أمضت بريطانيا أسابيع عدة في خضم حملة انتخابية حامية استخدمت فيها أمضى الأساليب المنطقية والدعائية والعاطفية، بغية تجاوز ورطة بريكست. وبعد تراجع حزب البريكست من الساحة، بضغط من مموليه، ثم هجرانه من رموز انضمت إليه أخيرا، أصبح المجال مفتوحا من قوى اليمين ليقطف بوريس جونسون الثمار يوم الاقتراع، وهذا ما فتأت استطلاعات الرأي تسجله كي تعطيه أرجحية بين 7 إلى 12 نقطة.
غير أن تجربة تيريزا ماي الفاشلة في تحقيق فوز باهر في انتخابات طارئة قد أدخل التوجس لدى مخططي حزب المحافظين من البناء على التفوق الرقمي والالتفات إلى التصويت المصلحي لأتباع تيار البقاء في الاتحاد الأوروبي في 20 دائرة، قد تفضي إلى انتصار هزيل يشبه الوضع الحالي.
اتّبعت حملة بوريس جونسون الانتخابية المنحى الهجومي من أول خطوة ضمن خطوط عدة. أولا، استغلال "كاريزما" جونسون مع مختلف شرائح المجتمع كي يعوّض صفة سلبية تلحق به، وهي افتقاد الصدقية في وعوده مع تضخيمها. ثانيا، تجاهل عروض حزب البريكست للتعاون، ثم انسحاب مرشحي زعيمه نايجل فاراج من 317 دائرة انتخابية، مع التركيز في الباقي على منازلة حزب العمال في دوائر هشة في نسبة تأييدها له. ثالثا، مصالحة جونسون لنقابة الصناعيين البريطانيين كونه انتقدها سابقا مع حي المال والأعمال والبنوك. رابعا، تحاشي جونسون الالتصاق بالرئيس ترمب خلال زيارته إلى لندن لحضور قمة الناتو، خشية من ارتداداتها السلبية كون ترمب غير محبوب في بريطانيا. هذا برغم أن بطاقة جونسون الرابحة تتمثل في عقد اتفاق تجاري ضخم مع واشنطن في أقرب وقت، يعوّض إلى حد كبير خسائر الانسحاب من الاتحاد الأوروبي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
خامسا، متابعة التخويف من شخصية جيريمي كوربين الرخوة إزاء مسألة الدفاع النووي عن بريطانيا ونفوره من قطاع صناعة السلاح، المرتبط استراتيجيا مع الولايات المتحدة ومع أسواق تصدير عربية وأميركية مربحة. أخيرا، يأمل جونسون الاستفادة من نفور زعماء الأقلية اليهودية ورموز كبار من حزب العمال من شخصية كوربين ووصمه بمعاداة السامية.
بالمقابل، سعى حزب العمال إلى التركيز على بطاقاته التقليدية الرابحة كي يعوّض سمات ضعف في فقدان "الكاريزما" عند كوربين، رغم تفوقه في الصدقية على جونسون بعد الحوارات الثنائية التلفزيونية بينهما. أولا، إبراز وضعية القطاع الصحي والخدمات العامة المتردية مع تحميل حكومات حزب المحافظين المتعاقبة تبعات سياسة التقشف وسوء الإدارة. ثانيا، حشر جونسون في شعار "معا لخدمة الكثرة وليس القلة"، عبر التلويح بفرض ضرائب إضافية على نسبة الـ1% الثرية والشركات المتعددة (الأميركية جوهريا) وعلى الأجانب المتهربين منها.
ثالثا، الوعد بإنفاق عشرات بلايين الجنيهات على البنية التحتية والصحية والتعليمية، مع استدرار تأييد الطلاب بالوعد بالتخلص من مشكلة القروض التعليمية، التي يتوجب عليهم دفعها مع فائدة عند عملهم. رابعا، الوعد بإعادة التفاوض على طريقة أفضل للخروج من الاتحاد الأوروبي، ثم وضع الخيار لاستفتاء ثانٍ، مع اتّباع كوربين موقع الحكم غير المنحاز. أخيرا، أمل قيادة الحزب في كسب أصوات تيار البقاء بالاتحاد أو نصف اتفاق للخروج، خصوصا بعد مناشدة جون ميجور وطوني بلير الناخبين استخدام التصويت التكتيكي.
