ملخص
في عام 2017 مني "داعش" بهزيمة كبيرة وخسر على إثرها عاصمة خلافته في مدينة الرقة، وبدأت دعائم قوته تترنح تحت الضربات التي كانت تأتيه من كل حدب وصوب، فمن غربه جيش النظام السوري وإيران، ومن شرقه الجيش العراقي و"الحشد الشعبي"، ومن شماله "قوات سوريا الديمقراطية"، ومن جنوبه القاعدة الأميركية في منطقة التنف، وفوق سمائه هدير طائرات روسية وأخرى أميركية وغيرها من التحالف الدولي.
مع بداية الحرب السورية عام 2011 اتسم الحراك الشعبي بالتظاهرات السلمية التي اجتاحت المدن والقرى، وسرعان ما تنامت وتداعت شريحة واسعة من السوريين للانضمام إليها، إلى أن ذلك الحراك قوبل بوحشية من الأجهزة الأمنية التي استخدمت الرصاص الحي لتفريق التظاهرات، كما استخدمت أسلوب الاعتقال العشوائي والتنكيل بالمتظاهرين كعامل ردع. وعملت، من خلف الستار، على زرع بذور الشقاق المناطقي بين أبناء المحافظات لتتمكن من فرزهم بين موال ومعارض، وسرعان ما اكتسب هذا الفرز صبغة طائفية أشعلت حرباً أهلية كان يرفض النظام السوري تسميتها بذلك مصراً على رواية "إرهابيين تخريبيين مندسين" في مواجهة قوى وطنية، وسارت الأمور على هذا النحو في العام الأول من الثورة، ورافقها بدء انشقاق ضباط وجنود عاملين في جيش النظام السوري عن المؤسسة، مشكلين نواة "الجيش الحر"، وكان كل تسليح يقابله تسليح مضاد، وبذلك، في الأقل، كان الصراع محلياً خالصاً بين السوريين في عامه الأول.
تبلور الصراع
مع انقضاء العام الأول من الحرب كانت حرب الشوارع بدأت بين الجهتين المتصارعتين تتخذ أبعاداً إقليمية ودولية واسعة على صعيد العمليات والتصريحات والدعم وتحريك الماكينات الإعلامية بما يخدم الأجندات المختلفة لكل طرف، والتي أدت، بمجملها، لشبه قطيعة دولية لنظام بشار الأسد تجلت في إغلاق معظم السفارات العربية والغربية وتبني الخطاب المعاكس لما كان يبثه عبر وسائل إعلامه عن مواجهات مع عصابات مسلحة.
بعد ذلك بدأت الأمور تتبلور أكثر وتتضح تسميات وتشكيلات وفصائل القتال المناوئة للأسد مع حال فلتان أمني وعسكري داخلي رافقه فلتان في ضبط مختلف حدود الجوار، مما أتاح فرصة ذهبية لدخول المسلحين الأجانب على خط الصراع، وأولئك الأجانب انقسموا إلى قسمين، أحدهما يناصر الأسد وآخرون الطرف الآخر من المعارضة، ولكن أي دور لعبه هؤلاء الغرباء؟
المسلحون الغرباء
في المرحلة الأولى من التدفق الأجنبي كان قوام معظم المسلحين الغرباء من العراق والأردن ولبنان وتركيا، وكان ذلك عام 2012، ومعظمهم كان ينتمي بشكل أو بآخر، من الناحية التنظيمية أو الفكرية أو العقائدية، إلى تنظيم "القاعدة"، وفي ذلك العام ظل التوافد محدوداً وغير مؤثر بشكل حاسم في مجريات الأمور على الأرض، إلى أن جاء عاما 2013 و2014 وهما العامان اللذان شهدا بزوغ نجم المسلحين الأجانب كماً وعديداً وفكراً وتنظيماً، ففي عام 2013 بدأت "جبهة النصرة" بالظهور على الساحة السورية كقوة تتبع لتنظيم "القاعدة"، وأخذت مكانها في صفوف المعارضة، وتزامناً بدأ بروز اسم تنظيم "داعش" على الساحتين السورية والعراقية، وكلاهما كان منارة لاستقطاب الإرهابيين الأجانب كمراكز ثقل أيديولوجية تسعى إلى تطبيق الشريعة. وفي عام 2014 وبعد تمكن التنظيم من السيطرة على أجزاء واسعة من العراق وسوريا أعلن عن قيام "دولة الخلافة" العابرة للحدود بقيادة زعيمها أبوبكر البغدادي الذي قتل لاحقاً على يد قوات التحالف الدولي.
"داعش" تفوق في استقطاب الأجانب
تفوق "داعش" على "جبهة النصرة" في آلية ومرونة وانسيابية التنظيم والاستقطاب والتسهيلات والمغريات المادية والدينية متمكناً من اختراق فضاء وسائل التواصل الاجتماعي عبر وكالة "أعماق" التابعة له، التي كانت تنفرد ببث عملياته الدموية، ودعواته، وأنشطته الحركية، وأساليبه القتالية التي دلت إلى أن من يقوم بها يتمتع بخبرات كبيرة.
