ملخص
تغير المناخ سيعيد عملية الاستيلاء على الأراضي إلى قلب الجغرافيا السياسية، حيث ستتنافس القوى الكبرى على الأراضي الصالحة للسكن والموارد الحيوية، مما قد يؤدي إلى تحول مناطق غير مأهولة سابقاً مثل شمال روسيا وكندا إلى مسرح للصراع بخاصة مع تزايد أهمية المناطق القطبية والشمالية، واحتدام المنافسة على الغذاء والطاقة والممرات البحرية الاستراتيجية.
منذ منتصف القرن الـ20، تضمن النظام الدولي لما بعد الحرب العالمية الثانية آليات للقوة ومنظومة من التحالفات عملت ككابح قوي ضد حملات الغزو واكتساب أراضٍ إقليمية، وقد شكلت الأخيرتان ملمحاً راسخاً ومستداماً في تاريخ البشر. وفي المقابل بدلاً من أن يؤول ذلك إلى تكوين انقطاع حاسم مع الماضي العدواني، تتسم الحقبة الراهنة من الكبح النسبي بأنها تكاد لا تشكل سوى انحراف عابر عن النمط التاريخي الراسخ. فمن الغزو الروسي لأوكرانيا إلى اهتمام الرئيس الأميركي دونالد ترمب المعلن بالاستحواذ على غرينلاند، عاد الاستيلاء على الأراضي إلى الواجهة. ومرة أخرى، تميل التهديدات بالغزو الإقليمي لأن تكون الجزء الأساس من الجغرافيا السياسية، مدفوعة بتحفيز من حقبة جديدة في تنافس القوى الكبرى، والضغوط المتأتية من التكاثر السكاني، والقفزات الكبرى في التكنولوجيا، وكذلك التغير المناخي الذي ربما يمثل المحرك الأكثر حسماً ومحورية.
وتصلح حالة غرينلاند لتكون مثلاً نموذجياً عن الكيفية التي قد يعمل فيها تغير المناخ على إثارة صراع عالمي على الأرض. أثار ترمب للمرة الأولى احتمال ضم الولايات المتحدة الإقليم الدنماركي عشية تنصيبه، وفي الأسابيع التي تلت ذلك، كرر هذه الرغبة ورفض استبعاد استخدام القوة لتحويلها إلى واقع. ولا تبدي الدنمارك اهتماماً ببيع غرينلاند فيما يبدي الشعب الأصلي في ذلك الإقليم حذراً من القوى الخارجية كجزء من تراث الجزيرة من التاريخ الوحشي للحكم الدنماركي. ولكن ذلك الحذر لم يثبط عزم ترمب في تقديم العروض أو التهديدات. ومن المستطاع الزعم بأن اهتمامه بالإقليم ينبع من الموقع الاستراتيجي للأخير كحاجز صد بين الولايات المتحدة ومنافسيها من الدول الكبرى. وفي يناير (كانون الثاني) الماضي، أفاد ترمب بأن "الأمر يتعلق بحرية العالم". وفي المقابل مع تزايد حرارة كوكب الأرض، سيؤدي انحسار الغطاء الجليدي عند القطبين المتجمدين وتآكل الكتل الثلجية العائمة في البحر بجوارهما، إلى تزايد أهمية غرينلاند لأسباب أخرى تتضمن أن مفازاتها الواسعة التي اعتبرت ذات مرة منفرة للبشر ستكتسب جاذبية جديدة في أعين الأجانب.
وليس رهان واشنطن على غرينلاند إلا الفصل الافتتاحي في المنافسة العالمية على الأراضي. وثمة مزايا عدة تعطي الأرض قيمة على غرار إمكانية الوصول إلى الموارد والمصادر، والقابلية لسكن البشر، والإنتاجية الزراعية، وقربها من ممرات التجارة. وعلى مدى عقود، تولت الدول في الغالب، التعامل مع ما تملكه على أراضيها. ولكن، بدأ تغير المناخ في تبديل أوراق اللعب الآن. وفي وقت تسعى فيه القوى الرئيسة إلى إعادة التموضع ضمن عالم يزداد حرارة، سيسارع عدد منها إلى تأمين الوصول إلى أراضٍ وموارد حيوية، مما يبشر بحقبة سيغدو فيها الاستيلاء الجريء على الأرض، ترسيمة لا تتكرر باستمرار.
