ملخص
روبرت ألتمان، المخرج المتمرد في هوليوود، ترك إرثاً سينمائياً فريداً بأسلوبه المميز في السرد الجماعي والحوار المتداخل، مقدماً أفلاماً تتجاوز الأنماط التقليدية مثل "ناشفيل" و"ماش"، وعلى رغم التحديات التي واجهها وبعض الانتاجات غير الناجحة، ظل تأثيره حاضراً في السينما والتلفزيون، مُلهماً أجيالاً من المخرجين المعاصرين.
قال روبرت ألتمان ذات مرة "لم يسبق لأحد أن صنع فيلماً جيداً"، وعلى رغم ذلك كان هو نفسه قد أبدع عشرات الأفلام العظيمة، من بينها "ناشفيل" Nashville و"المستشفى العسكري الجراحي المتنقل" (ماش) M*A*S*H، و"منتزه غوسفورد" Gosford Park، إضافة إلى كثير من الأفلام الأخرى التي يمكن اعتبارها، وفقاً لمعظم المعايير، أعمالاً جيدة.
وما قصده المخرج الحائز جائزة الـ "أوسكار"، كما أوضح لاحقاً، هو أن السينما في نظره كانت دائماً مدينة لفنون أخرى، وأنها في سبعينيات القرن الماضي لم تكن قد تحررت بعد من قبضة المسرح لتصبح فناً قائماً بذاته لا يُضاهى، ومع ذلك فإن إرث ألتمان السينمائي يعد من أصفى التجارب السينمائية التي يمكن للمرء أن يشهدها، فقد تميزت أفلامه، التي غالباً ما كانت أشبه بلوحات فسيفسائية للحياة الأميركية يقودها طاقم تمثيلي جماعي، بفرادتها واستشرافها للمستقبل، إذ صبغت بصمته الإخراجية الواضحة على أنماط سينمائية منوعة، بدءاً من الكوميديا الساخرة المناهضة للحروب ومروراً بأفلام التحري من نمط النوار وأفلام الإثارة النفسية، وصولاً إلى أفلام الويسترن. كان ألتمان مخرجاً مستقلاً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، محاطاً بفريق من مبدعين مميزين من أصحاب الأساليب الفريدة، ومتمتعاً بقدرة شبه سحرية على تأمين التمويل لمشاريع غير متوقعة، وقد وصفته صحيفة "نيويورك تايمز" ذات مرة بـ "ملك القراصنة في صناعة السينما الأميركية"، وقد توفي ألتمان عام 2006 وكان سيكمل عامه الـ 100 الشهر الماضي، إلا أن تأثيره لا يزال يتردد في عدد من أعظم الأفلام الأميركية المعاصرة.
وبالمقارنة مع غيره من المخرجين الذين برزوا خلال ثورة "هوليوود الجديدة"، نجد ألتمان وقد حصل على تقدير أقل مما يستحق، فقد كان فيلمه "ماش" الصادر عام 1970 والذي شكل انطلاقته الحقيقية وحقق نجاحاً تجارياً لم يتمكن لاحقاً من تكراره، هو ما منحه قدراً من الشهرة في وقت بدأت أسماء المخرجين تكتسب بريقاً كان في السابق محصوراً على نجوم التمثيل، لكن تلك الشهرة لم تدم طويلاً، وبينما ترسخت أسماء معاصريه مثل ستيفن سبيلبرغ ومارتن سكورسيزي كأيقونات سينمائية معروفة في كل بيت، بقي اسم ألتمان مقتصراً على دوائر عشاق السينما الحقيقيين.
ربما لعب عامل العمر دوراً في ذلك، إذ إن ألتمان كان يكبر عدداً من مخرجي "هوليوود الجديدة"، مثل سكورسيزي وسبيلبرغ، بـ 20 عاماً، وهما اللذان واصلا تقديم أفلام ناجحة حتى القرن الـ 21، لكن هذا الفارق العمري لم يكن مجرد رقم، بل كان أيضاً جزءاً مما ميزه عن أقرانه، فقد حملت أفلامه نظرة إنسانية عميقة وحكمة مكتسبة، وكانت في معظمها أعمالاً موجهة للكبار.
