ملخص
ترى مرغريت يورسنار أن على الكاتب ألا يكف أبداً عن حفر موضوعاته وتعميقها وعن تأکید أسلوبه وإعادة تأكيده. المهم هنا أن نعود ولو بشيء من الاختزال إلى الشخصيتين التاريخيتين اللتين اختارتهما يورسنار مرآة مزدوجة لها.
حين رحلت في الشهير الأخير من عام 1987 الكاتبة الفرنسية – البلجيكية مرغريت يورسنار، هناك بعيداً في عزلتها بالجزيرة الصغيرة التي اختارتها منذ ثلث قرن ويزيد موطناً رئيساً لها، في تلك البقعة الضائعة في الشمال الشرقي للولايات المتحدة، كان من الواضح أنها ماتت مطمئنة إلى تحقيق أحلامها التي حملتها منذ الصغر.
أحلام كانت تتقاسمها مع "رفيقين" لها على أية حال، كما كانت قد اعتادت أن تقول للمحيطين بها، هادريان وزينون. والحقيقة أن المحيطين يورسنار، كما حال قرائها، كانوا يعرفون أنها حين تتحدث عن هادريان وزينون، فإنما تتحدث في نهاية الأمر عن ذاتها، حتى وإن كانوا يعرفون أيضاً أن الأول هو الإمبراطور الروماني الذي يتصدر ومذكراته واحدة من رواياتها الكبرى "مذكرات هادريان"، فيما الثاني طبيب وعالم متنور من القرون الوسطى يتصدر روايتها "العمل باللون الأسود". وكانوا يعرفون أيضاً مدى ارتباط الكاتبة وبصورة غير عادية بالشخصيتين سواء كانتا في الأصل تاريخيتين أو متخيلتين.
رفيقان لحياة استثنائية
ارتباط غير عادي؟ بالتأكيد. ففي نهاية الأمر من قال إن مرغريت يورسنار كانت كاتبة عادية بين الكاتبات... هي التي كانت على الدوام مبدعة استثنائية في كتاباتها كما في حياتها، في علاقاتها كما في طفولتها، في رواياتها كما في اختياراتها وترجماتها. كانت باختصار، صاحبة واحد من تلك العقول الاستثنائية، وواحدة من قلة من الكتاب عدت حتى من قبل موتها، كاتبة كلاسيكية، بمعنيين، توجه موضوعاتها من ناحية توجهاً كلاسيكياً، ومن ناحية ثانية، معنى يتعلق بأسلوبها الذي أعاد للغة وللعقل اعتبارهما، في الوقت نفسه الذي وصل فيه الأدب معها إلى قمة الذاتية. إنما من دون أن تضع ذاتها علناً في أي من كتبها، ولا حتى في سيرتها التي أصدرت منها جزأين توقف ثانيهما وهي بعد في السادسة من عمرها.
ومع هذا، هادريان في "مذكرات هادریان" هو مرغريت يورسنار و"زينون" في "العمل باللون الأسود" هو مرغريت يورسنار.. بل حتى الكسیس في "المعركة العبثية" هو الكاتبة نفسها، من دون أن ننسى أنها حتى في كتابها اللاحق "رؤية الفراغ " المتحدث عن الكاتب الياباني يوكيو ميشيما وعلاقة انتحاره بأدبه كما بالتاريخ الياباني جعلت منه مرآة لشخصيتها هي نفسها.
ولعل الطريف في هذا السياق، أن هذه الكاتبة العقلانية، نادراً ما رسمت هواجسها وأفكارها من طريق شخصيات نسائية... بل أصرت دائماً على أمرين، استقاء المواضيع من التاريخ الحقيقي، وتصوير ذاتها عبر تلك الشخصيات الرجالية الاستثنائية، إنما من دون أن تنسى التركيز على الجانب "الأنثوي" في شخصياتهم ذلك أن معظم "رجالها" كانوا، إلى ذكائهم واستثنائيتهم ومرورهم غير العادي على الأرض، مثليين... فهل لهذا دلالة ما؟
في مجمع الخالدين
المهم أن مرور مرغريت يورسنار على القرن الـ20 لم يكن عادياً، ولعل هذا السبب هو الذي جعل خالدي الأكاديمية الفرنسية، الذين ظلوا ثلاثة قرون ونصف القرن يرفضون للنساء أن يصبحن أعضاء في أكاديميتهم، يقبلون مرغريت يورسنار في أوائل الثمانينيات عضوة أنثى بشكل استثنائي ما فتح الطريق بعد ذلك لانضمام غيرها من المبدعات إلى مجمع الخالدين.
يبقى أن محبي أدب يورسنار، وهم كثر، كان من حقهم أن يتساءلوا دائماً عن السبب الذي جعل جائزة نوبل تحجب عن صاحبة "ضربة الرحمة" و"مذكرات هادریان"، مع أن اسمها ظل يطرح مراراً وتكراراً ومنذ 25 عاماً سبقت رحيلها، في الأقل من بين الأسماء المرشحة لتلك الجائزة.
مرغريت يورسنار واسمها الأصلي مرغريت دي غلاينكور، ولدت عام 1903 في بلجيكا لأب فرنسي وأم من عائلة بلجيكية عريقة. وأمضت طفولتها بعد موت أمها في المناطق المحيطة بمدينة ليل في الشمال الفرنسي حيث تولت جدتها تربيتها من دون إلحاقها بأية مدرسة، مما مكنها من أن تتعلم وحدها الإنجليزية واللاتينية واليونانية إذ تمكنت من الحصول على الباكالوريا وقامت وهي في الـ16 بجولة في أوروبا عادت منها وقد قررت أن تخوض مجال الكتابة. بمعنى أن الفتاة التي لم تتلقَ أبداً أي تعليم مدرسي منتظم، لكنها تمكنت وهي في الـ16 من عمرها، وكانت تقيم في مدينة أيكس آن بروفانس في الجنوب الفرنسي آنذاك، ليس فقط من أن تنال شهادة البكالوريا بل كذلك من أن تقرر أن تكتب.