وبهذا العنصر تحديداً تمكن "داعش" من التفوق قبل كل شيء، إذ كانت إصداراته المرئية كفيلة ببث الذعر في صفوف منافسيه، ليس ابتداء بنوعية الموسيقى وانتهاء بفحوى الفيديو نفسه وما يرتبط به من تقنيات بصرية لم تكن مألوفة قبل 10 أعوام، أي وقت كان ينشط التنظيم الذي كان يتعمد بث عمليات الإعدام والقتل والحرق مرسلاً رسائل في الاتجاهات كافة، مستهدفاً خصومه بالخوف، ومواليه بضرورة الانضمام إليه سريعاً "لإعلاء كلمة الحق وتطبيق حدود الشريعة في وجه من عاث فساداً في الأرض".
كان التنظيم تكفيرياً بامتياز لكل من لا يقاتل تحت إمرته، ويشمل ذلك "القاعدة" و"النصرة" وأي تنظيم إرهابي أو إسلامي أو معارض، وبالضرورة نظام الأسد وحلفاؤه ومختلف الأنظمة العالمية. وبذلك صنع بيئته الخاصة متمكناً فيها ومن خلالها من استقطاب معظم الإرهابيين حول العالم، ومجدداً كان إعلامه عدا عن نشاط الجمعيات السرية وبعض المساجد في الخارج، هو ما يلعب دور التعبئة.
ذروة قوته القتالية
في هذه المرحلة، 2014-2016، بلغ تنظيم "داعش" ذروة قوته القتالية الميدانية العسكرية والأمنية، وتمكن من استقطاب مزيد من المسلحين الأجانب من أوروبا وأميركا والقوقاز وآسيا الوسطى والشرقية والعالم العربي حتى بات تعداد مسلحيه بعشرات الآلاف، وقد اشتهر وتميز التنظيم عن سواه بامتلاكه أعداداً كبيرة للغاية من الانتحاريين والخبراء العسكريين القادمين من جبهات صراع أخرى بكل ما يحملونه من خبرات سابقة في قيادة المعارك وتنظيمها وأساليب التفخيخ والتفجير، وبهذه القدرات الميدانية الواسعة سيطروا على أجزاء واسعة من العراق بينها الموصل ونينوى والفلوجة ونمرود وغيرها، و70 في المئة من مساحة سوريا متخذين من مدينة الرقة الشرقية عاصمة لـ"الخلافة".
قال المتخصص في شؤون الجماعات الإسلامية عبدالمعين حمزة، إن التنظيم لم يتوقف عن استقطاب المسلحين منذ عام 2013 وحتى عام 2017، ولم يفشل في ذلك أو تتراجع وتيرته، بل كان ينجح على الدوام في الحصول على المزيد، وأضاف "ما ميز التنظيم هو أفكاره العابرة للحدود، مما شجع الأجانب على الانضمام إليه بغية استعادة أمجاد الخلافة الإسلامية، خلاف النصرة التي فكت ارتباطها بالقاعدة، وكانت تتراجع في موقفها المتطرف تباعاً، وترى أن الجهاد محصور في أرض الشام، وذلك أمر ليس مغرياً للحد المطلوب لشخص قادم من كندا مثلاً ليقيم حدود الله، كما أن التنظيم امتلك شرعيين مفوهين وقادة عسكريين محنكين صنعوا من داعش نفسه قنبلة قابلة للتفجر عبر آلاف الأجساد الانتحارية، والانغماسيون في المعارك قادرون على تغيير بوصلتها واتجاهها بل وحسمها". وختم حمزة "كان أي مقاتل في مرحلة قوة التنظيم يتمنى مواجهة جيش جرار ولا مواجهة بضع مئات من داعش لأنه يعلم أنه سيتعامل مع أناس قادمين للذبح والقتل والتفجير".
الهزيمة
في عام 2017 مني التنظيم بهزيمة كبيرة وخسر على إثرها عاصمة خلافته في مدينة الرقة، وبدأت دعائم قوته تترنح تحت الضربات التي كانت تأتيه من كل حدب وصوب، فمن غربه جيش النظام السوري وإيران، ومن شرقه الجيش العراقي و"الحشد الشعبي"، ومن شماله "قوات سوريا الديمقراطية" الكردية "قسد"، ومن جنوبه القاعدة الأميركية في منطقة التنف، وفوق سمائه هدير طائرات روسية وأخرى أميركية وغيرها من التحالف الدولي وكلها لا تهدأ في دك معاقله.