قبل أن يحقق نجاحه مع "ماش" خاض ألتمان تجارب باكرة عدة في عالم السينما، إذ كان طيار قاذفة قنابل خلال الحرب العالمية الثانية، ثم كتب سيناريو فيلم النوار "الحارس الشخصي" Bodyguard عام 1948، وأنتج فيلماً وثائقياً عن جيمس دين، كما قدم أولى محاولاته الإخراجية الدرامية في فيلم "المنحرفون" The Delinquents عام 1957، إلا أن صقْل موهبته الحقيقية جاء من خلال عمله المكثف في إخراج الأفلام الصناعية والبرامج التلفزيونية، إضافة إلى تجربته في المسرح.
ولم يكن ألتمان الوحيد الذي بدأ مشواره من هذا الباب، فحتى سبيلبرغ نفسه كانت بدايته في التلفزيون عبر إخراج إحدى حلقات مسلسل "كولومبو" Columbo، ومع ذلك لم يعطِ ألتمان لهذه التجربة أهمية زائدة، بل كان ينظر إليها لاحقاً على أنها مجرد تدريب تقني علمه أساسات الحرفة من دون أن تترك بصمة إبداعية حقيقية في مسيرته، لكن تلك الأعوام الباكرة، بصورة أو أخرى، رسمت الملامح الأساس لما سيأتي لاحقاً، ويذكر أن ألفريد هيتشكوك رأى في ألتمان موهبة واعدة فأسند إليه إخراج حلقتين من مسلسله "ألفريد هيتشكوك يقدم" Alfred Hitchcock Presents منتصف الخمسينيات، وفي الوقت ذاته كانت تجاربه في إخراج الأفلام الصناعية ساحة لاختبار تقنيات صوتية غير تقليدية، من بينها "الحوار المتداخل" الطبيعي الذي أصبح لاحقاً بصمته الإخراجية المميزة، أما عمله في المسرح فقد ترك أثراً واضحاً في منتصف مسيرته السينمائية حين بدأ خلال الثمانينيات في اقتباس المسرحيات وتحويلها إلى أفلام سينمائية، وعندما قرر أخيراً خوض عالم السينما بصورة جادة لم يكن الانتقال سهلاً، فقد جرى الاستغناء عنه بعد انتهائه من تصوير فيلم الخيال العلمي "العد التنازلي" Countdown عام 1967، إذ اعتقد مديرو الاستوديو أن استخدامه للحوار المتداخل ليس سوى خطأ تقني يعكس ضعفاً في الحرفة. وفي عمله التالي الفيلم الدرامي النفسي "ذلك اليوم البارد في الحديقة" That Cold Day in the Park، تمكن ألتمان في الأقل من إكمال المشروع، لكنه قوبل بمراجعات نقدية قاسية، ثم جاء عام 1970 ومعه نقطة التحول الكبرى "ماش".
كان الفيلم دراما كوميدية ساخرة عن الحرب من بطولة دونالد ساذرلاند وتوم سكيريت وإليوت غولد، إذ تناول "حرب فيتنام" من خلال عدسة الحرب الكورية، وقد رفض عدد من المخرجين العمل على هذا المشروع قبل أن يصل إلى يدي ألتمان، ولا شك في أنهم ندموا على ذلك لاحقاً.
شكّل العقد الذي تلا ذلك واحدة من أعظم الفترات الإخراجية في تاريخ السينما، فقد قدم ألتمان خلاله سلسلة من الأفلام التي لا تزال تُعد من روائع الفن السابع ومن بينها "ماكيب والسيدة ميلر"McCabe & Mrs. Miller عام 1971، الذي جسد فيه وارن بيتي دور مقامر طموح، بينما لعبت جولي كريستي دور مديرة بيت دعارة، وهو فيلم ظل صامداً كواحد من أرقى أفلام الويسترن التجديدية، أما "الوداع الطويل" The Long Goodby الصادر عام 1973 الذي قدم رؤية ضعيفة لنمط أفلام النوار فقد حاز مكانة مرموقة داخل نوعه السينمائي، إذ لعب إليوت غولد، أحد أبرز المتعاونين الدائمين مع ألتمان، دور المحقق فيليب مارلو، ثم هناك "ناشفيل" الذي كان بمثابة نظرة واسعة النطاقن متأنية ومتعددة الطبقات، على عالم موسيقى الكانتري الأميركية، مقدماً عملاً ذا عمق اجتماعي وسياسي وعاطفي مذهل.