رابحون وخاسرون
إن ما يبدو الآن كأمر جلف وغرائبي ونافر، قد يغدو أكثر شيوعاً في العقود المقبلة حينما سيتخبط السياسيون في التعامل مع تداعيات كوكب تتزايد حرارته. وبالنسبة إلى قوة كبرى تسعى إلى النجاح في مستقبل سيرسمه تغير المناخ، فإن غرينلاند هي جائزة. ومن المرجح أن تضحى تلك الجزيرة الضخمة ممراً مهماً لطرق تجارية شمالية تعبرها السفن حينما تذوب ثلوج القطب الشمالي. وعلى رغم أن الغطاء الثلجي قيد حتى الآن عمليات استكشاف المعادن في غرينلاند، يعتقد العلماء أنها تملك كميات وازنة من خام الحديد، والقصدير والذهب وعناصر الأرض النادرة واليورانيوم والنفط، إضافة إلى موارد قيمة أخرى تشمل المعادن اللازمة للانتقال إلى الطاقة النظيفة.
ومع مناخ متزايد الدفء، سيجبر الناس على مغادرة أمكنة ستغدو غير قابلة للسكن بسبب ارتفاع مستويات البحار والحرارة القائظة التي لا تحتمل والطقس القاسي. وحينئذ، ستغدو غرينلاند مكاناً وثيراً لتوطن البشر بأكثر مما عليه الآن. وستضحى فصول الشتاء المريرة أكثر سلاسة، وفصول الصيف أشد دفئاً بشكل جذري. وقد سجلت معدلات الحرارة في الأعوام الأخيرة مستويات أعلى مما بلغته في الأعوام الألف الماضية، وتزيد بنحو 1.5 درجة مئوية على كل ما سجل خلال القرن الـ20. ومع توالي الارتفاع في الحرارة، سيتعزز نمو النباتات وحتى الزراعة. وتظهر التوقعات المستقبلية عن المناخ أن أراضي تغطيها الآن شجيرات ونباتات قصيرة في التندرا قد تغدو غابات نامية بحلول عام 2100.
وسيترتب على تغير المناخ مشكلات لا مرد لها بالنسبة إلى بعض البلدان، فيما ستنفتح فرص جديدة أمام دول أخرى، مما يعزز السباق على الأراضي. وستنحت ممرات جديدة أمام الإنتاج الاقتصادي والهجرة بأثر من التغيرات الناجمة عن ارتفاع حرارة الكوكب. ومثلاً، ستتزايد الهجرة من شمال أفريقيا ودول الساحل والشرق الأوسط، مع ارتفاع درجات الحرارة وتدني إنتاجية الزراعة فيها. وسيخلي الناس المساحات الساحلية المنخفضة الارتفاع والمعرضة للفيضانات [من مياه البحار]، على غرار الحال في دلتا نهر الغانج ببنغلاديش وأجزاء من سواحل فلوريدا.
الاستيلاء على الأراضي سيعود إلى الطاولة الدولية
وستجذب الأراضي المرتفعة والمناخ السائد في المناطق الشمالية للكرة الأرضية معظم من سينزحون عن أرضهم، على رغم أن مناطق في الجنوب البعيد ستجذب أعداداً صغيرة منهم أيضاً. وبين بحث لعلماء من "جامعة ستانفورد" أن الإنتاجية الاقتصادية تتسارع مع ارتفاع الحرارة في المناطق الباردة، لكنها تتباطأ مع ارتفاع الحرارة في المناطق الحارة. ومن السهل معرفة أسباب ذلك الأمر، إذ يتيح الطقس المعتدل زيادة إنتاج الزراعة، ويعزز صحة السكان ويسهم في تحسين أحوال العمل. وفي المقابل تؤدي المناطق التي يسودها الطقس الحار وحده إلى ارتفاع الوفيات المتصلة بالحرارة، وترتفع كلفة الطاقة، وتتفاقم انقطاعات الماء، ويتدنى مردود المحاصيل الزراعية.