هادريان وزينون
إذاً، في ذلك الحين من عمرها كانت مرغريت قد بدأت تفكر في الأدب بصورة جدية... وبعد ذلك بفترة قليلة قيض لها وتحديداً من خلال قراءاتها وشغفها بالتاريخ، أن تكتشف بعمق تينك الشخصيتين اللتين ستطبعانها إلى الأبد، شخصية الإمبراطور الروماني من ناحية، وشخصية طبيب العصور الوسطى، من ناحية ثانية.. وهي ما إن اكتشفت هاتين الشخصيتين، حتى راحت أحلامها الأدبية تتحلق في فضاء حياتها. وربما كان من الحتمي لنا أن نقول، بكل بساطة، إن مرغريت، منذ مراهقتها، اختارت الشخصيتين الكبيرتين لتجعلهما رفيقين وهميين لحياتها، وموضوعاً لأحلام يقظتها. والحال أن هادریان وزينون، راحا يتطوران في وعيها أكثر وأكثر بمقدار ما كانت تكتسب مع مرور الوقت معرفة أکثر وخبرة أكبر في عالمي الأدب والحياة.
ومرغريت تبدت في ما بعد، وعلى الدوام ككاتبة، بعيدة كل البعد من الاستلهامات المفاجئة والمباغتة، قريبة من صورة الفنان الذي يبقي العمل يتطور وينمو في خياله طويلاً، وطويلاً جداً قبل ظهوره على الملأ. ومن المعروف عن هذه الكاتبة أنها أبداً لم تنظر إلى أي من أعمالها الأدبية على أنه عمل کتب وانتهى أمره مرة واحدة.. بل على إنه عمل ينبغي كتابته وإعادة كتابته باستمرار.
ومن هنا ما نلاحظه من أن الطبعات الجديدة لكتبها سرعان ما تتبدى على شكل كتابة جديدة لتلك الكتب، وفي بعض الأحيان كتابة مختلفة عن الكتابة الأولى كل الاختلاف... وما هذا إلا لأن مرغريت يورسنار تری أن على الكاتب ألا يكف أبداً عن حفر موضوعاته وتعميقها، وعن تأکید أسلوبه وإعادة تأكيده. المهم هنا أن نعود ولو بشيء من الاختزال إلى تينك الشخصيتين التاريخيتين اللتين اختارتهما يورسنار مرآة مزدوجة لها.
أسئلة بين زمنين
في اختصار إذاً، يمكننا أن نقول إن هادريان في "مذكراته" إنما كان راوية ذلك التاريخ الذي أعادت يورسنار اختراعه والمتعلق بمرحلة من تاريخ الإمبراطورية الرومانية في لوحة تمثلت من خلال رسالة طويلة يكتبها ذاك الذي كان من ألمع الأباطرة الرومانيين، موجهة كوصية إلى خليفته ماركوس أورليوس. وهي رسالة تمكن القارئ من الغوص في حميمية رجل دولة من البناة، يصفها بنفسه في الحقبة الأخيرة من تلك الحياة بعدما فجع برحيل رفيقه الشاب أنطينوس.
والحال أن هذا النص، وبعيداً من سياقه التاريخي الذي نتعرف من خلاله على ما قام به هادريان من إعادة بناء الإمبراطورية، يضعنا في فصوله الستة أمام جملة من تساؤلات تتعلق بمرور الزمن وحتمية الفناء والبحث عن الحب ومعنى السلطة وصولاً إلى اعتبارات ميتافزيقية ومسائل مثل معرفة الذات للتوقف أخيراً عند ما يسميه هادريان "أسس بناء الحضارة".
والحقيقة أن هذه المسائل التي يطرحها هادريان في "مذكراته" ليست بعيدة من الأسئلة التي يطرحها زينون على نفسه ولكن بعد زمن طويل، أي خلال العصور الوسطى التي عاش في ظلماتها وفي أنوارها في آن معاً.
فزينون من ناحيته عالم إنساني تخبرنا رواية يورسنار أن بحوثه واختراعاته تبدوان شديدي التقدم على العلم الرسمي، ولكن يحدث له في أحيان كثيرة، أن يغض الطرف عما يؤمن به في صراعات يخوضها خلال تجواله ومعاناته أو في داخله هو الذي ترافقه في تجواله أمه هيلزوند وزوجها، اللذان يخوضان معه، ومن دونه أحياناً، جزءاً من الصراعات الدينية، مما ينعكس عليه دائماً... وكذلك يرافقه في بعض الأحيان ابن عمه الفارس هنري ماكسمليان، وقسيس تمزقه شرور هذا العالم وفوضاه. ومن الواضح أن كل هذه الشخصيات تلعب دوراً في حياة زينون وتمزقه، وتكاد كل منها تكون صورة لفكره ولمرحلة من مراحل حياته.
في النهاية، صورة لشكه الكبير الذي إذ يمزقه في نهاية الأمر ويدفعه إلى الانتحار في زنزانة في مشهد أخاذ بقوته ودلالته، يعرف أنه بموته قد ولد إنساناً من جديد. إنسان بسيط وعميق، كما يجدر بالإنسان أن يكون. ولد إنساناً؟ بالأحرى أعلن ولادة الإنسان.