ملخص
عام 2020 قدم المخرج الألماني من أصول إيرانية برهان قرباني نسخة سينمائية من رواية الألماني ألفريد دوبلم "برلين ألكسندر بلاتز" جعل فكرته المحورية مسألة الهجرة
قبل ذلك كان الأمر يبدو أشبه بمقارعة المستحيل. كانت رواية الكاتب الألماني ألفريد دوبلن "برلين ألكسندر بلاتز" تعد في عداد تلك التي تبدو مستحيلة على الأفلمة، سواء كانت هذه الأفلمة سينمائية أو تلفزيونية. ومن هنا، وحتى سنوات الـ80 بقيت الرواية في منأى عن الشاشة، لكنها لم تبارح مخيلات الذين حطموا رؤوسهم على عتبة الدنو منها، ولكن ما الذي حدث في تلك السنوات؟ ببساطة قرر مخرج ألمانيا المشاكس راينر فرنر فاسبندر أن يخوض التجربة ليس في السينما، بل في التلفزة. وكانت النتيجة أنه طوع المستحيل في مسلسل ختم به حياته يشغل 15 ساعة تلفزيونية أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها طلعت من بين يديه عملاً كبيراً، لكن عمل فاسبندر لم يكتفِ بذلك، بل عرف كيف يجعل من مسلسله وصية فنية كبيرة تتعلق بإمكانات تلفزيونية كانت لا تزال خبيئة في مجال إنقاذ نصوص كثيرة من تلك "الاستحالة" القاتلة، وتحويل شخصية روائية، هي هنا شخصية بيبركوف، الشخصية المحورية في "برلين ألكسندر بلاتز"، إلى شخصية "تلفزيونية خالدة.
العيش لا أكثر
وبيبركوبف المذكور هنا هو بطل رواية الفريد دوبلن، العائش مرحلة ما بعد خروجه من سجن كان أودع فيه لأربع سنوات عقاباً على قتله زوجته. وهو إذ يخرج يفاجئه صخب العالم الخارجي وتنكر الجميع له. إنه الآن يريد أن يعيش على رغم كل شيء، ويريد أن يبقى نزيهاً دون أن يقدم أي تنازلات، لكنه على رغم قيامه بكثير من المهن الصغرى ومن محاولاته الدؤوبة، بتشجيع من صديقة بولندية يتعرف إليها في إحدى الحانات ويرتبط بها، يجد نفسه تحت وطأة ضغط المجتمع والظروف وقسوة البشر، مساقاً إلى درب الجريمة من جديد، كما يجد نفسه دمية في يد الآخرين. ولعل ما يفاقم ذلك هو أن أحداث الرواية تدور في ألمانيا الخارجة منذ سنوات من هزيمتها المدوية في الحرب العالمية الأولى، وهي الآن في عز ذلها الاقتصادي في مرحلة تستعد فيها لدخول العصر النازي، مما يضفي على نص إنساني واجتماعي أبعاداً سياسية ربما لم يكن دوبلن يتقصدها، لكنها هي التي منحت روايته تلك الأيقونية ذات الفرادة. ومهما يكن لا بد أن نشير هنا إلى أن موضوع الرواية يكمن هنا ولا يتجاوزه ما من شأنه، ولو للوهلة الأولى أن يجعل القارئ يستغرب أن يكون موضوع كهذا قد تمكن من أن يملأ كل تلك الحلقات التلفزيونية. وقد يتوقع أن يكون العمل، كمسلسل، بطيئاً مملاً صعباً، ولكن بين يدي فاسبندر اتخذ العمل سماته الحية الحيوية التي قدمها مخرج سينمائي أوروبي، تعامل مع التلفزة بجدية تعامله مع السينما، وأدرك باكراً أن الوسيلتين لا بد أن تلتقيا يوماً، بشرط أن يكون الإبداع رائد ذلك اللقاء.
توقعات فاسبندر
والحقيقة أن الوسيلتين عادتا والتقيتا كما توقع فاسبندر تماماً، عشرات المرات، ولكن فيما يعنينا هنا، من حول رواية دوبلن بالذات! وبالنسبة إليها بعد نحو 40 عاماً من الصخب الذي أثاره المسلسل بحيث يبدو وكأن هذا الأخير قد فتح طريقاً كان يبدو مغلقاً. ففي نهاية العقد الماضي، التقط قفاز التحدي من جديد مخرج ألماني من أصول إيرانية هو برهان قرباني، المعروف عادة بسينماه التي غالباً ما دنت من موضوعة... الهجرة المغضوب عليها في أوروبا، ليحقق فيلماً عرض في عام 2020 وبنفس العنوان. ولكن ليس بالهدف نفسه وإن كان قد جعل الفيلم الذي لا يتجاوز عرضه هذه المرة ثلاث ساعات، يدور في البيئة نفسها: برلين من حول ساحتها المركزية: ألكسندر بلاتز، ولكن مع فارق زمني طويل. ولكي لا يبدو هذا الكلام عصياً على الإدراك لا بد من التوقف عند فيلم قرباني من ناحية استخدامه موضوع دوبلن وجرأة فاسبندر للحديث عن ذلك الموضوع الذي يهمه شخصياً كابن للربع الأول من القرن الـ21: موضوع الهجرة الذي نعيش ويعيش المخرج في خضمه كما تعيش في خضمه أوروبا بأسرها وألمانيا خصوصاً وينظر العالم إليه بوصفه في خلفية النزوع اليميني، بل الفاشي الذي يعيشه العالم في هذه الأيام من خلال الصعود المدوي لليمين المتطرف.
