يقفز التونسيون هذه الأسابيع من صدمة إلى أخرى، إذ لم تَمضِ غير ثلاثة أسابيع على "زلزال" الدور الأول من الانتخابات الرئاسية، حتى جاء الارتداد بحجم "الأزمة"، متمثلاً في انتخاب برلمان "فسيفسائي" يعسر فيه تكوين أغلبية قادرة على الحكم، وضمان استقرار عام بالبلاد.
حركة النهضة الإسلامية، التي حلّت في المرتبة الأولى، في انتظار الإعلان عن النتائج الرسمية الأولية، تجد نفسها في قلب العاصفة، إذ بعد خطابها الثوري في الحملة الانتخابية واستعدائها لحزب "قلب تونس" والأحزاب التجمعية "الفاسدة"، في إشارة إلى الحزب الدستوري الحر وحزب "تحيا تونس"، تحاول اليوم تغيير الخطاب وإظهار مسحة من العقلانية والبراغماتية، بحثا عن مصلحتها قبل المصلحة الوطنية، من خلال استعدادها لمد اليد لأحزاب تعتبرها "نظيفة"، وسبق أن تعاملت معها في حكومة الترويكا الأولى، مثل "حركة الشعب" و"التيار الديمقراطي"، اللذين يجمعان معا قرابة أربعين مقعدا، وأيضا حزب "تحيا تونس"، الذي قد يحصل على عشرين مقعدا بعد احتساب مقاعد الخارج.
ولا يُستبعد أن يتراضى حزب النهضة الإسلامي مع حزب "قلب تونس"، لأن قيادات الحزبين سبق لهما التحالف والتقارب، إذ إن نبيل القروي، وجزءاً مهما من قيادة حزبه، انتموا إلى "نداء تونس"، الذي تحالف مع النهضة بعد انتخابات 2014.
من جهة أخرى، قد يستقطب يوسف الشاهد - إذا توافق مع النهضة، وهو يسعى إلى ذلك- عدداً من نواب "قلب تونس"، في أول حركة لسياحة حزبية.
ويرى مراقبون أن حزب النهضة مقبل على مخاض مستعصٍ لتشكيل حكومة تبدو ولادتها عسيرة جدا. فهي شبه عاجزة حسابياً وسياسياً عن إيجاد بديل لحزب "نداء تونس" لتحكم معه لأسباب عدة، منها الأيديولوجي المتعلق برفض كبير للإسلام السياسي، وأيضاً نتيجة فشل الحكومات التي قادتها أو أسهمت فيها حركة النهضة.
فشل منتظر
في المقابل، يقول الإعلامي والباحث السياسي، منذر بالضيافي، إن "النتائج الأولية أفرزت برلماناً (فسيفسائيا)، ليتم تصعيد مجلس نيابي دون أغلبية وازنة ومؤثرة، مثلما كان الحال في انتخابات 2014، ما سيجعل تشكيل حكومة مستقرة عملية معقدة وصعبة".
ويضيف "النهضة التي فازت بالمركز الأول، لن يكون باستطاعتها الحكم، وحتى إن حكمت فإنها ستعيد إنتاج فشل حكومات ما بعد انتفاضة 2011، بسبب فقدانها للأغلبية التي تمكنها من ذلك، وهو وضع من شأنه أن يدخل البلاد في حالة من عدم الاستقرار السياسي، الذي ستكون له تداعياته على الوضع الاقتصادي المنهار والاجتماعي القلق وكذلك الأمني، في محيط إقليمي ودولي تغلب عليه علامات عدم الاستقرار الأمني، فضلا عن كونه مرشحا ليعيش في أتون أزمة اقتصادية معولمة ستكون تداعياتها سلبية على تونس، التي تعاني أصلا من وضع اقتصادي كارثي".
خشية من التحالف مع النهضة
هذه السيناريوهات لإمكانية تحالف النهضة مع أحزاب من العائلة الوسطية، يعتبرها الناشط السياسي وأستاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسية، جوهر الجموسي، صعبة جدا، إذ إن "الحزب المتطوع للتحالف سينتحر، لأن أغلبية الشعب ترفض الإسلام السياسي، ما عدا جمهور النهضة وناخبيها الذي تدحرج تدريجيا من انتخابات إلى أخرى لينتهي في 2019 إلى 400 ألف تقريبا، بعد أن كان أكثر من 1.5 مليون ناخب".
