يبدو أن إحساساً طفيفا بالبهجة قد بدأ يتبلور، حتى بين العقلاء، بإمكانية تجنب أسوأ أشكال بريكست.
بدأ الاتحاد الأوروبي وأيرلندا، من دون بريطانيا، يلمحان إلى احتمال التوصل إلى صفقة بشأن بريكست. وما يعنيه ذلك للشعب البريطاني هو أن أسوأ تبعات الخروج من الاتحاد الأوروبي، ولاسيّما تلك التي تشمل نقص الغذاء والوقود والأدوية وانتشار الاضطرابات المدنية على نطاق واسع بحسب توقعات الحكومة، لن تتحقق.
فلنبتهج، وليرفع كل منا عقيرته بالشكر الذي تصدح به الحناجر حالياً! أي هراء هذا.
والقول بأن ثمة فرصة، مهما كانت ضئيلة، بأن يستحق بوريس جونسون ومايكل غوف ودومينيك كامينغز والآخرين أي نوع من الثناء أو العرفان على تفاديهم في آخر لحظة أسوأ تجليات أزمة كانت من صنعهم مئة بالمئة، هو الفحش بعينه.
قيل لنا، إننا انتقلنا إلى مرحلة "النفق" في المفاوضات. هذه عبارة مناسبة بشكل مذهل، باستثناء أنه، وبالمقارنة، يعد النفق الذي أمضينا فيه السنوات الثلاث الماضية مُضاءً بشكل جيد إلى حد ما، بينما الوجهة النهائية ليست سوى ظلام دامس.
إن الخروج من الاتحاد الأوروبي يبقى مرهوناً في هذه المرحلة بشروط معينة، على الرغم من الكلام الفارغ على الراديو الذي تفوّه به غافن ويليامسون ووزراء آخرون بشأن المغادرة دون شروط أو اعتراضات.
لكن إذا غادرت المملكة المتحدة فعلاً الاتحاد الأوروبي في غضون ثلاثة أسابيع، فلا يجب أن يخفي ذلك حقيقة أن بريكست يمثل أكبر فشل ذريع لفن إدارة الدولة في تاريخ هذا البلد.
لا ينبغي أن يكون هذا الحكم مثيرا للجدل، حتى بالنسبة لمؤيدي بريكست. وبطبيعة الحال، يعتبر هؤلاء الخروج من الاتحاد الأوروبي نجاحاً تحقّق خلافا لكل التوقعات. لكن مع ذلك، يبقى صحيحًا أن المملكة المتحدة ستخرج من الاتحاد الأوروبي، عن طريق الصدفة، بفضل حكومة يقودها رئيس وزراء لم يكن يريد حدوث ذلك، وهو ديفيد كاميرون.
يدور جدل كبير حول ما إذا كان بوريس جونسون أراد فعلا الفوز في استفتاء البريكست. لكن المؤكد هو أنه لم يكن يعتقد أنه سيفوز بالاستفتاء، ولم يكن ينظر إلى الخسارة كعقبة أمام مسيرته، إذ كان لا يزال ممكناً إجراء انتخابات لقيادة حزب المحافظين في عام 2019، وهو سيكون في موقع قوي جدا للفوز بها.
ومن المؤكد أنه إذا غادرنا الاتحاد الأوروبي في 31 أكتوبر (تشرين الأول)، فإننا سنغادر بشروط من شأنها أن تُلحق بنا أضراراً اقتصادية أكبر بكثير مما سبق أن تعهد أي شخص بمكافحته. وتجدر الإشارة هنا إلى تصريح جونسون قبل الاستفتاء الذي قال فيه "أنا من المعجبين بالسوق الموحدة، وسأصوت على البقاء في السوق الموحدة."
لكننا الآن لن نبقى في السوق الموحدة، بل سننصب الحواجز أمام التجارة مع أكبر كتلة للتجارة الحرة في العالم، والتي تتمتع أيضا بأفضلية هائلة لكونها جارتنا الجغرافية.