ستستفيد الدول التي تملك مساحات شاسعة من الأراضي المرشحة لأن تغدو مرغوباً فيها في مستقبل قريب، للاستفادة من تلك الوضعية شريطة إجادتها التصرف. وعلى نحو خاص، تقف روسيا وكندا على رأس المستفيدين من ذلك الملمح باعتبار أنهما الدولتان الأكبر مساحة في شمال الكرة الأرضية. وفي البلدين كليهما، قد تتوسع الزراعة بشكل دراماتيكي بسبب تطاول مدة فصول إنماء النباتات، وميل أحوال الطقس إلى الدفء، وذوبان الجليد فيهما. وأخيراً، أظهر نموذج محاكاة على الكمبيوتر أنه مع حلول عام 2080، ستكتسب كندا 1.6 مليون ميل مربع (4.15 مليون كيلومتر مربع) من الأراضي الصالحة للزراعة التي تلائم محاصيل كالقمح والذرة والبطاطا، مما يمثل زيادة مقدارها أربعة أضعاف المساحة الصالحة لمثل تلك الزراعات في الوقت الحاضر. وستفوز روسيا بكمية مشابهة من الأراضي الجديدة الصالحة للزراعة خلال العقود الآتية. وعلى رغم أن تربة تلك الأراضي الجديدة لن تكون عالية الإنتاجية، فإن ذلك المقدار الضخم من التغيير في وضعية البلدين كليهما سيهيمن على أسواق الحبوب العالمية في المستقبل.
وفي وقت قريب، ستجد كندا وروسيا نفسيهما وقد غدتا مشرفتين على الممرات الرئيسة للملاحة البحرية. وبالفعل، يعمل ذوبان الثلوج على فتح ممرات بحرية في القطب الشمالي. لذا ستتزايد حركة عبور السفن في تلك المنطقة، بأكثر من الزيادة الحاصلة الآن بالفعل فيها، بالترافق مع ارتفاع حرارة الأرض. وحاضراً، تتركز أعين الاقتصادات الكبرى على ممرين للملاحة البحرية يربطان المحيطين الأطلسي والهادئ. ويدعى أولهما "الممر الشمالي الغربي" Northwest Passage الذي يعبر القسم الشمالي من كندا، ويحاذي غرينلاند. ويسمى ثانيهما "ممر البحر الشمالي" Northern Sea Route الذي يسير بموازاة الحدود الشمالية في روسيا. وسيؤدي موقعا كندا وروسيا المشرفان على ذينك الممرين، إلى تعزيز الفاعلية الاقتصادية في البلدين كليهما، وسيعطيهما سيطرة على حركة الملاحة البحرية فيهما.
سيؤدي تغير المناخ إلى خلق مشكلات بالنسبة إلى بعض البلدان فيما سيفتح فرصاً أمام أخرى
وبالتأكيد، يبقى احتمال تعرض كندا وروسيا إلى كوارث طبيعية مدفوعة بتغير المناخ. وكذلك ستلقى على كاهل اقتصاديهما أعباء ناجمة عن أخطار مكلفة أخرى على غرار الخراب الذي قد يحيق بالبنية التحتية بأثر من ذوبان الجليد. ولكن، مع تتالي أحوال طقس معتدلة سيتسارع النمو السكاني ويتعزز إجمال النشاط الاقتصادي. وفي كندا، بدأ بالفعل تداول أفكار عن كيفية الاستفادة من تلك التغييرات الطبيعية. وقد كون قادة سياسيون ورجال أعمال نافذون وذوو شبكة علاقات واسعة، مجموعة سميت "مبادرة القرن" Century Initiative، التي تروج لمصلحة زيادة سكان البلاد من 40 مليوناً اليوم إلى 100 مليون مع حلول عام 2100. وترى المجموعة أن تلك الزيادة ستتحقق إلى حد كبير، عبر زيادة اجتذاب المهاجرين وإرساء مراكز تنمية محلية. وقد عمل أحد مؤسسي المبادرة مستشاراً اقتصادياً لرئيس الوزراء السابق جاستن ترودو، وحظي برنامجها بدعم من أعضاء ومستشارين بارزين في الحزبين المحافظ والليبرالي.
