يتعذّر إحصاء المعارض التي خُصِّصت إلى حد اليوم في الغرب للرسام الفرنسي الكبير إدغار دوغا (1834 ــ 1917). لكن المدهش هو أن أيّاً منها لم يتوقّف مليّاً عند مصدر إلهامه الرئيس، ونقصد دار الأوبرا في باريس التي تردد الفنان عليها طوال حياته وأنجز داخلها أهم أعماله. من هنا أهمية المعرض الذي انطلق حديثاً في متحف "أورسيه" الباريسي ويتوق، من خلال مضمونه الغني وطريقة ترتيبه، إلى سدّ هذا العجز وكشف ما تدين به عبقرية هذا العملاق التشكيلية لما اختبره من انفعالات وأحاسيس داخل الصرح الفني المذكور.
مَن يعرف دوغا، الذي مرّت منذ عامين مئوية وفاته، لا يدرك فقط أنه أحد روّاد التيار الانطباعي، بل أيضاً أن عالم الرقص والموسيقى هو موضوع ثابت في عمله، تماماً مثل تفاحات سيزان وطواحين مونيه. ولذلك، لا عجب في تلقيبه بـ "رسّام الراقصات"، فمنذ بداياته في ستّينيات القرن التاسع عشر وحتى وفاته، أمضى هذا الرسام معظم وقته في دار الأوبرا التي كان يسمّيها "غرفتي الخاصة"، واستقى متعة فريدة سواء في استكشاف مختلف فضاءاتها (صالات التمرين، خشبات المسرح، حجرات الفنانين والفنانات...) بعمله التشكيلي، أو في الاختلاط بالناشطين داخلها، من راقصات وموسيقيين ومغنين وتقنيين، وأيضاً بأولئك الذين كانوا يترددون بشكلٍ ثابت على هذا المكان ولا يضيّعون فرصة لزيارة كواليسه، مثله.
دار الأوبرا في باريس كانت ــ ولا تزال ــ عالماً مغلَقاً وخاصاً، لكن دوغا، قبل غيره، وأكثر من أي فنان آخر، كشف مدى ثرائها بالإمكانات التشكيلية، وبالتالي تشكيلها لرسام يعشق رقص الباليه والموسيقى الكلاسيكية فضاء اختبارات لا حصر لها: تعدُّد وجهات النظر، التلاعب بالإضاءة، دراسة الحركة وتعابير الوجوه والأجساد في مختلف تجلياتها... وفعلاً، اهتم الفنان داخل هذا الصرح بدور الإضاءة في إثراء تعبيرية العروض الفنية ووجوه الفنانين والفنانات التي رسمها أثناء أداءاتها، وتبنّى وجهات نظر جريئة في تمثيلها تعزّز جانبها الدرامي: وجهات نظر جانبية، سفلية أو فوقية، وفقاً لوجوده في الصالات الأرضية أو على الشرفات أثناء عمله، الأمر الذي جعل هؤلاء الفنانين والفنانات يتكشّفون لنا بطريقة مختلفة. وفي نهاية حياته، استعاد الموضوعات نفسها لكن بألوان مختلفة أضفت على تشكيلاته جانباً غير واقعي، ساعياً فقط داخلها خلف الحيوية والحدّة البصريتين، ومتخلّياً بالتالي عن قوانين التمثيل التي كانت سائدة آنذاك لصالح التناغمات اللونية والشكلية والحركية الأكثر فرادة وجرأة.
