يوم السبت الماضي 7/12/2019 أقفلت بورصة المرشحين للانتخابات البرلمانية الإيرانية على نحو 12000 ممن سجلوا أسماءهم في دوائر وزارة الداخلية للتنافس على 290 مقعداً برلمانياً، بعد إحرازهم الشروط الإدارية والقانونية بانتظار الشروط الدستورية والأهم الشرعية، ما يعني أن جميع المرشحين لن يكونوا حكماً من بين الأسماء التي ستشارك في السباق الانتخابي في موعده المقرر في شهر فبراير (شباط) المقبل 2020، لأن عليهم المرور من مصفاة لجنة دراسة الأهلية في مجلس صيانة الدستور، التي يصفها الكثير من الناشطين السياسيين والحزبيين بأنها تشبه "المقصلة" التي تفتك بكل شخصية لا تتوافر فيها الشروط الضيقة التي حددها النظام للعبور إلى جنة يوم الاقتراع.
ومن المفترض أن تبدأ لجنة دراسة الأهلية عملها مباشرة بعد إقفال باب الترشح، لتعلن نتائج مداولاتها خلال المدة القانونية التي تسبق الموعد الرسمي لانطلاق الدعاية الانتخابية، ومن المتوقع أن يعود إلى الواجهة مرة جديدة النقاش والجدل حول دستورية هذه اللجنة وقانونيتها، خصوصاً من قبل القوى والأحزاب المتضررة التي تحظى بقاعدة شعبية قد تفوق القاعدة التي يتمتع بها أحزاب التيار المحافظ، وقد تتجاوز شعبية أحد الأحزاب منفرداً حجم قاعدة التيار المحافظ مجتمعاً، إلا أنها لا تفتقر إلى شرعية السلطة لفرض مشاركتها أو رأيها على السياسات العامة للدولة والنظام. وهذا الجدل الذي هز صلابة أحد أبرز أذرع النظام المنبثقة من إحدى المؤسسات الدستورية، إلا أنه لم يؤسس للإطاحة به أو تقليص دوره في النيل من الشخصيات السياسية التي تحمل خطاباً معارضاً لتيار النظام ومواقف ناقدة لسياسات قيادته أو مؤسساته.
إن ما قد يميز الانتخابات البرلمانية المقبلة أنها شهدت نوعاً جديداً من "تقويم الأهلية الذاتي" الذي مارسته بعض الشخصيات المحورية، المحسوبة على التيار المحافظ أو تلك المحسوبة على التيارين المعتدل أو الإصلاحي، ففضلت الانسحاب من المشهد الانتخابي مختارة بعد أن وصلت إلى قناعة واضحة بصعوبة العبور من مقصلة هذه اللجنة التي وإن كانت تمارس دورها في إسقاط الأسماء الاستعراضية، إلا أنها لا تتهاون في استهداف الشخصيات التي جاهرت في تأكيد تمايزها أو معارضتها لسياسات النظام، خصوصاً الداخلية والاقتصادية والاجتماعية والحريات العامة والخاصة.
التطورات الأخيرة والاحتجاجات التي شهدتها أكثر من 25 محافظة من أصل 31 في كل إيران، والمواجهات العنيفة التي حصلت في شوارع المدن بين المتظاهرين والأجهزة الأمنية التابعة لوزارتي الداخلية والاستخبارات أو تلك التابعة لحرس الثورة، وضعت النظام وقيادته أمام خيارات معقدة ومربكة، وقد تجبره على "تجرع" سم المزيد من التشدد في التعامل مع مخرجات العملية الانتخابية ومحاولة ضبطها مسبقاً منعاً لحصول أي مفاجآت لا يرغب فيها ولا يريدها. خصوصاً أنه رفع مستوى المواجهة مع مطالب الشارع المعيشية إلى مستوى الحديث عن "مؤامرة" تستهدف الإطاحة بالنظام حاولت "ركوب" المطالب المحقة لشرائح من الإيرانيين الذين أصابتهم ترددات القرارات الاقتصادية التي اتخذها النظام في موضوع رفع الدعم عن مادة البنزين. وعليه فإن النظام يجد نفسه أمام خطر وجودي في حال أبدى أي ليونة في التعامل مع القوى الداخلية، خصوصاً في الانتخابات البرلمانية المقبلة التي تعتبر اختباراً حقيقياً هذه المرة لسلطته وقدرته على ضبط الأمور والسيطرة عليها.