أما حزب الديمقراطيين الأحرار، فقد بدأ الحملة باندفاع كبير مع انضمام عدة نواب محافظين وعمال له، لكنه تراجع كون زعيمته، جو سوينسون، رفضت سحب بعض المرشحين كي تؤمن فوزا لمرشحين عمال في دوائر يمكن هزيمة المحافظين فيها، مثل كانتربري (مقاطعة كنت) وهاستينغ (ساسكس). ويمكن لتيار البقاء أن يرجح فوز مرشحيه في 3 دوائر لندنيّة عطفا على دائرة فنشلي التي ترشحت فيها النائبة لوسيانا بيرغر، التي انفصلت عن حزب العمال بتهمة معاداة السامية.
ينبغي القول إن مشكلة الإرهاب والسياسة الخارجية تؤثر إلى حد ما في الانتخابات، لكنها لن تكون العامل الحاسم. فقد تبين أن الوضع الاقتصادي المترنح يغلب على تفكير الناخبين عطفا على ورطة بريكست التي لم تجد حلا بعد 4 أعوام من الاستفتاء.
ويمكن القول إن وضع السوق العقارية المدعومة بسياسة إقراض حكومية، عبر فائدة مصرفية زهيدة، تفيد المالكين السابقين، لكنها توصد الباب بإحكام أمام الجيل الجديد. واقتصر الانتعاش العمراني على المراكز التجارية الحديثة والمساكن التي يفوق ثمنها مليون جنيه إسترليني، وهذا أفاد لندن وجنوب شرقي بريطانيا، لكنه ضرب شمال ووسط إنجلترا خصوصا. وسيحصل تغيير في إدارة بنك إنجلترا المركزي بمغادرة الكندي مارك كارني، مع صعوبة التعامل مع بريكست حال حصوله، في حالة فرض الاتحاد الأوروبي رسوما على التعاملات المالية البريطانية.
من الواضح حاليا أن التصويت التكتيكي هو سيد الساحة، بشكل مخالف لتقاليد التصويت في بريطانيا. نعم، حزب العمال والمحافظين عندهما كتلة صلبة من 30% لكل حزب فيما يجري التنافس على 20% من الأصوات المتأرجحة.
لكن عمق انقسام بريكست داخل الأحزاب والعائلات والنقابات العمالية والجمعيات المهنية جعل تغيير التصويت لصالح المرشح يرتبط كثيرا بشخصيته ورأيه إزاء هذه المسألة. ففي إحدى الدوائر، انسحب مرشح حزب الخضر لصالح مرشح العمال، لهزيمة مرشح المحافظين، لكن مرشحة الديمقراطيين الأحرار رفضت بحزم. غير أن هناك قوى وتيارات تنشط في مواقع التواصل الاجتماعي لتوجيه الناخبين لتأييد مرشح مؤيد للبقاء في الاتحاد أو معارض له، بغية تأمين أكثرية برلمانية تؤيد أحد الخيارين وعابرة للأحزاب.
ويبقى السؤال الكبير: هل يسمح نُظّار الأحزاب بحرية نوابهم بعد يوم الاقتراع؟ أم يلاقوا الطرد كما حصل مع 22 نائبا محافظا منذ عدة أسابيع؟ وهذا السيناريو سيحصل في حالة وصول برلمان لا يتمتع فيه حزب بالأغلبية، بما يعني قيمة كل صوت بمفرده مع خيار الحكومة أو ضدها. ويبقى أمل الناخب البريطاني أن يحمل يوم الجمعة 13 ديسمبر (كانون الأول) حلا لصداع سياسي أدخل النخبة الحاكمة في حالة من التردد والجمود بشأن تقرير مستقبل بريطانيا للأجيال المقبلة!