ملخص
يصعب تحديد الحجم الدقيق للسوق السوداء، لكن التقديرات الأخيرة لمنظمات الأمم المتحدة تفيد بالأرقام التقريبية مع هوامش عالية من الخطأ بأن قيمة السوق غير الشرعية تجاوزت987 مليار دولار، وتتصدر الولايات المتحدة لائحة السوق السوداء الأعلى قيمة، تليها اليابان ثم الصين.
يبدو أن السوق السوداء لا تزال ظاهرة معقدة على التفسير الاقتصادي بسبب غياب الإحصاءات وندرة الأرقام الصحيحة المتعلقة بها، ولأنها سوداء لا يمكن ضبطها، ولكن ما اتفق عليه حتى الآن أنها تنشأ عندما تفرض الحكومات قيوداً على الأسعار أو تمنع تداول سلع وخدمات معينة، مما يدفع الأفراد والشبكات غير الشرعية إلى توفيرها بطرق ملتوية، أو أنها تنشأ بسبب بالحروب والأزمات، وهناك حالات تنشأ فيها السوق السوداء من الفقر والبطالة، فيما ترتبط بعضها بتبييض الأموال والجريمة المنظمة والتجارة بالمواد غير المشروعة وتجارة البشر والمخدرات والسلاح.
وبات من المتفق عليه أن السوق السوداء بمثابة "اقتصاد الظل" العالمي أو "الاقتصاد السري" لأنها تعمل خارج نطاق التنظيم الحكومي أو الشرعي، مما يعني أن المعاملات الاقتصادية فيها لا تُسجل رسمياً بهدف تجنب دفع الضرائب وإخفاء الدخل ومصادره، لجمع الثروات غير الشرعية ولتوفير منتجات شرعية أو غير شرعية بعيداً من أعين الرقابة الرسمية.
آليات تشكل السوق السوداء
إذا فرضت السلطات سعراً ثابتاً لبيع الأدوية بعد مرض فيروسي معين، يؤدي ذلك إلى نفاد هذه الأدوية بسرعة، وهو ما يدفع بعض التجار المحتكرين إلى بيع هذه الأدوية بأسعار أعلى في سوق غير شرعية.
هذه الظاهرة ليست مقتصرة على الأدوية أو المواد الأساس التي قد يحتاج إليها عدد كبير من الناس في الوقت عينه فحسب، بل قد تشمل العملة الصعبة إذ تلجأ دول عدة إلى تقييد عمليات الصرف الأجنبي، مما يؤدي إلى انتشار المضاربة وخلق أسعار موازية أعلى بكثير من السعر الرسمي، وهناك الحالات التي ترتفع فيها البطالة إذ يلجأ بعض العمال إلى البحث عن فرص عمل في "الاقتصاد السري" ويعملون خارج الإطار الرسمي، مما يحرمهم من أية ضمانات قانونية أو اجتماعية.
وتلعب الأزمات والحروب دوراً رئيساً في نشوء الأسواق السوداء، حين يندفع الناس إلى تجار السوق السوداء للحصول على ما هو غير متوافر في السوق الرسمية أو الممنوع تداوله فيها، حتى ولو كانت الأسعار مرتفعة جداً، ويتمدد هذا الاستغلال للأوضاع الاقتصادية إلى أن يقدم تجار السوق السوداء على الاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين وبيع المخدرات والاتجار بالأعضاء البشرية، وكذلك تجارة الأدوية المزورة التي تنتشر بصورة واسعة في الأسواق السوداء، خصوصاً داخل الدول الفقيرة.
وتشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أن 50 في المئة من الأدوية المبيعة عبر الإنترنت مزورة، بينما تصل نسبة الأدوية المزيفة في أفريقيا وأميركا اللاتينية إلى 30 في المئة وداخل دول الاتحاد السوفياتي السابق إلى 20 في المئة، وغالباً ما تكون هذه الأدوية مزورة وبلا فعالية، وقد تحوي مواد سامة قد تؤدي إلى الموت.
