الشوارع تشبه ساكنيها، يتطبّعون بطباعها، إذا كان شارعاً مزدحماً وحركته متوترة، فسكّانه وروّاده يسابقون الزمن ويجرون هنا وهناك لإنجاز مصالحهم، على عكس الشوارع الهادئة الجانبية.. مئات الآلاف يمشون في شوارع القاهرة يوميّاً ويردّدون أسماءها بمنتهى الثقة فيما بينهم، ولكن هل هذه فعلاً أسماؤها الحقيقيّة؟.. الحقيقة المؤكدة أنه حتى أبسط الشوارع وأشهرها والتي يتداول الجمهور اسمها بيقين بالغ قد يكون اسمها الموثَّق بعيداً كلّ البعد عما نعرفه!
شارع الأهرام
يعتبر شارع الهرم من بديهيات مدينة الجيزة بمصر، حيث يرتاد حيّ الهرم عموماً يوميّاً آلاف المواطنين، ويسير به السكان مع أصحاب الحوائج القادمين من باقي محافظات مصر، الحقيقة التي قد تفاجئ البعض أن شارع الهرم لم يكن يوماً يحمل هذا الاسم، فالاسم المعتمد للشارع الشهير هو "الأهرام"، ولكن الذاكرة الجمعيّة لرواده اختارت مفرد الكلمة، واكتفت بـ"الهرم"، ليكون اسماً معتمداً لواحد من أشهر شوارع القاهرة الكبرى.
وبحسب ما جاء في كتاب الروائي حمدي أبو جليل "القاهرة.. شوارع وحكايات"، فشارع الهرم الذي أنشئ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، يعتبر من أطول شوارع القاهرة "11 كيلو مترا"، وسمّي تيمّناً بقربه من منطقة الأهرام، أحد أبرز معالم الجيزة ومقصد السيّاح، وبه أيضا أكثر من 30 فندقاً.
شاع ثروت أم شارع زويل؟
اختيارات الجمهور لأسماء الشوارع قد تكون مرهونة بابتكار اسم جديد سلس وسهل الحفظ، ومناسب أيضا لمعالم الشارع وأبرز مبانيه، وقد تكون مرهونة أيضا بالاحتفاظ بالاسم القديم، خصوصا وأن تغيير أسماء الشوارع بين فترة وأخرى قد يرهق الذاكرة العامة، ويجعل الجمهور يأبى إلا أن يحتفظ بالاسم القديم الذي يجدونه يليق أكثر بالشارع، وهو أمر واضح جدا في شارع الدكتور أحمد زويل المحيط بجامعة القاهرة، حيث لا أحد تقريبّاً من رواد المكان يعرف أن اسم الشارع هو أحمد زويل (العالِم المصري الراحل أحد أبرز العرب الحاصلين على نوبل في مجال الكيمياء)، ويفضّلون الاحتفاظ باسمه القديم "ثروت"!
البعض أيضا ما يزال يصرّ على أن شارع طلعت حرب في وسط القاهرة يحمل اسم سليمان باشا، وهو الكولونيل سليمان باشا الفرنساوي الذي أسهم في تأسيس الجيش المصري في عصر محمد علي باشا، فيما هذا هو اسمه القديم الذي انتهى العمل به منذ ستينيّات القرن الماضي، ولكن الاسم الخاطئ والأصليّ في الحقيقة ظل متوارثاً خصوصا بالنسبة إلى الأجيال الأكبر سناً.
التاريخ الحيّ في شوارع القاهرة
بدأ اعتماد ترقيم وتسمية شوارع مصر منذ مطلع القرن التاسع عشر مع بداية حكم محمد علي لمصر، وهو الأمر الذي يؤكد عليه الموقع الرسمي للهيئة العامة للاستعلامات بمصر، مع استعراض شامل لأبرز حكايات تسمية الشوارع المهمة بالقاهرة. التوجه لتسمية شوارع مصر يعتبر أمراً عريقاً جدا في نظر الكاتب والباحث ميشيل حنا، الذي لديه سلسلة توثّق تواريخ مجموعة من شوارع القاهرة والمحافظات سوف تُطرح قريباً في كتاب، ويقول لـ"اندبندنت عربية" إنه بالطبع من الصعب السيطرة على الذاكرة الشعبية لأسماء وشوارع القاهرة أو غيرها، ولكن يجب أن يُبذل مزيد من الجهد من قبل المعنيين للحفاظ على الأسماء القديمة، لأن هذا ببساطة في رأيه يعتبر التاريخ الحيّ للمدينة، ويتابع "من الطبيعي أن تستجدّ أسماء جديدة تستحق أن يطلق اسمها على الشوارع، سواء علماء أو أبطال أو غيره، ولكن الأفضل أن يتمّ ذلك في المدن الجديدة والتي ما تزال في طور البناء والتأسيس لتصنع حضارتها وتاريخها وفقا لعصرها، فالأسلم ألا تتغير الشوارع القديمة والعريقة أبدا، وبالتالي أية قرارات جديدة تخصّ الأسماء يمكن أن تنفذ في المناطق الجديدة"، لافتا إلى أنه من ناحية فالجمهور يظلّ محتفظاً بالاسم القديم، والاسم الجديد نفسه يظل عابراً، ومن ناحية أخرى فالإسهام بالتمسّك بالأسماء الأولى هو حماية للتراث.
ميشيل حنا أشار إلى أن عددا كبيرا من شوارع مصر الجديدة، والتي تحمل في الأساس أسماء محافظات ومدنا أخرى بباقي مصر مثل "منوف" وغيره، تتغير تباعا وتستبدل، لافتا إلى أنه مع ذلك ما يزال الجمهور يتعامل بالأسماء القديمة.
أول دولة أفريقية تعتمد تسمية الشوارع
الباحث والكاتب ميشيل حنا شدّد أيضا في كلامه لـ"اندبندنت عربية" على أن مصر أول دولة أفريقية بدأت نظام تسمية وترقيم الشوارع، وأن الأمر كان بناء على تخطيط مسبق ودراسة عميقة، وبالتالي فالتمسك بالتخطيط والترقيم القديم يعتبر نوعا من حفظ الأصول التاريخية، ضارباً المثل بشارع قصر اللؤلؤة في منطقة الفجّالة، حيث كان قصرا يحمل هذا الاسم وموجودا بالفعل في المكان، وهو قصر أقيم أيام الفاطميين، إذا في رأيه فإن كل شارع من هذه الشوارع يحمل جزءا أو فصلا من تاريخ البلد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
شارع "عماد الدين" بالقاهرة، الذي سمي تيمناً باسم أحد الشيوخ المعلمين، اسم الجزء الأكبر منه الموثق حاليا هو محمد فريد، ولكن بحكم التعوّد فاسم "عماد الدين" هو الأكثر حضورا على ألسنة المارّة.
كما أنه لا أحد تقريبا يتعامل مع شارع "صلاح سالم"، الرئيسي بمنطقة الجيزة باسمه الحقيقي والمعتمد رسمياً، فتارةً يعرفه رواد المكان باسمه القديم "ربيع الجيزي"، وتارة يتخذون من محطة قطار الصعيد القائمة به معلماً للشارع كله ويسمونه شارع "المحطة"، على الرغم من وجود شارع فرعي آخر قريب يحمل اسم "المحطة".
إذن للذاكرة الجمعية والشعبية كلمتها، حيث أن خريطة تخطيط شوارع القاهرة وأسمائها تكون حاضرة في أذهان الجمهور بطريقة خاصة جدا قد لا تتوافق في بعض الأوقات مع ما تقرّه الأوراق الرسمية.