تلاعب في الشكل
تلكم هي الخلفية التي بنى عليها قرباني فيلمه قبل ما يزيد على خمس سنوات، مقتبساً رواية دوبلن ساحباً زمن أحداثها من عام 1929 إلى زمننا الراهن في لعبة بدت للنقاد بالغة الخطورة، ولكن ليس من ناحية تحدي النص الروائي بقدر ما من ناحية تحدي المتن التلفزيوني المتجلي في مسلسل حققه واحد من كبار مبدعي السينما فختم به، مظفراً، حياة سينمائية حافلة. غير أن في مقدورنا أن نحسب هنا لقرباني قوله غير مرة، إنه ما كان ليقدم على مشروع كهذا لو لم يجد الخيط الذي يقوده لدى المعلم الكبير الراحل، فاسبندر. وكان هذا يكفي لمشاهدة فيلم قرباني على ضوء السابقة التي شكلها مسلسل فاسبندر، ولكن أكثر من ذلك، على ضوء الصورة التي يحملها ملايين القراء عن رواية دوبلن. حتى من دون أن يكونوا قد شاهدوا مسلسل السينمائي الكبير الراحل أو يعرفوا شيئاً عن الحلم الذي كان قد اعتاد أن يكون مجهضاً في رغبته بأفلمة الرواية. ولعل من أوضح السمات اللافتة في المشروع السينمائي الجديد هو تخليه إلى حد كبير عن الواقعية المفرطة التي تسم الرواية تبناها فاسبندر تماماً، وربما قبل أي شيء آخر من خلال شكل سينمائي اعتمد على التلاعب بالصورة في استخدام موفق لتقنيات هذه الأخيرة عبر حركة في التصوير والتقاط عنف البيئة المصورة وتقلباتها وغالباً من وجهة ذلك المهاجر الذي لا يكف عن إشعارنا بكم أن دينامية المدينة ودورانها المتواصل وألوانها الزاحفة تحت أضواء تعمي من يتفرس فيها دون هوادة، كل ذلك يضعه تحت ربقة صورة للمدينة ربما ستبدو لنا، نحن الذين نعرف رواية دوبلن وحتى من منظور مسلسل فاسبندر، مختلفة عما نعرفه على الإطلاق، ولكن للوهلة الأولى فقط على أية حال. فالحال أن ما تمكن قرباني من تصويره هنا إنما هو دوخان الشخصية في المدينة سواء كانت هذه الشخصية مهاجراً غريباً يكتشف المدينة، أو سجيناً سابقاً يعيد اكتشافها بوصفها مدينته. فالمهم هنا هو الصورة "النهائية التي تتخذها المدينة، سواء على الورق أو على الشاشتين بوصفها الصورة التي يكتشفها أو يعيد اكتشافها بطل الرواية في نهاية المطاف".
المدينة كمتاهة
المهم هنا هو، بكلمات أخرى، تلك "المتاهة" التي تتحول إليها صورة المدينة، وربما أكثر انحصاراً منها صورة جزء معين من المدينة كما رآها بيبركوف في الماضي ويراها فرنسيس اليوم، عبر كاميرا قرباني بعدما كانت وصلت أدبيا عبر قلم دوبلن وكصورة تلفزيونية عبر إبداع فاسبندر. ففي النهاية يبقى توصيف المدينة هو النقطة الأهم التي تلتقط جوهر الرواية الأصلية بوصفها رواية عن المدينة في زمن محدد ومن منظور محدد وفي لغة محددة تربط بين حقيقة المدينة والنظرة إليها. ويقيناً إن ألفريد دوبلن (1878 – 1957)، لن يكون على أية حال مستاءً من هذا التوصيف هو الذي ولد في برلين في أحضان أسرة مثقفة، ودرس التحليل النفسي والطب في جامعة برلين، لكنه آثر بسرعة أن يتجه إلى الكتابة، معززاً إياها بموقف سياسي اشتراكي ديمقراطي، هو الذي سيجعل لاحقاً من نص الرباعية التي دائماً ما داعبته رغبته في أن يكتبها عن روزا لوكسمبورغ وثورتها و"إعدامها" كما إعدام شريكها في زعامة السبارتاكيين، واحد من أبرز أعماله. ومع هذا تبقى روايته "برلين ألكسندر بلاتز" أهم عمل له، لكنها، طبعاً، لم تكن عمله الوحيد، إذ أنه لم يتوقف عن الكتابة، وفي شكل متواصل أوصل عدد رواياته الأساسية إلى 17 رواية، وجعل هذا العمل ينطبع في معظمه بانتقائية مدهشة كما بتنوع يصعب فهمه في أماكن أحداثها و"أممية" شخصياتها، وفي الأقل حتى صدور روايته الأجمل والأكثر ذاتية "هاملت: الليل الطويل قد انجلى" التي يبدو أنه لم يعد بعدها راغباً في مزيد من الكلام الأدبي، إذ أحس – كما قد يحس أي قارئ لهذا العمل - أنه أوصل الأدب فيه إلى لحظته القصوى وإلى غايته الإنسانية المثلى.