شكّل بريكست الموضوع المسيطر بشكل غير رسمي على حفل هذا العام لتوزيع "جوائز ميركوري الموسيقية" التي تُمنح إلى أفضل الألبومات في المملكة المتحدة وإيرلندا. واحتجت فرقة "آيدلز" لموسيقى الروك الحديثة (= مرحلة ما بعد موجة موسيقى الـ"بانكس") على ثقافة الخنوع التي غسلت أدمغة ملايين الأشخاص ودفعتهم إلى التصويت لصالح أمر سيسبب بشكل إرادي ضرراً اقتصادياً. وبهدف إيصال الفكرة إلى جميع الحاضرين، لوّحَ مغني الراب سلوثاي بلعبة مقطوعة الرأس على هيئة بوريس جونسون. عِبْرَ ذلك التصرّف، ذهب مغني الراب الآتي من "نورثهامبتون" إلى حد لم يسبقه إليه نجم في موسيقى البوب من قبل، بل حصل على توبيخ شبه شديد من المذيعة لورين لافيرن (أثناء نقل فعاليات ذلك الحفل عبر "بي بي سي").
لكن، فيما يشكّل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي موضوعاً مشحوناً بالنسبة إلى سلوثاي وغيره من الفنانين الإنجليز بطريقة مفهومة، إلا أنه لا يعتبر أقل خطورة على الجانب الآخر من البحر الإيرلندي. وفي حفل توزيع الجوائز ذاته، عملت فرقة "فونتين دي سي" التي تشكلت في دبلن على هجاء القوة المحسوسة للمذهب الجمهوري الأيرلندي عندما راحت تهتف "فليخرج البريطانيون". في إيرلندا، ثمة مخاوف حقيقية من اندلاع الصراع القومي مرة اخرى بسبب إعادة تأسيس حدود مُراقَبة بين الجمهورية والشمال، وربما يحصل ذلك في نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول).
إن حياة الناس، وليس التعرفة الجمركية، على المحك. فلننسى "منظمة التجارة العالمية"، ذلك أن الأسماء التي تتردد كثيراً اليوم هي "الجيش الجمهوري الايرلندي" و"قوات متطوعي آليستر". وسيقدّر الموسيقيون، أكثر من كل شخص آخر، مدى أهمية بقاء الحدود بين الشمال والجنوب أمراً من الماضي. وفي أحلك أيام الاضطرابات، شكّل الفنانون حلقة وصل بين الجارتين الإيرلنديتين. إذ حقّق المغني والعازف روري غالاغر الذي نشأ في مدينة كورك في جمهورية إيرلندا، جزءً كبيراً من نجاحه في بداياته في بلفاست، وغنّت فرقة "يو تو" لموسيقى الروك في جامعة كوين في بلفاست قبل وقت طويل يعود إلى العام 1979. وقدّم مشروع تدشين "مهرجان قلعة سلين" في 1981 على ضفاف نهر بوين المخضبة بالدماء والتاريخ في مقاطعة ميث، إلى بلفاست موجة جديدة من موسيقى الـ"هيفي ميتال" عِبْرَ فرقة "سويت سافيج".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في تلك الأيام، لم تكن إيرلندا الشمالية دائماً مكاناً آمناً لشخص لديه لكنة "جنوبية". قبل أربع سنوات من أداء فرقة "يو تو" على مسرح "جامعة كوين"، نصبت "قوات متطوعي آليستر" كميناً لفرقة ميامي الاستعراضية الشهيرة في طريق عودتها إلى ديارها في دبلن بعدما أدت أمسية فنية في بلدة باندبريدج في مقاطعة داون في إيرلندا الشمالية. قُتل ثلاثة من أعضاء الفرقة هم المغني الرئيسي فران أوتول، وعازف الغيتار توني جيراغتي وعازف البوق براين ماكوي، وأُصيب الإثنان الناجيان بجروح خطيرة. كانت الفرقة "مختلطة"، إذ كان إثنان من أعضائها من البروتستانت، وأربعة من الكاثوليك. وبالكاد استحق ذلك الأمر الذكر في جمهورية إيرلندا، لكنه لم يكن كذلك في الشمال. وقد تقصّى فيلم وثائقي جديد صدر أخيراً على موقع "نيتفليكس" بعنوان "ريماسترد... مجزرة فرقة ميامي الاستعراضية"، أفكاراً أفادت بأن المخابرات البريطانية نظّمت ذلك الهجوم. وقد نوقش الوثائقي على نطاق واسع في إيرلندا، لكنه مر مرور الكرام في المملكة المتحدة.
