تستمر الاحتجاجات العراقية التي انطلقت مطلع أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، للمطالبة بإقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي وحل البرلمان والتحضير لانتخابات مبكرة بقانون جديد، في وقت تتعالى الأصوات السياسية المخونة للحراك الاحتجاجي، فضلاً عن الهجوم الكبير الذي يتعرض له ناشطون على مستوى الطعن بوطنيتهم واتهامات عديدة لهم بأن قوى خارجية تحفز احتجاجاتهم.
ويرى ناشطون أنهم خلقوا، للمرة الأولى على الصعيد العراقي منذ عام 2003، اللحظة الجامعة بحسب تعبيرهم، فيما يشيرون إلى أن احتجاجاتهم الأخيرة كسرت قيود الطائفية على المستوى الاجتماعي وفي كل محافظات العراق.
يقول علاء ستار، وهو ناشط وصحافي، إن "الاحتجاجات خلقت وعي الخروج إلى الشوارع للمطالبة بالحقوق المسلوبة والكرامة المهدورة".
ولفت ستار إلى أن "العراقيين يخرجون اليوم إلى ساحات الاحتجاج، ومن لا يستطيع الخروج لظروف خاصة أو عامة تراهُ يتضامن مع المحتجين بالدعاء والكلمة ويمدهم بالمساعدات اللوجستية".
وبيّن أنه "في بغداد رأيت أبناء الأعظمية وأبناء الكاظمية في ساحة التحرير، صديقي ابن الطائفة السنية رأيته يبكي على أغنية وطنية تطالب العراقيين بالوحدة. نظر إليّ وهو يبكي واحتضنني، ربما لأننا كنّا نحضّر لهذه اللحظات منذ سنوات، وكنّا بانتظارها بلهفة، وها هي تجمعنا معاً بخروجنا للمطالبة بالحقوق".
وتابع "هذه الطبقة السياسية التي اعتمدت الطائفية زائلة لا محالة، وستحاكم".
ويشير مراقبون إلى أن هذا النسق الاحتجاجي على التحاصص الطائفي بات يُقلق الساسة ذوي التوجهات الطائفية، إلى الحد الذي جعلهم يواجهون العراقيين بكل وسائل الترويع والقتل.
وفي سياق الحديث عن عدم اشتراك المحافظات السنية في الاحتجاجات، يرى ستار أن "العراقيين في المناطق المحررة يعيشون حالة خاصة، لديهم ميليشيات تسيطر على مناطقهم، ولديهم قوات أمنية تملك غرفة إشاعة قوية تمنعهم وتخيفهم من التظاهر"، مشيراً إلى أن "السلطة هناك تصوّر أن من يتظاهر داعشي. وهذا خلق جواً من الخوف خلقه السياسيون كي لا يطالب أبناء تلك المناطق بحقوقهم المسلوبة".
ولفت إلى "كل هذه الإجراءات لم تمنعهم من التضامن مع بقية ساحات الاحتجاج، وأؤمن أنه في أي تظاهرة موحدة في بغداد، سيأتي العراقيون كلهم من دهوك والموصل وحتى البصرة، محتجين وكاسرين أطواق الخوف والطائفية والعنصرية، رافعين العلم العراقي فحسب، وهذا عصر جديد يبدأ".
خارج الاصطفافات الطائفية
ويرى مهتدى أبو الجود، وهو ناشط ومدون، يتظاهر منذ بداية الاحتجاجات أن "الشباب العراقي وجد قاعدة الحقوق الكبرى المشتركة، القاعدة التي أتفق عليها القاصي والداني، أبناء الجنوب قبل أبناء المحافظات الغربية والعكس صحيح، وتركوا كل الخلافات المترسبة التي سببتها السياسة الأميركية المُتَبَعة إبان غزو العراق عام 2003".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتابع أنه "منذ دخول داعش تحت أعيُن قوى الاستكبار العالمي وبعد رؤية الخراب الذي صُنِع بفعل فتيل الطائفية، أدرك العراقيون أن الطائفية عدوهم الأول. ورأينا جميعاً كيف استقبل أهل الجنوب إخوتهم أثناء النزوح من المناطق الغربية وكيف استبسلوا في الدفاع عن الأنبار والموصل وصلاح الدين".
لعل اليافطة التي رفعها الشباب في ساحة التحرير يوم 25 أكتوبر والمتضمنة "اليوم نلعن موت الطائفية بشكل نهائي وستقام الفاتحة تحت نصب جواد سليم في وسط بغداد، قلب العالم الممزق"، كانت مقلقة للطبقة السياسية التي تعتمد مبدأ المحاصصة الحزبية والطائفية، ما دفعها بحسب مراقبين إلى محاولة التشكيك بوطنية المحتجين، فيما يرى ناشطون أن هذه الشعارات التي تعلن موت الطائفية في ساحة التحرير هي أدق وصف لانتهاء تلك الحقبة التي أدخلت العراق في مشكلات سياسية وأمنية واقتصادية.
كابوس سياسي
تعيش الطبقة السياسية العراقية في حالة قلق مع تنامي موجة رفض نظام المحاصصة الطائفية بالمطلق، بحسب ناشطين.
وبين أبو الجود أن "هذا ليس مصدر قلق لهم فحسب، بل كابوس مرعب يراودهم في كل لحظة. هذه الثلة السياسية تعتاش على السوق السوداء للسياسة الطائفية، وهي لا تملك مشاريع تنموية لهذا البلد ولا رؤية واضحة لبناء دولة محترمة تليق بتضحيات العراق الذي دافع عن العالم أجمع في ظل غزو داعش".
ولفت إلى أن "كسر النمط الطائفي السائد سياسياً من قبل المحتجين جعل القوى السياسية تتشبث أكثر بالسلطة والكراسي، التي سيكسرها المنتفضون قريباً".
يقول الكاتب والباحث السياسي هشام الموزاني إن "لحظة الاحتجاجات خلخلت النسق السياسي السائد، وهددت البنية السياسية لهذه المنظومة القائمة على الفساد والمحاصصة، ولكن من المبكر اعتبارها لحظة فارقة في التاريخ السياسي العراقي".
وأضاف أن "البعد الطائفي تراجع ربما إلى أدنى مستوياته منذ تأسيس الدولة العراقية، وربما بتطرف مضاد، وهذا شيء مؤسس. لأن التجارب السابقة مازالت حاضرة، خصوصاً سلسلة الحروب الأهلية التي تلقي بظلالها على مفهوم الثقة المجتمعية".
وأشار الموزاني إلى أن "أهم ملاحظة لكسر الطائفية هي أن الاحتجاجات الأخيرة تمركزت بأقوى أشكالها في الوسط والجنوب الشيعي، حتى أن تأخرها في المحافظات الغربية ذات الغالبية السنية هو لأسباب موضوعية، وهي تأتي بعد مرحلة النصر على داعش. وهنا، يظهر أن البعد الطائفي قد تلاشى أمام مصالح الأفراد كمواطنين عراقيين بغض النظر عن طوائفهم، ليصبح الإقصاء والتهميش والفقر والبطالة عوامل جامعة للهوية العراقية قيد التنفيذ. فعراق ما بعد 2003 يمر في معضلة إعادة تعريف نفسه من دون ديكتاتور يصهر المجتمع في بوتقة وطنية قسراً".
وأضاف "ما يقلق الطبقة السياسية هو أن وجودها مرتبط بحالة الانشقاق الاجتماعي والمذهبي، وديمومتها في جزء كبير منها قائمة على بقاء الصراع الطائفي، لذلك ترى في هذا الحراك تهديداً وجودياً يجب أن يُخوَّن ويُقمع".