ملخص
لا تزال رواية "القصر المسحور" التي كتبها طه حسين وتوفيق الحكيم معاً، من دون أن يكشفا أسرار هذه اللعبة الكتابية المشتركة، تطرح أسئلة كثيرة، حول المشروع نفسه واللقاء الذي جمع بين كاتبين مختلفين واحدهما عن الآخر، تمام الاختلاف. صدرت الرواية العام 1936 وبطلتها شهرزاد، التي كتب عنها كلاهما رواية على حدة.
كان طه حسين ملء السمع والبصر حين أصدر الأديب الشاب وقتذاك، توفيق الحكيم مسرحيته "أهل الكهف" عام 1923 فاعتبرها طه حسين فتحاً في باب التمثيلية الأدبية، وكتب عنها الشيخ مصطفى عبدالرازق والعقاد والمازني. وهو ما أكد موهبة الحكيم الكبيرة وبشر بميلاد كاتب كبير، مما جعل علاقته بطه حسين متراوحة بين الصداقة والفتور لنفور الحكيم من فكرة التبني والتشجيع. لكن الصداقة كانت الغالبة نظراً لوجود سمات مشتركة بين الشخصين منها أنهما أصيبا في الصغر بداء في العين وعولجا عند حلاق الصحة الذي أفسد عين العميد ونجح – مصادفة – في إنقاذ الحكيم. ومنها أيضاً نزعة التمرد، الأول على جمود الأزهر وطرق تدريسه، والثاني على دراسة القانون للحصول على الدكتوراه، وأخيراً سفرهما إلى فرنسا مما يعني انتماءهما إلى الثقافة الفرنكفونية.
شهرزاد تصلح بينهما
عندما أصدر توفيق الحكيم مسرحيته "شهرزاد" قال العميد إن مؤلفها في حاجة إلى مزيد من القراءة الفلسفية، فيرد الحكيم أنه قرأ في الفلسفة أضعاف ما قرأ العميد. وبعد فترة يكتب طه حسين "أحلام شهرزاد" ربما محاكاة ومعارضة لكتاب الحكيم. ومع الوقت إذا بشهرزاد تجمع بينهما في "القصر المسحور" الذي يعد من الأعمال الرائدة التي تجمع بين مؤلفين، وتتميز بكتابتها الموجزة القائمة على مضاعفة طرق تقطيع السرد وابتكار طرق جديدة لكسره.
صدرت "القصر المسحور" عام 1936 مستوحية أحداثها من عالم "ألف ليلة وليلة"، إذ شهرزاد وشهريار والسياف وقمر العاشق المتيم... وبهذا الاعتبار تعود شهرزاد – تخييلياً - لتحاكم توفيق الحكيم على ما كتبه في مسرحية "شهرزاد" فينصفه طه حسين تارة وينحاز لها تارة أخرى. ويتكون العمل من الإهداء الذي كتبه العميد إلى زوجه سوزان حين يقول "إلى التي كانت تشيع ذهابنا إلى القصر المسحور، وتتلقى عودتنا منه بنظرات حائرة وبسمات ساخرة، ولكن فيها مع ذلك الرحمة والإشفاق والتشجيع، لأنها تعرف كيف تحيي زهرات الأدب وتبعث نشاط الأدباء... إلى مدام طه حسين نرفع حديث القصر المسحور". توفيق الحكيم وطه حسين 1936. وعلى رغم أن الإهداء منسوب إلى الاثنين فلا شك أن الذي كتبه – أو بالأحرى أملاه - هو طه حسين وندرك ذلك من خلال تلك الإشارة العابرة حين يقول إنه يرفع إليها "حديث" القصر المسحور، فهو لم يقل كتاب بل حديث بوصفه متكلماً لا كاتباً، وهو ما أشار إليه عز الدين إسماعيل في مقالة بعنوان "أنا المتحدث طه حسين" كوصف للعميد في أعماله كلها. ثم تتوالى الفصول بعد ذلك وهي سمير شهرزاد وسجين شهرزاد ومن شهرزاد وإلى شهرزاد، وفي الحمام وثورة الأشباح ومحنة توفيق الحكيم وفي حضرة شهرزاد والقلق على توفيق الحكيم وشكوى شهرزاد ومواساة شهرزاد، وفي الحبس الاحتياطي والمحاكمة والدفاع وغضب شهرزاد وحكم الزمان. وأحرص على ذكر عناوين الفصول كلها لكي نلاحظ أمرين، الأول كثرة هذه الفصول وقصرها وهو ما أشرنا إليه من أن الأعمال المشتركة تعتمد على تقطيع السرد واختزاله، والثاني الاعتماد على البنية الزمنية السببية بحيث يسلم كل فصل إلى الآخر بوصفه سبباً له. ففكرة التقطيع لم تلغ – في هذا العمل – البنية الحكائية المتطورة تعاقبياً. والحق أن هذا العمل يجمع بين الخيال مثل عودة شهرزاد وشهريار والسياف، والحقيقة مثل الإشارة إلى الأماكن والشخصيات المعاصرة وهي باريس وجبال الألب والقاهرة والعراق وطه حسين وأعماله ("الأيام" و"في الصيف" و"على هامش السيرة")، وتوفيق الحكيم وأعماله ("شهرزاد" و"أهل الكهف" و"عودة الروح").