ومع انتشار الإنترنت، انتقل عدد من أنشطة السوق السوداء إلى الفضاء الإلكتروني، إذ تُنفذ المعاملات باستخدام العملات الرقمية التي تضمن إخفاء الهوية، وتستخدم في هذه العمليات مواقع إلكترونية تسمى المواقع المظلمة (Dark Web)مما يجعل من الصعب تعقب هذه الأنشطة وإيقافها.
وقد تلجأ دول كثيرة إلى القوانين الصارمة لوقف العمل في السوق السوداء إلا أن هذه القوانين نفسها هي التي تؤدي أحياناً إلى تقوية الأسواق السوداء، حيث تخلق أنواع الحظر بيئة مناسبة لازدهار التجارة غير المشروعة تديرها شبكات قوية قادرة على التهرب من الرقابة والعقوبات وعلى معرفة بالثغرات القانونية وكيفية العبور من خلالها للتهرب من الرقابة، فعلى سبيل المثال فإن سوق المخدرات السوداء ناتجة مباشرة من منع بيع المخدرات، والأمر نفسه بالنسبة للأسلحة والآثار المهربة وتجارة الأعضاء البشرية، فمثل هذه المنتجات التي يحتاج إليها عدد كبير من جامعيها والذين يكونون من الأثرياء، تجد سبيلها إليهم بالطرق غير المشروعة.
أما سوق السجائر المهربة فتظهر بسبب فرض الضرائب العالية على استهلاك التبغ، مما يدفع بعض المستهلكين إلى التهرب من دفعها عبر شرائها بطريقة غير قانونية، وفي معظم هذه الحالات التي تنشأ عنها السوق السوداء يساعد انتشار الفساد في المؤسسات الحكومية على تسهيل التجارة غير المشروعة من خلال الرشى أو غض الطرف عن الأنشطة غير القانونية، فالفساد الإداري في المؤسسات الموكل إليها مراقبة السوق السوداء يلعب دوراً كبيراً في تضخمها والعجز عن ضبطها.
ويظهر في الإحصاءات العالمية أن أكبر الأسواق السوداء ربحاً ترتبط بتجارة المخدرات ثم الاتجار بالأسلحة، وتأتي في المرتبة الثالثة تجارة السلع المقلدة ومن بعدها المقامرة غير القانونية في بعض الدول التي تفرض قيوداً على الألعاب والمراهنات.
ومن الأسواق السوداء التي برزت خلال العقود القليلة الماضية جاء التعدين غير القانوني وقطع الأشجار في درجات متقدمة، خصوصاً في بعض الدول الأفريقية مما يتسبب في أضرار بيئية جسيمة، أما السوق السوداء المرتبطة بالعملات فإنها تعد سوقاً متكاملة القوة والحجم وحدها خصوصاً في الدول التي تفرض قيوداً على سعر الصرف، كما هي الحال في الأرجنتين وفنزويلا وبعض دول شمال أفريقيا.
وتعد تجارة السجائر المهربة من أكثر أنشطة السوق السوداء رواجاً، إذ تباع أكثر من 200 مليار سيجارة سنوياً في الأسواق غير الرسمية على رغم تشديد الرقابة الجمركية، ولا تزال بعض الدول مثل الصين وأوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية مراكز رئيسة لتصنيع السجائر المقلدة، وتصل قيمة هذه التجارة إلى مئات مليارات من الدولارات.
الاتجار بالبشر سوق سوداء مربحة
تشهد البلدان الأفقر حول العالم، لا سيما في أفريقيا وجنوب شرقي آسيا، تصاعداً في عمليات تهريب البشر إلى الدول الصناعية المتقدمة، حيث يدفع المهاجرون غير الشرعيين مبالغ طائلة لشبكات التهريب ليجدوا أنفسهم في النهاية فريسة للاستغلال والقهر، حيث يعيشون في ظروف صعبة ويعملون في وظائف شاقة بأجور زهيدة.
وتفتح سوق الهجرة غير الشرعية التي انتشرت أنباؤها بقوة في العقدين الأخيرين، بسبب غرق آلاف المهاجرين في البحر المتوسط في محاولة وصولهم إلى شواطىء أوروبا، وكذلك في بحر القنال الإنجليزي لمحاولي العبور نحو المملكة المتحدة، يفتح هذا النوع من التهريب الباب أمام سوق أكثر دموية وعنفاً واستغلالاً للفقر والحاجة والعوز، وهي سوق تجارة الأعضاء البشرية التي باتت من أكثر صور السوق السوداء وحشية.
ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية، فإن تجارة الأعضاء تشمل الكلى وصمامات القلب والقرنيات وأجزاء من الدماغ، إذ تنشط شبكات مافيا متكاملة تضم أطباء وممرضين ومديري مستشفيات وحتى سائقي سيارات إسعاف، وتصل أسعار الأعضاء البشرية إلى أرقام خيالية، ففي الهند ومولدوفا، يباع العضو الواحد مقابل 200 إلى 3000 دولار، بينما تراوح كلف زرعه بين 10 آلاف و200 ألف دولار في دول مثل روسيا والولايات المتحدة، وتشير التقديرات إلى أن ما يقارب 40 ألف مريض أوروبي ينتظرون زراعة كلية، مما يخلق طلباً هائلاً على هذه التجارة غير المشروعة.
والأمر الأسوأ في تمرير هذه التجارة بأساليب شرعية أن بعض تجار السوق السوداء استخدموا القوانين التي تسمح بتبني الأطفال في كثير من الدول الفقيرة للقيام بعمليات تبني مزيفة للأطفال الذين يُستغلون في تجارة الأعضاء أو يُستعبدون جنسياً، وتقدر قيمة سوق الاتجار في البشر والأعضاء بنحو 42.5 مليار دولار سنوياً.
ويدخل في إطار العبودية الحديثة الاتجار بالعمال غير الشرعيين، إذ باتت العمالة غير الشرعية أحد أبرز مظاهر السوق السوداء وتحديداً في أوروبا، حيث يُستغل العمال في ظروف عمل قاسية تمتد ساعاتها إلى 16 أو 18 ساعة يومياً بأجور متدنية، ومن دون أية ضمانات صحية أو اجتماعية، ويعيش هؤلاء العمال في مساكن مكتظة وغير صحية، ويتعرضون للفصل التعسفي والابتزاز من قبل مشغليهم الذين يهددونهم بإبلاغ السلطات عن إقامتهم غير الشرعية.
وتعد تجارة الأسلحة الخفيفة من أكثر القطاعات رواجاً في السوق السوداء، إذ تصل عائداتها إلى نحو 10 مليارات دولار سنوياً وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة، أي ما يعادل 10 إلى 20 في المئة من إجمال تجارة الأسلحة الخفيفة في العالم.
وتستخدم عائدات تهريب الماس في أفريقيا والتي تقدر بنحو 280 مليون دولار في تمويل عمليات شراء الأسلحة، مما يسهم في استمرار النزاعات المسلحة، كما تسهم هذه التجارة في زيادة معدلات الجريمة المنظمة، إذ تعتمد المافيا الدولية على الأسلحة المهربة لتعزيز نفوذها وحماية أنشطتها غير القانونية.
ويصعب تحديد الحجم الدقيق للسوق السوداء، لكن التقديرات الأخيرة لمنظمات الأمم المتحدة تفيد بالأرقام التقريبية مع هوامش عالية من الخطأ بأن قيمة السوق غير الشرعية تجاوزت987 مليار دولار، توزعت على سوق تقليد السلع والقرصنة والتي بلغت قيمتها نحو 518 مليار دولار، أما تجارة المخدرات فتقدر سوقها بنحو 321مليار دولار، وسوق الاتجار بالبشر بلغت تقريباً32 مليار دولار، وهذا الرقم قد يكون أقل بكثير مما هو في الحقيقة.
وبلغت الأدوية المقلدة 40 مليار دولار والأسلحة الخفيفة10 مليارات دولار والسجائر المهربة 27.75 مليار دولار، وتتصدر الولايات المتحدة لائحة السوق السوداء الأعلى قيمة بحجم يصل إلى290 مليار دولار، وتليها اليابان بمبلغ كبير جداً بالنسبة لحجمها وهو 84 ملياراً ثم الصين 79.5 مليار، بينما لا يتجاوز حجم السوق السوداء في الشرق الأوسط 4.73 مليار دولار.