ولكن فلنعد إلى معرضه الحالي الذي تُشكّل نقطةَ انطلاقه تلك الصداقة الجميلة التي جمعت دوغا بمواطنه الشاعر بول فاليري وأفضت إلى كتاب فني مرجعي حوله وضعه هذا الأخير. صداقة، لا بل تواطؤ عميق ومؤثِّر نظراً إلى فارق العمر بينهما. فحين التقيا للمرة الأولى، كان دوغا في سن السبعين، بينما كان فاليري في سن الرابعة والعشرين. 36 عاماً إذاً كانت تفصل بينهما، لكن استقامة الشاعر الشاب وحدّة ذهنه أعجبتا فوراً الفنان فتبنّاه روحياً وذهب إلى حد تزويجه من ابنة الرسامة بيرت موريزو. هكذا دخل فاليري إلى "عائلة" دوغا فتسلّطت بسرعة عليه رغبة ملحّة في كتابة سيرته. وعلى رغم ممانعة دوغا، انطلق في تسجيل ملاحظات وتدوين أقوال وصقل تأمّلات وتجميع أخبار قرب معلّمه العجوز. معطيات شكّلت مادّة كتابه "دوغا، رقص ورسم" الذي صدر عام 1937 مزيّناً برسوم للفنان وبتمويل من مجمِّع الفن الشهير أمبرواز فولار.
لوحات ووثائق
ولا شك في تشكيل هذا الكتاب مرجعاً لمنظّمي معرض دوغا الحالي. فإلى جانب نحو مئتي عمل فني تتراوح بين لوحات ورسوم ومحفورات، معظمها مستقى من مجموعة متحف "أورسيه" الخاصة، يتضمّن المعرض وثائق غزيرة ومثيرة تنير الطريقة التي اتّبعها فاليري لوضع مؤلَّفه، وأخرى تسلّط ضوءاً كاشفاً على طبيعة علاقة هذين العبقريين اللذين كان مقدَّراً لهما أن ينسجما إلى أبعد حد.
وفعلاً، مثل فاليري، مقت دوغا كل أنواع العاطفيّة (sentimentalité)، سواء في الفن أو في الحياة، مكتفياً بأخلاقية جدّ متقشِّفة. ويمكننا ملاحظة ذلك في الرسوم الغزيرة التي توقِّع مسيرته الفنية، حيث يشكّل الخط التعبير المباشر للفكر، بعد تجريده من أي فائض لا لزوم له، تماماً كما دعا إليه معلّمه الرسام إينغر. نلاحظ ذلك أيضاً في لوحات كثيرة حاضرة في المعرض تبيّن كيف صالح الفنان بنبوغ روحيّة عصر النهضة بالحداثة الأكثر راديكالية. لوحات أهمّها تلك التي أنجزها بمادة الباستيل في المرحلة الأخيرة من حياته، حيث يحضر الخطّ مرقّناً، مرتجفاً، مثل جلد تلك النسوة اللواتي رسمهنّ خلال استحمامهنّ أو تبرّجهنّ، والمشغولات بغسل أجسادهنّ أو بتمشيط شعرهنّ، كما لو أن لا حضور في فضائهنّ الحميم لفنان يسعى إلى رسمهنّ.
باختصار، وكما لاحظ فاليري ذلك، تكمن عبقرية دوغا في قدرته الفريدة على التقاط الحركة أثناء حدوثها، على تجسيد التشنّجات الأكثر حسّية للأجساد، وعلى مفاجأة الوجوه في تعبيراتها الأكثر حميمية. عبقرية لأن لا أحد أملس، وخصوصاً الراقصة المتحرّكة دوماً، والمعبِّرة دوماً في حركتها.
يبقى أن نشير إلى أن طريقة ترتيب الأعمال المعروضة، التي تتصاعد حدّتها تدريجاً، تشهد على عمل في حالة تحوّل وتطوّر دائم، يلجأ صاحبه فيه إلى مواد وتقنيات مختلفة لدراسة الإيقاع والحركة، قبل أن نبلغ معه في النهاية "عربدة من الألوان"، على حد تعبيره. وفي هذا السياق، تروي كل صالة من صالات المعرض هواجس الفنان، شكوكه وطبعاً استعاداته الثابتة لموضوعاته، فلا يعود الأمر يتعلق بمجرّد رصف لتحفه الفنية، على الرغم من حضورها الكثيف، بل خصوصاً بكشف الدرب الذي يقود إليها، لكن لا يتوقف عندها، لأن البحث بالنسبة إلى دوغا، كما بالنسبة إلى فاليري، لا يعرف النهاية.