ويبدو المشهد في روسيا أكثر تعقيداً. وعلى نحو مؤكد، ثمة إمكانات اقتصادية كامنة ووازنة تنطوي عليها المساحات الواسعة الآخذة في اكتساب حرارة متزايدة، ضمن سهب تندرا الجليدي والغابات الجبلية في شمالها القطبي. وفي المقابل فإن اعتماد روسيا على إنتاجها من المواد الهيدروكربونية [كالنفط والغاز] من شأنه إلحاق الهشاشة باقتصادها فيما ينتقل العالم إلى الطاقة المتجددة. وسيبرز ذلك خصوصاً إذا لم تفلح الزراعة والملاحة البحرية وغيرهما من أشكال النشاط الاقتصادي القابل للاستدامة، في ملء الفراغ الذي يخلفه تضاؤل صادرات الوقود الأحفوري. وعلى نحو مماثل، تعمد كندا إلى موازنة معدلات الولادة المنخفضة عبر سياسات منفتحة حيال الهجرة، إلا أن روسيا أقل ترحيباً بالمهاجرين، وبأشواط عدة. وإذا لم يتغير ذلك المنحى، قد ينخفض عدد السكان في روسيا بمقدار الربع مع حلول عام 2100.
وهنالك مناطق في شمال الكرة الأرضية ستشهد تغيرات مماثلة لتلك التي ستحدث في كندا وروسيا، وهي: فنلندا، والنرويج، والسويد، وولاية ألاسكا الأميركية. وستحوز تلك المناطق على قاعدة متوسعة باستمرار من الأراضي الصالحة للزراعة، خلال العقود الآتية. وعلى العكس من ذلك، ستعاني الولايات المتحدة والصين القاريتين، تدنياً في مردود المحاصيل، وزيادة من الهجرة التي ستخرج من مناطقها الأكثر حرارة والأشد تعرضاً للكوارث، إضافة إلى انخفاض الإنتاجية. وقد يشهد البلدان تواهناً في النفوذ إلا إذا استطاعا الموازنة بين تلك الأضرار والاستثمار في طاقة متجددة ورخيصة، إضافة إلى وضع خطط لإعادة موضعة المجموعات السكانية المعرضة للخطر كي تستقر في نهاية المطاف، ضمن أمكنة أكثر قابلية للعيش.
التسابق على الأرض
بمواجهة التحديات الديموغرافية والاقتصادية المرتبطة بالتغير المناخي، ستحاول الدول الإمساك بأي منفعة تستطيع الوصول إليها. ولا يشكل التجاذب حول غرينلاند سوى البداية. وثمة عشرات من المناطق حول العالم التي تمتلك نمط الخصائص التي تتمتع بها غرينلاند على غرار قلة السكان، وتوقع راجح بأن تغدو أكثر قابلية لسكن البشر خلال العقود الآتية، أو أن تحتضن موارد قيمة مقابل وجود سيادة ضعيفة أو ملتبسة أو انتقالية. وبوصفها ولاية تتمتع بحكم ذاتي، تدار الشؤون الخارجية لغرينلاند من كوبنهاغن، لكن قادة تلك الولاية عبروا عن رغبتهم في نيل استقلال كامل ووضع مسودة عن آفاق دستور خاص بها. وعلى رغم أن معظم الغرينلانديين تفاعلوا في البداية عبر إظهار نفورهم من عرض ترمب ضمهم إلى الولايات المتحدة، فإنه ليس من المستحيل تصور أن تنال تلك المنطقة استقلالها ثم تتعامل مع ذلك العرض في المستقبل. وهنالك مناطق أخرى غير سيادية قد تغدو محطاً لتطلعات دول كبرى أو جيراناً طامحين، على غرار جزر فارو وفوكلاند وغويانا الفرنسية أو كاليدونيا الجديدة. وكثيراً ما شكلت تلك المناطق موضعاً لتنازع السيطرة عليها، وقد يتجدد ذلك التصارع مجدداً.