لم يكن الكمين الذي رعته المخابرات الحربية البريطانية أمراً يتوجب أن يواجهه الجيل الحالي من الموسيقيّين الأيرلنديين، في الشمال أو الجنوب. ليس في ظل الوضع الحالي للأمور. وفي المقابل، يُظهر أولئك الموسيقيون أنهم متَّحِدون في صدمتهم ورعبهم من الحال التي أفضى إليها بريكست. وكذلك بسبب اللامبالاة الظاهرة لحزب المحافظين حيال بريكست، لا سيما تجاه السلام في إيرلندا (وبالتالي في المملكة المتحدة)، على الرغم من اعتبار المحادثات الأخيرة بين رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون ونظيره الإيرلندي ليو فرادكار، "إيجابية للغاية".
في ذلك الصدد، يروي جيسون فينان، عازف الـ"درامز" في فرقة "تراوتس" لموسيقى الروك الحديثة الآتية من مدينة ديري، أنه "من مطبخي الآن، أستطيع رؤية بلدة دونيغال، أستطيع رؤية الجمهورية". يمكن اعتبار موسيقى الـ"بانك- بوب" الخاصة بهم بوصلة ثقافية، مع وجود أغنيات تحمل عناوين مثل "خوف من القنابل" و"أشخاص سياسيون".
أكثر من ذلك، لم يكن اسم الفرقة اختياراً عبثياً. إذ تعني "تروت" بلغة إيرلندا الشمالية، "المُخبر". في أسوأ سنوات النزاع، فإن تلقيبك بالمخبر يمكن أن يفضي بك إلى زيارة من قِبَل "الجيش الجمهوري الإيرلندي" ثم الدفن في مستنقع صامت.
ويوضح فينان، "كان عمري تسعة أسابيع ونصف، وكنت صغيراً جداً على الإدلاء بصوتي في الاستفتاء ... في ذلك الوقت، شطبه الجميع. لن يحدث [تصويت على المغادرة] أبداً. لم تسمع شخصاً يشكو من الاتحاد الأوروبي مطلقاً قبل [الاستفتاء]... لا أفهم كيف يمكن لشخص أن يعتقد حقاً أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيكون له تأثير إيجابي على حياته. لا أحد سيستفيد، باستثناء عدد قليل من المصرفيّين والسياسيّين الذين يحركون صناديق التحوّط المالي".وفي ذلك الصدد، يعتقد فينان أن كل محاولة استعادة الحدود محكوم عليها بالفشل. ووفق كلماته، "عندما أمشي مع كلبي، أعبر الحدود. هناك ثلاثة معابر حدودية على الأقل تمتد على مسافة يستغرق قطعها سيراً على الأقدام 10 دقائق في مدينة "ديري". لا تعلم حتى أنك تعبر. إنها مجرد طرق ريفية قديمة".
هناك استياء على نطاق واسع من الموقف غير الصريح الذي اتخذه "الحزب الوحدوي الديمقراطي" من مسألة بريكست. ولم يكن هذا مفاجئاً لـفينان. لطالما حاول المتشدوون اغتنام الفرصة لنصب الحواجز بين الشمال والجنوب. إنه سبب وجودهم. ويضيف، "لن يتغير "الحزب الوحدوي الديمقراطي" أبداً... يجب عليك تغيير رأي الناخبين. يجب أن يكون هناك بديل حقيقي أمام الناخبين الوحدويين. أنا لست وحدوياً، لكن معظم الأشخاص الذين يصوتون لصالح "الحزب الوحدوي الديمقراطي" ليسوا ضد زواج المثليّين. ربما يضربون صفحاً عن مسألة الإجهاض. إنّ غالبية الناخبين ليست متشددة، ويصوّت الناس بسبب الخوف".
في مقلب آخر، وعلى الطرف الجنوبي من الحدود، تابع الناس بريكست بارتباك وقلق وكذلك صراحة، بدرجة من الشغب. على كل حال، لا يسيطر بريكست على الأحاديث في الأوساط الموسيقيّة، بشكل من الأشكال. وبدلاً من ذلك، تمثّل موضوع النقاش الرئيسي هذا العام في ظهور فيرساتايل، مغني الـ"هيب هوب" من الطبقة الوسطى، الذي تعرض إلى انتقادات بسبب أغاني الراب الخاصة به التي وُصِفَت بأنها "كارهة للنساء" و"عنصرية". يمكنكم أن تحكموا بأنفسكم عندما يصطحب مغني الراب الأميركي سنوب دوغ المغني فيرساتايل بهدف دعمه في جولته الموسيقية في المملكة المتحدة العالم المقبل.