لكن الأهم من ذلك أن "ناشفيل" دفع بأسلوب ألتمان القائم على البطولة الجماعية، وهو نهج يتجنب وجود بطل محوري لمصلحة شبكة من الشخصيات المتشابكة إلى مستويات غير مسبوقة.
هذه الأفلام، إضافة إلى العمل المظلم والمقلق "ثلاث نساء" 3 Women الصادر عام 1977، تعد الأبرز في كنز ألتمان السينمائي خلال السبعينيات، لكن هناك أيضاً لآلئ سينمائية أقل شهرة مثل فيلم "بروستر ماكلاود" Brewster McCloud الصادر عام 1970، وهو عمل غريب وطموح تدور أحداثه حول شاب يؤدي دوره باد كورت ويحاول الطيران بأجنحة ميكانيكية، أو الفيلم الآسر "انقسام كاليفورنيا" California Split عام 1974، وهو دراما عن المقامرة من بطولة إليوت غولد مرة أخرى.
وعلى رغم اختلاف هذه الأفلام في طبيعتها لكنها كانت جميعها تحمل بصمة ألتمان الواضحة، تماماً كما يمكن التعرف فوراً على أفلام ويس أندرسون اليوم، وكما كتب روبرت كولكر في كتابه "سينما العزلة" A Cinema of Loneliness "بمجرد أن يُفهم [أسلوب ألتمان]، يمكن التعرف إليه في أي مشهد من أي فيلم يقدمه، يقف ألتمان إلى جانب [ستانلي] كوبريك كواحد من القلائل بين صانعي الأفلام الأميركيين الذين أثبتوا هشاشة مفهوم 'المخرج المؤلف' بوضوح متسق في أعمالهم".
توقفت تلك المسيرة الذهبية، وكذلك مكانة روبرت ألتمان داخل صناعة السينما، عند عتبة صعبة عام 1980 مع صدور فيلم "بوباي" Popeye، وكان الفيلم الذي يعد نسخة سينمائية غنائية من مسلسل الرسوم المتحركة الكلاسيكي من بطولة روبن ويليامز في دور البحار القوي الذي يزداد قوة بتناول السبانخ، مشروعاً معقداً من الأساس، فقد كانت ميول ألتمان نحو الحوارات الواقعية المغمغمة تتعارض مع الأسس التقليدية للأفلام الموسيقية، وعلى رغم أنه أعيد تقييم "بوباي" لاحقاً من قبل كثير من النقاد وعشاق ألتمان، لكنه كان كارثة في زمن صدوره وأدى إلى تراجع حضور المخرج بصورة ملحوظة في هوليوود خلال الثمانينيات.
لكن سيكون من المجحف تحميل "بوباي" مسؤولية هذا التراجع لوحده حتى في أوج عطائه، فلم تكن أفلام ألتمان المستقلة وغير التجارية خياراً مغرياً لكبار أستوديوهات هوليوود، ففي أواخر السبعينيات وأثناء تفاوضه على أحد مشاريعه، أخبره أحد المديرين التنفيذيين بصراحة "لا نريد أن يبدو هذا الفيلم وكأنه يحمل بصمة روبرت ألتمان أكثر من اللازم"، وكان ذلك مؤشراً على التحديات التي واجهها، وفي عام 1980 قدّم فيلم "صحة" HealtH ضمن صفقة مع أستوديوهات "فوكس" شملت أفلاماً عدة إلا أن الشركة رفضت توزيعه، ولم يستسلم ألتمان بل تولى بنفسه عرض الفيلم في الكليات والمهرجانات.