في المقابل، بدأت بعض الأحزاب القريبة من النهضة، مثل التيار الديمقراطي و"تحيا تونس"، تصيح من بعيد وبأعلى صوت "لن نتحالف مع النهضة"، وكأنها تخشى السير نحو حتفها ومصيرها المحتوم.
ورغم أن التصريحات الإعلامية لا تعدو أن تكون ذريعة لتحسين شروط التفاوض والحصول على عدد مُرضٍ من الحقائب الوزارية، فإن المحلل السياسي، بولبابة سالم، يرى أن "خيارات النهضة هي تكليف شخصية مستقلة، أو مواصلة التعويل على الشاهد الذي كسب خبرة في إدارة الدولة وتحصّل حزبه على رصيد محترم. أما بالنسبة إلى التحالفات فقد نشهد مفاجآت لأن خطاب الحملات الانتخابية مختلف عن الحقيقة التي أفرزها الصندوق وتنتهي الخصومات بعد نهاية المزايدات".
ويعتقد سالم أن النهضة "لا تفاوض من منطق ضعف بعد الارتفاع المنتظر في عدد مقاعدها، لكنها لن تتحالف مع (قلب تونس)، الذي اتهمه زعيمها راشد الغنوشي بأنه تحوم حوله شبهات فساد. النهضة قد تتحالف مع حركة الشعب وائتلاف الكرامة وتحيا تونس، وربما التيار الديمقراطي الذي راجع موقفه (تصريح غازي الشواشي)، إضافة إلى حزب الرحمة والمستقلين".
فرضية تحالف النهضة مع تيارات إسلامية أكثر منها تشددا وثورية ورفضا للتعايش مع المختلفين معهم تبدو مستبعدة، لأنها تخشى ردود فعل المنظمات المالية الدولية والبلدان الكبرى التي ترفض الإسلاميين المتطرفين، بخاصة أن عددا من النواب الذين دخلوا عبر "ائتلاف الكرامة" و"حزب الرحمة" سبق أن تعلقت بهم قضايا بشبهة الإرهاب، إضافة إلى أن حزب النهضة ظل لفترات طويلة مهدداً من قبل أميركا للإدراج على قائمة الحركات الإرهابية".
تحالفات ممكنة
من جهة أخرى، يعتبر حسان قصار، الناشط السياسي وأستاذ علم الاجتماع، أن "حزب النهضة الذي كان لفترة طويلة حزباً منبوذاً من قبل العديد من القوى، استطاع أن يتعامل مع المرحلة بعقلانية وترك العاصفة تمرّ، بخاصة وأنه كان يعلم بأنه طرف لا يمكن تجاوزه على مستوى البرلمان والحكومات المتعاقبة والعلاقات الدولية".
ولهذا بحسب الدستور، سيكون مكلفا بتشكيل الحكومة، وسيسعى لفتح الباب أمام الأطراف التي يمكن أن تتفاعل معه، وإن كان بينهم اختلافات مهمة. ونظراً إلى المشهد السياسي وتركيبة البرلمان، فلا مناص من مد اليد لائتلاف الكرامة، وتحيا تونس وحركة الشعب والتيار الديمقراطي وبعض المستقلين. وهم يعلمون أنه من دون كل هؤلاء ومن دون استثناء، لا يمكن أن تتشكل الحكومة.
ويضيف "لكن حتى وإن استطاع التشكيل، فإنه وبكل تأكيد سيجد نفسه في موقف ضعيف للغاية ومهدد طوال الفترة النيابية بتهديد أحد الأطراف بالانسحاب من التوافق، مما يجعل انهيار الحكومة ممكنا.
ورغم إعلان التيار الديمقراطي وحركة الشعب "أنهما غير معنيين بالحكومة فقد علمتنا التجارب أن ذلك لا يعدو كونه تصريحا لتحسين شروط التفاوض. وأعتقد أن المفاوضات والاتصالات قد انطلقت حتى قبل الانتخابات"، على حدّ قول قصار.