"إنه تطبيع للأغاني الكلاسيكية لكنه عنصري ويعني رهاب المثلية الجنسية والتمييز على أساس الجنس... وقد استطاع الآن أن يصبح جزءاً من الإعلام الإيرلندي السائد". بتلك الكلمات علّقت المغنية إريكا كودي في "تويتر" على فيرساتايل وكلمات أغنياتة التي تقول مثلاً، "كل علاقاتي الجانبية مع عاهرات من البشرة الداكنة... ويقمن بتقبيل ولعق ذكري... إنهن يفضلنه على تناول الدجاج". ويشغل ذلك الموضوع وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بالموسيقى الإيرلنديّة، وليس مسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
في الوقت نفسه، سيكون من المبالغة الادعاء أن مواطني جمهورية إيرلندا قد اكتشفوا فجأة كراهية حارقة تجاه البريطانيين. ويرجع ذلك إلى سبب واحد يتمثّل في أن الناس على دراية وثيقة بالسياسة والثقافة في المملكة المتحدة. ويشبه ذلك القول بأن البريطانيين يفهمون أن دونالد ترمب لا يمثل الأميركيين جميعم. لذلك، هناك تقدير في إيرلندا بأن الكثيرين في المملكة المتحدة ليسوا أقل فزعاً من جونسون ودومينيك كامينغز وعصابتهما.
ومع ذلك، فإن الأقلية التي طالما كانت تشعر بالاستياء من بريطانيا وإرثها الاستعماري في إيرلندا قد تشعر بأنها أُنعشت من جديد. وشكّل ذلك أحد الموضوعات التي تتناولها فرقة "فونتين دي سي" في أغنية "الأولاد في الأرض الأفضل". وأشعلت الفرقة التي تتخذ من دبلن مقراً لها، المسرح عبرَ أغنية معيّنة أثناء "مهرجان جوائز ميركوري". ويرد في المقطع الذي يروق للإيرلنديين على نحو مميز، "كان لدى السائق أسماء لملء برميلين مزدوجين / يتلفظ بعبارة "فليخرج البريطانيون"/ ولا يدخن سوى سجائر كارولز".
وفي تعليقه على ذلك، يوضح كونور ديغان عازف "الـ"باس" في فرقة "فونتين" أنّ "الأغنية تتحدث عن شخص ما... لديه كراهية سطحية لبريطانيا. إنه يدخن سجائر من ماركة إيرلنديّة ويقول أشياء من قبيل "فليخرج البريطانيون". لكن كراهية بريطانيا تلك، بعد التصويت على خروجها من الاتحاد الأوروبي، أصبحت شيئاً مختلفاً. لقد نشأ جيلي مع "اتفاق الجمعة العظيمة" للسلام بين الإيرلنديتين. وهناك الآن قلق حقيقي [من احتمال اندلاع العنف مرة اخرى] ".
وفي تطوّر متصل، كان ديغان وزملاؤه في الفرقة في الكواليس أثناء حفل توزيع "جوائز ميركوري"، عندما لوّح سلوثاي بدمية بوريس جونسون. وبصفته شخصاً يستمتع بمشاهدة مقاطع لفرقة "أوازيس" لموسيقى الروك على "يوتيوب" التي تنال من جميع الشخصيات البارزة في أيامها، فقد تشجع لرؤية فنان يذهب إلى ذلك الحد بصدق وجدية. ولم يقدر إلا أن يلاحظ اقتطاع "هيئة الإذاعة البريطانية" ("بي بي سي") تلك اللقطات، إضافة إلى أن المقدِّمَة لافيرن سعت على الفور إلى النأي بالمؤسسة الإعلامية عن ذلك التصرف الاحتجاجي، عبر إصرارها على أن مغني الراب كان يعبر عن "آرائه الخاصة".
وبحسب روايته، انزعجت فرقة "فونتين دي سي" أثناء جولتها في إنكلترا بسبب مدى الإهمال الذي وصلت إليه بعض مناطق البلاد. وفي بلدة "مايو آبي" الصغيرة في إيرلندا التي ينحدر منها معظم أعضاء "فونتين دي سي"، هنالك تذمر دائم من الإهمال وكون الموارد تُحول إلى دبلن وكورك. ومع ذلك، لا يمكن مقارنة ذلك بالتناقضات التي تراها في المملكة المتحدة.
