصال عن الولايات المتحدة، بل بتقليص الاعتماد على الحماية الأميركية تدريجاً". ومع ذلك رأى أن هذا الأمر غير قابل للتنفيذ في الوقت الراهن، نظراً إلى عديد من التحديات السياسية والعسكرية المعقدة. وأكد أن العلاقة بين أوروبا والولايات المتحدة تظل محورية في التعامل مع التهديدات العالمية، مما يعني أن الفصل التام عن الولايات المتحدة ليس موضوعاً مطروحاً في الوقت الحالي.
في ما يخص الوضع الفرنسي، شدد روو على أن فرنسا في حاجة إلى تعزيز قوتها العسكرية والاقتصادية لمواجهة التحديات الأمنية التي تواجهها، "هذه التحديات لا تقتصر على القارة الأوروبية فحسب، بل تشمل أيضاً الأزمات العالمية التي تؤثر في الأمن الفرنسي"، وتابع أن من أبرز هذه التحديات، التهديدات الإرهابية التي تمثل خطراً كبيراً على الأمن الداخلي والخارجي، "وكذلك التهديدات المرتبطة بالتطرف الإسلامي، كما لا يمكن تجاهل التهديدات الروسية، التي تزداد خطورة خصوصاً بعد التوترات الأخيرة في شرق أوروبا. وهذا يستدعي تعزيز الدفاعات العسكرية والقدرات الاستراتيجية في فرنسا وأوروبا، بصورة عامة، لضمان حماية فعالة على المستويين الوطني والدولي".
التحديات العسكرية لأوروبا: بين الاعتماد على الولايات المتحدة ومساعي فرنسا للاستقلال النووي
وأكد المتخصص في الشؤون الدولية محمد رجائي بركات أن تحقيق الدول الأوروبية استقلالاً عسكرياً عن الولايات المتحدة في المستقبل القريب والمتوسط سيكون أمراً صعباً. وأرجع ذلك "إلى محدودية الإمكانات المالية والعسكرية للدول الأوروبية، مما يعوق قدرتها على زيادة نفقاتها الدفاعية وتطوير صناعاتها العسكرية". وأشار بركات إلى "أن تطوير الصناعات الدفاعية يستغرق وقتاً طويلاً، في حين أن أوروبا تعتمد حالياً على الولايات المتحدة في تأمين نحو 65 في المئة من مشترياتها العسكرية". وضرب خبير الشؤون الدولية مثالاً في بلجيكا التي لا يمكنها تشغيل طائرات "أف-35" أو تنفيذ ضربات عسكرية من دون موافقة أميركية، وهو ما يعكس مدى ارتباط أوروبا بواشنطن في المجال العسكري.
وفي ما يتعلق بتعزيز فرنسا قدراتها الرادعة، خصوصاً سلاحها النووي، رأى بركات أن ذلك "قد يؤثر في موقفها داخل حلف الناتو، ومع ذلك فرنسا كثيراً ما تمسكت بسيادتها الكاملة على قراراتها النووية، معتبرة ذلك مسألة سيادية بحتة"، وأضاف أن هناك معارضة داخل الأوساط السياسية الفرنسية للموقف الذي عبر عنه الرئيس الفرنسي، إذ يستحضر عديد من المسؤولين إرث الجنرال شارل ديغول الذي شدد على إبقاء القوة النووية الفرنسية تحت السيطرة الوطنية الكاملة.
ولفت بركات إلى أن هذا التوجه قد يؤدي إلى خلاف بين فرنسا والولايات المتحدة داخل "الناتو" لا سيما في ما يتعلق بدور الأسلحة النووية الفرنسية في استراتيجية الحلف. أما في شأن قدرة فرنسا على مواجهة التهديدات، مثل التوسع الروسي، فرأى بركات أن روسيا تواجه صعوبات عسكرية تجعل من غير المرجح أن تقدم على التعدي على دول أخرى في المستقبل القريب. لذلك، عد أن تصريحات الرئيس ماكرون حول التهديد الروسي قد تنطوي على قدر من المبالغة الموجهة للرأي العام الفرنسي والأوروبي.
من ناحية أخرى، شدد بركات على أن العثور على بديل للدعم الأميركي يعد تحدياً كبيراً، إذ قدمت الولايات المتحدة مساعدات مالية وعسكرية لأوكرانيا تفوق أضعاف ما قدمته الدول الأوروبية مجتمعة.
التهديدات الجيوسياسية والقدرة على الدفاع عن أوروبا
ختاماً، ورغم امتلاك فرنسا أحد أقوى الجيوش الأوروبية وسعيها لتعزيز القدرات الدفاعية للقارة، فإن إمكاناتها، مهما تطورت، تظل غير كافية لحماية أوروبا بمفردها. في المقابل، تبقى روسيا بترسانتها النووية الضخمة تهديداً استراتيجياً يجعل الردع الأوروبي غير مكتمل من دون الدعم الأميركي.
ورغم الجهود المبذولة لتعزيز التعاون العسكري داخل الاتحاد الأوروبي، تظل الانقسامات الداخلية عائقاً رئيساً أمام تشكيل قوة دفاعية موحدة. فبينما تعد دول أوروبا الشرقية الوجود العسكري الأميركي ضمانة أمنية لا غنى عنها، تسعى دول أخرى إلى تقليل الاعتماد على واشنطن، لكن من دون توفير بدائل عملية حتى الآن.
من جانب آخر، يضاف إلى هذه التحديات الاقتصادية ضغوط مالية كبيرة تواجهها دول الاتحاد الأوروبي، إذ إن تطوير قدرات دفاعية مستقلة يتطلب استثمارات ضخمة في التكنولوجيات العسكرية والصناعات الدفاعية، وهو ما يمثل عبئاً ثقيلاً على اقتصادات الدول الأعضاء، خصوصاً في ظل التفاوت الاقتصادي بينها. هذه التحديات الاقتصادية قد تؤثر في القدرة على تنسيق السياسات الدفاعية بصورة فعالة، مما يعقد فرص تحقيق الاستقلال الدفاعي الأوروبي.
في ظل هذه المعطيات، يبدو تحقيق استقلالية دفاعية أوروبية أمراً بالغ التعقيد. فحتى مع السعي لتعزيز القدرات الذاتية، تبقى المظلة الأميركية، بتفوقها العسكري والاستخباراتي، عاملاً محورياً في أمن القارة. فهل تستطيع أوروبا كسر قيد التبعية الدفاعية؟ أم إن أمنها سيبقى رهينة للقرار الأميركي؟