وضمن ذلك السياق، تجسد القارة القطبية الجنوبية منطقة بارزة أخرى. وإبان "الحرب الباردة"، وقعت الدول الكبرى "اتفاقية القطب الجنوبي"، ونحت جانباً مطالبها الإقليمية في تلك القارة المتجمدة، وتعاهدت على استعمالها كموقع للبعثات العلمية والتعاون الدولي. والآن، شرعت تلك الإجراءات في التفكك. وقبل زمن يسير، أدرجت الصين وروسيا مصالحها في القطب الجنوبي ضمن استراتيجياتها في الأمن الوطني. واستثمرت الصين في صنع أسطول كاسر الجليد وإرساء محطات أرضية للأقمار الاصطناعية داخل تلك القارة، وقد يعاد توجيهها لمصلحة أغراض وتطبيقات عسكرية. وتوسعت الصين وروسيا في صيد أسماك الكريل في المياه المحيطة بالقطب الجنوبي، ورفضتا تجديد الأطر المعتمدة في الحماية البحرية والإضافات التي اقترحتها "مفوضية الحفاظ على الموارد البحرية الحية في القطب الجنوبي" التي تشارك فيها 26 دولة. وردت الأرجنتين وتشيلي بأن جددتا مطالبهما الإقليمية المزمنة في تلك القارة. وبما أن تغير المناخ يتيح استخراج موارد ثمينة، وتوسيع نطاق السيطرة على طرق الشحن البحرية، وبناء محطات رصد وقواعد بحثية قابلة للتسليح، فقد ينهار التعاون في القطب الجنوبي تماماً.
التصارع على غرينلاند ليس سوى البداية
وكذلك ستغدو الدول التي تمتلك موارد حيوية بالنسبة إلى الانتقال للطاقة المتجددة، مواقع للتنافس. وتحت ضغط الطلب على معادن الأرض النادرة كالكوبالت والليثيوم والتانتالوم، تندفع الجهود الرامية إلى الحصول على مصادرها وتأمين تلك الموارد أنى وجدت. وأحياناً، تنوء السيادة الإقليمية بالأعباء المترتبة على عمليات التنافس بداية من تمدد نفوذ الشركات المتعددة الجنسيات المنتظمة في استحواذ الأراضي على نطاق واسع، ووصولاً إلى الانتهاكات الأكثر تجرؤاً التي تتخذ شكل اعتداءات ترتكبها قوى أجنبية. وحاضراً، من المستطاع تفسير غزو مجموعة المتمردين "أم 23" M23 المدعومة من رواندا لجمهورية الكونغو الديمقراطية الغنية بالمعادن، بوصفه طريقة تلك المجموعة، ومن ثم رواندا، في الوصول إلى المعادن القيمة في شرق الكونغو التي تستعمل في إنتاج بطاريات الخليوي والمركبات الكهربائية.
وعلى نحو مشابه، سيتكثف التنافس على تأمين الوصول إلى الغذاء، بالترافق مع تصاعد تأثير تغير المناخ على مردود المحاصيل وأنماط متنامية من التأثر بالمناخ حول العالم. وسوف تحتاج بعض البلدان إلى إيجاد مصادر جديدة للسلع الزراعية، لذا فإن الدول التي ستستمر في إنتاج الغذاء وتصديره في ظل عالم تتزايد حرارته، ستكتسب نفوذاً. ومن المستطاع النظر بصورة جزئية، إلى غزو روسيا شرق أوكرانيا كجزء من لعبة لاكتساب النفوذ السياسي عبر التفوق في الزراعة. وعلى مدى عقود، دأب الاتحاد السوفياتي السابق ثم روسيا، على استيراد الحبوب. ولكن، خلال العقدين الأخيرين، بذلت موسكو جهوداً متناسقة وناجحة بغية تعزيز الإنتاج الزراعي المحلي. والآن، لم تعد روسيا تعتمد على استيراد الحبوب وصارت المصدر العالمي الأكبر للقمح. ومع استيلائها على أفضل أرض زراعية في أوكرانيا، عززت روسيا هيمنتها على السوق العالمية للحبوب. ويقدم ذلك الموقع لموسكو قوة هائلة. وإذا أوقفت روسيا التصدير إلى بلد يعتمد على استيراد الحبوب، فستقدر على زعزعة سياسات ذلك البلد، وتطلق العنان للمجاعة وحتى للهجرة.