ووفق كلماته، "الأشخاص الوحيدون الذين سألوننا عن بريسكت في بريطانيا هم الصحلفيون... لقد سئم الجميع في بريطانيا من موضوع الخروج إلى درجة أن إثارته باتت تمثّل سوء تصرف اجتماعي خطيراً".
وعند سؤاله عن مدى موافقته على أن الحكومة الإيرلنديّة أدّت دورها بفاعلية في موضوع بريكست، جاءت ردة فعل ديغان صارمة، "أنا لا أحترم حقاً ليو فارادكار أو [بقية حكومته]"، في إشارة إلى رئيس الوزراء الإيرلندي. ويتابع متسائلاً عن تأثير بريكست في بلد مختلف، وسبب الاستمرار في سؤال "فونتين دي سي" حول ذلك الموضوع؟ هناك الكثير من الأشياء التي تؤثر على إيرلندا مثل الإيجارات والتشرد. لماذا لا تتولى الحكومة الإيرلنديّة مهامها في تلك الأمور؟
وفي مقلب آخر من ذلك المشهد نفسه، تبدو المخاوف مختلفة في الشمال، كما إنّ الاضطرابات أقل بكثير من القلق الوجودي هناك. إنّها خطر واضح وحاضر. وبحسب كيت فيليبا كاتب الأغاني الآتي من بلفاست، "تبدو باهتة نسبياً ذكرى إخلائي من منزلي في منتصف الليل بسبب الخوف من وجود قنبلة، وفي مناسبة اخرى، الانتظار بينما كان هناك احتمال بأن "تُحرق" سيارتنا. وعلى الرغم من ذلك، هناك أشخاص حالياً يعيشون في صراع شديد في جميع أنحاء العالم، وأنا أراهم كجيران لنا... يمكن للكلمات المثيرة للخلاف أن تحرّض على العنف، وكل شخص يتحمل مسؤولية أن يكون حذراً من الدوافع الكامنة وراء الآراء".
ويتابع فيليبا، "كانت هناك توترات قبل فترة طويلة من بريكست، [و] مع أو كم دون خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ستستمر هذه التوترات، هذا إن لم تتعمق... من المهم الاستماع إلى الأصوات بنوايا حسنة من وجهات نظر مختلفة ومحاولة التعلم من بعضها بعضاً. ومنذ بعض الوقت، تحاول منظمات عدّة في إيرلندا الشمالية تحقيق ذلك الأمر".
وفي سياق موازٍ، يتذكر ريان فيل/ مؤلف الأغاني وفنان موسيقى "إليكترونيكا" الآتي من مدينة "ديري" في إيرلندا الشمالية، "لقد وجدت سلاحاً آلياً ضخماً عندما كنت في الحادية عشر من عمري في الحرش الذي كنا نلعب فيه يومياً. كان مجهزاً ومملوءً بالذخيرة ... من أجل الذهاب إلى الشاطئ عندما كنا صغاراً، كنا نعبر نقاط التفتيش الحدودية التي يحرسها جنود مكتملي العتاد. سيطر علينا خوف دائم من القنابل على الجسور، ما منعنا من من الذهاب إلى المدرسة. إذاً، نحن خبرنا المشاكل. لقد رحبنا بـ"اتفاق الجمعة العظيمة" الذي مكننا من رؤية نقاط التفتيش وهي تُزال".
ليس هناك رابحون مع بريكست باستنثاء رأسماليي الكوارث والمضاربين بالعملات، ومن الصعب رؤية شيء إيجابي فيه بالنسبة لإيرلندا، على وجه الخصوص. ومع ذلك، قد يكون الخروج بمثابة نداء لشحذ همم الفنانين. إذ كان العقد الماضي بائساً إلى حد ما بالنسبة للموسيقى الإيرلنديّة؛ وقد اضطررنا إلى تحمل موكب من الفرق الفاترة والأداءات المنفردة. ويبدو أن كثيرين لا يطمحون أن يكونوا أكثر من فرقة "كولد بلاي" جديدة.
وفي المقابل، مع وجود فرق مثل "فونتين دي سي" و"ميردر كابيتال" و"بيلو كوينز"، ومغني راب مثل كوجاك، عادت الموسيقى الإيرلنديّة في النهاية وارتبطت بقلبها النابض بالسوداوية. ولم ينتج ذلك كليّاً عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك فإن الأمرين مرتبطان ببعضهما.
وأخيراً، يهز ديغان رأسه، "كان هناك كثيرون من عازفي الغيتار الكهربائي الشباب لمدة 10 سنوات... عندما تحدث أمور كثيرة، ستحدث ردة فعل عليها".
© The Independent