ورويداً رويداً بات التنظيم محاصراً في بقع جغرافية قليلة الامتداد، وبدأ المسلحون الأجانب يأنفون الانضمام إليه، حتى أجهزت القوات المشتركة عليه بالضربة القاضية في معركة الباغوز شرق سوريا عام 2019 قاتلة، خلال تلك المعركة والسنين التي سبقتها، الآلاف من مسلحيه، عدا عن الذين هربوا إلى بلدانهم الأصلية حيث يواجهون المحاكم هناك، وغيرهم ممن هربوا وفضلوا الالتحاق بجبهات ليبيا وأفغانستان، وآلاف آخرين اعتقلتهم "قسد" وأودعتهم في سجونها شمال شرقي سوريا حتى اليوم، وهكذا انكسر التنظيم وكانت نكسته الكبرى.
وفي هذا الصدد قال الأكاديمي في العلوم السياسية صابر برهان "صحيح أن التنظيم انتهى على الأرض قياساً بحاله السابقة، لكن أفكاره لا تزال حية في قلوب كثيرين من مناصريه، ولا يزال يملك خلايا مختبئة في العراق وسوريا وثمة معلومات أنه منذ زمن يحاول، بشتى الطرق، فك أسر مسلحيه لدى قسد وإعادة تنظيم نفسه".
طبيعة الدور
لا شك أن المسلحين الأجانب لعبوا دوراً حيوياً في سياق الحرب السورية، مستغلين الفوضى الشاملة التي عمت أرجاء البلاد، والتسهيلات التي قدمتها لهم دول بعينها على صعيد المرور والوصول، ووجودهم لعب دوراً إنقاذياً في أكثر من مفصل وعلى أكثر من صعيد. وحين الحديث عن القوات الأجنبية فلا بد من التأكيد أن النظام المخلوع عينه حظي بدعم أجنبي هائل وعلى رأس ذلك الدعم كانت جماعة "حزب الله" اللبناني، و"الحشد الشعبي" العراقي، وقوات أفغانية وباكستانية مثل "فاطميون"، و"زينبيون"، وعراقية مثل "عصائب أهل الحق" و"أبوالفضل العباس"، وعشرات الميليشيات الأخرى.
يشار إلى أن النظام استفاد من هذه القوات أكثر مما استفادت التنظيمات الإرهابية من مسلحيها الأجانب، بحسب رأي المتخصص في العلوم العسكرية فائز زيتون الذي قال، "وصلت القوات الداعمة لحكومة دمشق بطريقة يسيرة وآمنة، وكان قوامها متماسكاً ومتجانساً، وتعلم مسبقاً طبيعة دورها وحجمه وتقف خلفها دول بشكل علني، وهو ما افتقدته التنظيمات المناوئة، فمثلاً الجماعات الأجنبية التي كانت تقاتل مع الجيش السوري كانت تنتظم بين صفوفه في المعركة، ولا تتلقى ضربات جوية، خلاف الأجانب الذين كافحتهم حتى حكوماتهم، وهذا ما أعطى الأفضلية القتالية للنظام وما عوض عزوف عدد كبير من رعاياه عن الالتحاق بجبهات القتال، عدا عن تشكيله كتائب مدنية قوامها آلاف الأشخاص المدنيين السوريين، وهؤلاء كانوا يمتلكون دافع القتال لحماية عائلاتهم، وهذا يتفوق على الواقع العابر للحدود تحديداً في حال انهيار مصدر الرعب السابق داعش، وهو ما أدركته النصرة التي تحولت إلى هيئة تحرير الشام، وتخلت عن راديكاليتها السابقة، وخلعت عنها ما أمكن من أثواب تجعلها تلاقي مصير جماعات متحجرة أخرى".
تباين الأدوار
بالمحصلة لا يمكن إنكار دور المقاتلين الأجانب من الطرفين، لكن هذا الدور شابه في كثير من الأحيان مبالغات كبرى من قبل وسائل الإعلام بما يتعلق بمخاوف ارتداد الجهاد نحو العمق الذي خرجوا منه.
وبين الدور المحوري أو الدور المبالغ به، فيمكن القول إن لكل تنظيم ومعركة طابعاً خاصاً بها، بعضه حسمه محليون وآخر أجانب، فإن كان الحديث عن "داعش" فإن دورهم كان محورياً للغاية، وحين الحديث عن هيئة تحرير الشام فإن زعيمها، الذي صار الرئيس الانتقالي لسوريا، أحمد الشرع، قال بعد الانتصار إن للأجانب في تشكيله دوراً كبيراً في النصر، وأما عن نظام الأسد الذي سقط، فلا شك أن تأخر سقوطه لسنين طوال كان محمولاً على القوى الأجنبية التي تقاتل عوضاً عنه على الأرض، وتلك القوى كانت عشرات الميليشيات مع الحرس الثوري الإيراني والمسح الجو-فضائي الروسي لأرض كل المعارك ما بعد 2015.