المعارك الآتية
بطرق متشابكة، سيرسم تغير المناخ شكل العلاقات بين الدول خلال العقود الآتية، لكن الملامح العامة للتبدل في تلك العلاقات بات منظوراً بالفعل. وحتى في اللحظة الحالية، تخضع أسواق التجارة والسلع للتبدل تحت تأثير إمساك الدول القوية بالمصادر الأساس والمحورية، إضافة إلى انفتاح ممرات جديدة للملاحة البحرية. وبالفعل، بدأت مجاميع سكانية في الانتقال ضمن بلدانها وعبر بلدان أخرى، تحت تأثير تغير المناخ الذي جعل مناطق أقل قابلية لسكن البشر، فيما جرى العكس في مناطق أخرى. ومع تسارع تلك الميول، فستعمل على تحفيز الجهود التي تبذلها القوى الكبرى لحيازة مناطق وأقاليم جديدة.
وعلى رغم استحالة التنبؤ الحاسم بمكان وزمان تأهب دول معينة للمضي في حرب من أجل الأرض، فإن الميول السائدة في البيئة اليوم توحي بأن إمكانات العدوان آتية. وتحدق بالصين أخطار جدية متأتية من تغير المناخ تشمل ارتفاع مستويات مياه البحار وأحوال الطقس المتطرفة في المناطق الساحلية وفيضانات الأنهار الكبرى وتصحر المناطق الشمالية في تلك البلاد. لذا قد تحاول الصين تأمين الموارد، والأراضي القابلة للسكن، والأفضلية في الجغرافيا السياسية، عبر حملات عسكرية في جنوب شرقي آسيا، والاستيلاء على مواقع في جزر، أو حتى اقتناص قطع من شرق روسيا أو كوريا الشمالية. وتتجه نيجيريا لأن تكون أكثر اكتظاظاً بالسكان من الصين مع حلول نهاية القرن الجاري، مما قد يحول أفريقيا الوسطى إلى صاعق تفجير. وفيما يجلب تغير المناخ معه فيضانات وفترات جفاف وموجات حرارة قائظة، وتخريباً للزراعة ونزوحاً لمجموعات سكانية، فإن نيجيريا قد تجد نفسها محتاجة إلى مزيد من الموارد لإعالة الأعداد المتكاثرة من سكانها، لذا فقد تضع أعينها على بلدان مجاورة بهدف الاستيلاء عليها. وفي الوقت نفسه قد توسع روسيا نفوذها في دول بحر البلطيق وبلدان كالنرويج، بهدف تأمين ممرات الملاحة البحرية الشمالية وتوسيع مدى وصولها إلى البحار. وقد تفعل روسيا الأمر نفسه في القارة المتجمدة الجنوبية، مما يمهد لصراع مع قوى كبرى أخرى تنشط في تلك المنطقة نفسها. وقد تتأذى الولايات المتحدة من أزمات المناخ في مناطق كسواحل فلوريدا، وكاليفورنيا المنكشفة أمام الحرائق الكبرى، والجنوب الغربي المهدد بضربات الجفاف. وربما تعمل تلك المعطيات على دفع واشنطن إلى العمل بموجب طموحاتها الإقليمية في الأقاليم الشمالية بما في ذلك غرينلاند وحتى أقسام من كندا.
وفعلياً، بأثر من اشتعال التنافس بين القوى الكبرى، شرعت الاتفاقات والتحالفات الدولية في التضعضع، ولسوف تجهد في احتواء تلك الصراعات. وفي عالم تصنع القوة فيه الحق، فإن الدول ستجد نفسها منتظمة في السعي إلى اكتساب أراضٍ جديدة، لذا فقد لا تتردد في استعمال القوة للحصول عليها. ومع تذكر أن التأثيرات الأكثر دراماتيكية لتغير المناخ لا تزال رهن المستقبل، فإن السباق من أجل الأرض يعيش لحظة البداية فيه.
مايكل ألبرتوس، هو بروفيسور علم السياسة في "جامعة شيكاغو" ومؤلف كتاب "قوة الأرض: من يملكها، من يفتقدها، وكيف يحدد ذلك مصير المجتمعات".
مترجم عن "فورين أفيرز"، 4 مارس (آذار) 2025