وإذا ما كانت هذه التحديات ستفرض على النظام المزيد من سياسات التشدد وإلغاء ومحاصرة ومحاربة أي مصدر يعتبره أو يرى فيه خطراً على سلطته وتماسكه، فإن الدلالات التي يكشف عنها قرار رئيس البرلمان الحالي علي لاريجاني الانسحاب من سباق الانتخابات يشكل مؤشراً واضحاً على ما هو أبعد من المشاركة أو عدمها، مع الأخذ في الاعتبار المعركة التي شنتها بعض القوى المحافظة ضد لاريجاني ومحاصرته وتوجيه الاتهامات له بالميل نحو المعسكر الآخر القريب من رئيس الجمهورية ومراعاة القوى الإصلاحية، وقد وجد هذا التوجه نفسه من خلال القرار المبكر الذي اتخذه التيار المحافظ في تشكيل لوائحه الانتخابية عن مدينة قم التي تعتبر الدائرة الانتخابية للاريجاني، عندما رفض إدراج اسمه على هذه اللائحة. فضلاً عن المعركة القانونية التي شنها رئيس السلطة القضائية إبراهيم رئيسي على سلفه صادق لاريجاني واتهام فريق الأخير بالضلوع في عمليات فساد واسعة لا تقف عند حدود مسؤولين في مكتبه عندما كان على رأس السلطة القضائية، بل تعدتها لتشمل أفراد عائلة لاريجاني بمن فيهم رئيس البرلمان علي لاريجاني.
بعض المراقبين يعتقد بأن خروج لاريجاني من سباق الانتخابات البرلمانية يأتي على خلفية إعداده ليكون مرشح النظام للانتخابات الرئاسية التي ستجرى بعد نحو سنتين، إلا أن هذا الأمر ومع إمكانية حصوله يبقى في دائرة التوقعات التي قد تعارضها بعض الوقائع والمؤشرات، خصوصاً أن الابتعاد عن مواقع القرار يساهم في تقليل حظوظه في الوصول إلى هذا المنصب أو أن يكون المرشح الأقوى لذلك، وتجربة المستشار الأعلى للمرشد الإيراني علي ولايتي تعتبر مؤشراً على الرغم من كل الدعم الذي حصل عليه من المرشد ومراكز القرار في النظام.
وقد تكون الدوافع التي حدت بلاريجاني الانسحاب من الانتخابات، تلك التي تعود إلى الآليات التي جرى اتباعها في السنوات الأخيرة وتحديداً منذ عام 2015 في التعامل مع البرلمان وتقليص دوره في الحياة السياسية للنظام وقللت من موقعه كسلطة أساسية ومقرره و"على رأس الأمور" بحسب تعبير المؤسس آية الله الخميني، إذ سلب البرلمان أي دور مشارك في ما يتعلق بمناقشة أو المصادقة على الاتفاق النووي، وصولاً إلى استبعاده كلياً عن مجريات النقاشات التي رافقت القرار الذي أصدره المرشد الأعلى في ما يتعلق برفع الدعم عن البنزين والذي أدى إلى موجة الاعتراضات الأخيرة والمواجهات الدامية، إضافة إلى سلب حقه في عقد جلسة لمناقشة تداعيات هذا القرار وصوابية اتخاذ مثل هذا القرار. بالتالي فإن لاريجاني الذي يعتقد بشراكة البرلمان الحقيقية في صياغة قرارات النظام الاستراتيجية بات على قناعة بأن البرلمان فقد خصوصياته التشريعية وسلطة المحاسبة والمراقبة، بالتالي بات هذا الموقع بحاجة إلى شخصية لا تبدي أي نوع من أنواع المعارضة أو الاعتراض أو النقاش، وبات الانسحاب الخيار الأفضل إفساحاً في المجال أمام قيادة النظام للإتيان بالشخصية التي تنفذ أوامرها من دون أي إمكانية اعتراض.
من هنا يمكن القول إن النظام الإيراني يتجه نحو مزيد من المركزية في القرار على حساب المراكز التي شكلت في الماضي رافعة لسلطته وقدرته، وهذا يعني أن القيادة باتت تشعر بحجم المخاطر التي تحيط وتحيق بها في المرحلة المقبلة، وهي إن كانت مجبرة على إبداء ليونة أو تقديم تنازلات في الملفات الإقليمية، فإنها لن تتسامح أو تتهاون في التعامل مع الساحة الداخلية والإمساك بها والتضييق على أي مصدر محتمل للخطر والتهديد.