وتشير الخطوط العريضة للصفقة التي يبدو أنها تتبلور حالياً إلى بقاء أيرلندا الشمالية فعلياً داخل الاتحاد الجمركي للاتحاد الأوروبي، بيد أنه سيكون بوسعها أيضا الاستفادة من أي صفقات تجارية مستقبلية قد تبرمها المملكة المتحدة. وتُستخدم طبعاً كلمة "الاستفادة" هنا بشكل فضفاض للغاية. فكل التحليلات المعقولة تشير إلى أن الحواجز التجارية التي ستدخل حيز التنفيذ فور مغادرة الاتحاد الأوروبي، ستؤدي إلى تقليص الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تصل إلى 7% بحلول عام 2030. ويمكن لصفقات تجارية جديدة مع بلدان أخرى أن تخفف هذه الخسائر بنسبة 0.5%. لكن من غير المرجح أن تتحقق هذه التوقعات بدقة. أما الفكرة القائلة بأنها ستجد طريقها للتنفيذ على نحو يجعل البريكست مجدية اقتصاديا، فهي ضرب من العبث.
عندما سئل جونسون عن ماهية الصفقة تحديدا، اكتفى بالقول "يمكنني بالتأكيد أن أقول لكم إننا لن نرى أي شيء يمنع المملكة المتحدة بأكملها من الاستفادة الشاملة من فرص البريكست."
ويبقى من غير الواضح ما إذا كان "الحزب الديمقراطي الوحدوي" الأيرلندي الشمالي و"مجموعة البحوث الأوروبية" سيؤيدان الصفقة، إذا كان هذا هو ما تبدو عليه، وقُدِّر لها أن تُطرح أمام مجلس العموم. فقد سبق أن انتقد الحزب والمجموعة صفقات مماثلة في الماضي.
في غضون ذلك، يبدو الخطر الحقيقي لصفقة من هذا النوع على مشروع البريكست على المدى المتوسط إلى الطويل، مختلفاً تماماً.
إن أفضل ما يمكن أن يأمل به مؤيدو البريكست، هو أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من خلال التفاوض لن يقود إلى هاوية اقتصادية مفاجئة وإنما سيفتح ثقبًا صغيرا ينزف من خلاله الاقتصاد ببطء، وهذا قد يكون أكثر إيذاءً. وهذه في الحقيقة هي النتيجة التي تنبأت بها جميع البنوك الاستثمارية الكبرى. إن ما يطمح إليه جايكوب ريس-موغ الوزير والنائب البارز المؤيد للبريكست وأمثاله هو أن يكون الاستنزاف التدريجي للاقتصاد البريطاني بطيئاً بما يكفي لحجب أي حدث بارز يمكن من خلاله للناس رؤية آفاقهم الاقتصادية وفرص حياتهم تتضاءل.
بالنسبة لكبار المؤيدين للخروج من الاتحاد الأوروبي، ستكون حافة الهاوية مَدعاةً لاتخاذ إجراء فوري، على عكس الثقب الصغير.
لكن الوضع الخاص لأيرلندا الشمالية يطرح إشكالية محتملة. إذا احتفظ جزء صغير من المملكة المتحدة بالمزايا الاقتصادية لعضوية الاتحاد الأوروبي رغم مغادرته، وازدهر في الوقت الذي تتراجع فيه بقية المملكة المتحدة، فسيكون ذلك بالنسبة لأنصار البقاء في الاتحاد عبارة عن دعوة للتحشيد واتخاذ إجراءات مضادة. وتُعد هذه نتيجة محتملة للغاية، وهي السبب في كون معظم الشركات الأيرلندية الشمالية حبّذت الإبقاء على الحدود بين جمهورية أيرلندا وأيرلندا الشمالية مفتوحة من خلال الآلية المسماة " الحاجز الخلفي". فبالنسبة لهذه الشركات، يعني "الحاجز الخلفي" الاستفادة من أفضل مزايا الجانبين، وهو أمر لا يكرهه أحد باستثناء مجموعة صغيرة من السياسيين الوحدويين الذين يلوحون بعلم الاتحاد.
هناك احتمال حقيقي للغاية بأن تكون بلفاست المزدهرة مجددا في العقد القادم شهادة حية على بريكست، الذي يعتبر واحداً من أغبى القرارات التي يتخذها أي بلد كبير على الإطلاق. سيكون تذكيرا من شأنه أن يطرح مشاكل كبيرة لجونسون وغوف والبقية، الذين سيكون أملهم الأخير هو ألا يكتشف الناس أبدا ما أُخذ منهم، من دون سبب سوى غرور هؤلاء القياديين الجارف.
© The Independent