لكن وعلى رغم تعثره ظل ألتمان مخرجاً غزير الإنتاج، حتى لو أن معظم أفلامه في الثمانينيات تذكر بصورة خافتة، وبدأ يعود تدرجياً إلى الشاشة الصغيرة حين قدم أفلاماً تلفزيونية، إضافة إلى المسلسل السياسي الساخر "تانر 88" Tanner ’88 عام 1988، لكن عام 1992 قلب فيلمه "اللاعب"The Player، وهو هجاء حاد لصناعة السينما، الموازين لمصلحته ليعيده لقلوب الجماهير واهتمام صناعة الأفلام، وفي العام التالي قدم "اختصارات" Short Cuts، وهو اقتباس عبقري لقصص قصيرة عدة للكاتب ريموند كارفر، مما أثبت أن عودته لم تكن مجرد ضربة حظ، وعلى رغم أن سنواته الأخيرة شهدت بعض الإخفاقات لكنه أنهى مسيرته على قمة النجاح بفيلم "منتزه غوسفورد" عام 2001، وهو دراما جريمة تدور أحداثها في حقبة ماضية، ويعد أحد أفلامه التي نالت أكبر قدر من الإشادة، بينما جاء فيلمه الأخير "رفيق البيت الريفي" A Prairie Home Companion عام 2006 كتأمل أنيق في الموت، ومناسب تماماً كوداع سينمائي.
وأثناء تصوير "رفيق البيت الريفي" كان المخرج بول توماس أندرسون يراقب ألتمان عن كثب بعدما جرى توظيفه كبديل جاهز لتولي الإخراج في حال وفاة ألتمان أثناء الإنتاج، وكانت هذه الخطوة في حد ذاتها شهادة على مكانة ألتمان كواحد من رموز السينما المخضرمين آنذاك، إذ وافق أحد أكثر المخرجين الشباب إثارة في هوليوود على أن يكون مجرد بديل احتياط له، ولم يكن ذلك مستغرباً فقد كانت بصمة ألتمان الإبداعية واضحة في أعمال أندرسون البكارة، ولا سيما في ملحمته السينمائية متعددة الشخصيات عن لوس أنجليس "ماغنوليا" Magnolia الصادرة عام 1999، وكذلك في دراماه النابضة بالحياة عن عالم الأفلام الإباحية "ليال راقصة" Boogie Nights عام 1997.
أفلام أندرسون، بما فيها "رذيلة متأصلة" Inherent Vice، وهو فيلم سوداوي يسوده جو من الحنين والتأمل عن محقق مدمن، و"بيتزا العرقسوس" Licorice Pizza، وهي دراما رومانسية تدور حول فارق العمر بين الحبيبين، تعد من بين أبرز الأعمال الحديثة التي استلهمت أسلوب ألتمان وطبقته بمهارة، ومع ذلك فإن بصمات ألتمان الأسلوبية لم تقتصر على أعمال أندرسون، بل يمكن العثور عليها في أفلام مثل "أخرجوا السكاكين" Knives Out و"العجز الكبير" The Big Short وحتى "القائمة" The Menu، ناهيك عن أي عمل قائم على تعدد الشخصيات مثل أفلام أندرسون، كما أن دراما "ليلة عيد الميلاد في ميلرز بوينت" Christmas Eve in Miller’s Point، التي تعد أحد أبرز الأفلام المستقلة لعام 2024، تحمل في طياتها روح ألتمان بامتياز.
ولم يقتصر إرث ألتمان على السينما وحدها بل امتد أيضاً إلى بعض أعظم المسلسلات التلفزيونية، فمسلسل الويسترن "ديدوود" Deadwood الذي يعتبر واحداً من أفضل الأعمال الدرامية التلفزيونية على الإطلاق لم يكن ليبصر النور لولا فيلم "ماكيب والسيدة ميلر"، أما بصماته الإبداعية فتتجلى بوضوح في "ذا واير" The Wire، وفي الآونة الأخيرة في المسلسل الاستثنائي "اللعنة" The Curse الذي أبدعه نيثان فيلدر، وعلى رغم أن علاقة ألتمان مع التلفزيون كانت متذبذبة لكن المشهد التلفزيوني الحديث تأثر به تأثراً عميقاً بلا شك.
وقد يكون قول "لم يصنع أحد فيلماً جيداً" لا يزال صحيحاً، وفقاً للمعنى الذي قصده ألتمان، فربما ستظل السينما، خارج نطاق التجريب، مدينة للفنون الأخرى مثل المسرح والموسيقى والفن البصري، لكن هذا لا يهم، فقد كانت أفلام ألتمان زاخرة بالموسيقى ومفعمة بروح المسرح، وكانت بلا شك رائعة.
© The Independent