حيلة الدخول إلى النص
يخترع الكاتبان هذه الحيلة لتكون عتبة الدخول إلى النص، وهي أن شهرزاد تكتب رسالة إلى طه حسين تشكو له ضيق حالها وذهاب النوم عنها لأيام منذ أن خرج شهريار في قضاء حاجة ولم يعد إليها. فينصحها العميد بأن تتخذ من صديقه توفيق الحكيم سميراً لها حتى يذهب عنها الضيق والملل. فتعهد شهرزاد إلى رجالها باختطاف الحكيم لأنه خير من يعرفها، وبعد اختطافه تلاحظ أنه يعرض عنها ويرفض القيام بهذه المهمة فتثور غاضبة فلا تجد سبباً لإعراض أي رجل عنها، وهي الجميلة صاحبة الحكايات المشوقة الفاتنة. وهكذا يأخذ هذا العمل صورة المساجلات بين توفيق الحكيم وطه حسين وشهرزاد، فيصف طه حسين أسلوب الحكيم – مثلاً - بأنه يجمع بين التعقيد والسلاسة كما أنه – أي الحكيم – يبدو "يقظاناً كالنائم وحاضراً كالغائب وغائباً كالحاضر، ودائماً يكون مفتوناً بما يرى حتى إذا اطمأن به المكان أخذ يتحدث، فإذا هو دهش لكل شيء، سائل عن كل شيء، عارف بكل شيء". ثم يقول إنه سعيد راض مبتهج مغتبط يزور الجبال للمرة الأولى ويستكشف في الغابة شجر البندق للمرة الأولى، ورأى كذلك في بلاد الغرب الثلوج تغطي الجبال. وكان يقرأ ذلك في الكتب ولم يتوقع أنه سيراه يوماً ما، فلما رآه سعد في نفسه فرحاً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا الشاهد يحمل دلالة واضحة على أسلوب طه حسين القائم على الإسهاب والتكرار وكثرة المترادفات التي تغني كلمة واحدة منها عن بقية الكلمات (سعيد وراض ومبتهج ومغتبط)، والتضاد (يقظان كالنائم وحاضر كالغائب وغائب كالحاضر). ويمكن وصف هذا الأسلوب عموماً بأنه أسلوب بياني وإن كان لا يخلو بطبيعة الحال من الفكر. بينما يتخلص أسلوب توفيق الحكيم من كل هذا حين يصف طه حسين بأنه "شخص شديد الدهاء، في كلامه وابتسامه شيء ينم عن سر مبهم وغرض خفي". ويرى أنه "صلب الرأي عنيد، لا شيء يثنيه عن اقتحام الأخطار وارتياد المجاهل، هذه الصلابة التي عرضته أحياناً إلى ما يكره". وهذا وصف مباشر حقيقي ويحمل إشارة إلى ما تعرض له طه حسين في محنة كتابه "في الشعر الجاهلي".
البناء البلوفيني
ما أشرنا إليه من تباين الأساليب يوضح طبيعة هذا العمل البلوفينية، فإذا كان أسلوب طه حسين بيانياً كما أوضحنا فإن فيه كثيراً من التعابير التراثية مثل المثل القائل "من مأمنه يؤتى الحذر"، والأسلوب المجازي حين يصف شهرزاد بقوله "شهرزاد تتمطى بجسمها الممشوق كالحسام بين وسائدها الحريرية". والإيقاعية المتمثلة في قصر العبارات وتتابعها وتشابهها مثل قوله "أصبحت سريع الغضب، سريع الرضا، سريع الانفعال بوجه عام". وتضمين الشعر مثل بيت أبي العلاء المعري "ولو طار جبريل بقية عمره/ من الهرم ما اسطاع الخروج من الدهر"، أو قول المتنبي "أعزمي طال هذا الليل فانظر/ أمنك الصبح يفرق أن يؤوبا". وتضمين الأمثال الشعبية مثل "من خرج من داره قل مقداره". ويخلو الوصف عنده من الرؤية البصرية وقد اعتاده أساساً على حاسة السمع مثل "من أجل هذا كله عبرت البحر ومررت بباريس حراً سريعاً كأنه مر الطيف". فهو لا يذكر – مثلاً - ألوان البحر وحركة أمواجه من خلال البصر. أو قوله "انقطعت الصلة بيننا وبين العالم الخارجي حتى ما نسمع هفيف الريح ولا حفيف الأغصان". فالمتصدر هنا هو حاسة السمع. أما أسلوب الحكيم فيعتمد على السخرية بدرجة كبيرة وخفة الظل التي تدفع إلى الضحك. تقول له شهرزاد ساخرة، لقد قاومت خاطفيك مقاومة "الهزبر" وهذا عكس استسلامه السريع المضحك فيقول لها "فعلت ما استطعت ولكن الكثرة تغلب الشجاعة". فترد شهرزاد وهي تخفي ضحكها "صدقت أيها الشجاع". وتتضح الرؤية البصرية على أوصافه حين يصف عيني شهرزاد بأنهما "خضراوان كعيون القطط والسنانير" ويصف الغابات بأنها "خضراء" وقمة سفح الجبل بالألوان "البيضاء".
وأخيراً تظهر الطبيعة التأملية عند الحكيم في رؤيته للزمن في قوله "إن الزمن لا يذعن لما نريد، وإنه كثير التقلب والجموح، يطيل الليل إذا أراد ويقصره إن أحب". وطبيعة الفن حين يقول "ليس من حق أحد أن يرفض صورة وضعها مبدع لأنها قبيحة أو مليحة". إن للمبدع أن يظهر أشخاصه على أي وجه يريد ما دام فيها حياة نابضة. ولا شك أن هذا عمل نابض بالحياة والمتعة، التقى فيه اثنان من كبار أدبائنا باعدت بينهما شهرزاد ثم جمعتهما.