في ظل المؤشرات السلبية التي تتوالى، خصوصا فيما يتعلق بمعدلات النمو العالمي التي تشير التوقعات إلى أنها تسير في اتجاه نزولي، كانت الآمال تتعلق بانفراج الأزمة التجارية بين واشنطن وبكين، التي عصفت بمعدلات التجارة العالمية في وقت كانت الاقتصاديات تترقب إجراءات جديدة تنتشلها من حالة الوهن والركود.
لكن على ما يبدو، فإن مجموعة من الأزمات الجديدة بدأت تلوح في الأفق، ومثلما كان مصدرها القطاع المالي خلال الأزمة المالية التي ضربت العالم في عام 2008، فإن القطاع نفسه يدفع بأزمة جديدة ربما تضرب الاقتصاد العالمي وستكون أعنف من الأزمة السابقة، خاصة مع الأزمات الأخرى المتعلقة بمعدلات النمو المتباطئ وركود التجارة العالمية وأيضاً التوقعات الخاصة بدخول الاقتصاد العالمي في موجة ركود عنيفة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
البيانات الجديدة أكثر من "قاتمة"
في تحليل حديث، لوكالة "بلومبيرغ"، فإنه وقبل عقد من الزمن، كنا نظن أن الأزمة المصرفية قد انتهت، وأن التوسع الظاهر بالفعل في الاقتصاديات الناشئة سوف ينتشر إلى العالم الصناعي، وبالفعل حدث تعافٍ اقتصادي، لكنه كان بطيئاً بشكل محبط.
وتواصل المؤسسات الدولية بقيادة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي خفض التقديرات والتوقعات الخاصة بمعدل النمو العالمي خلال العامين الحالي والمقبل، لكن على ما يبدو فإن كل البيانات تجلب أخباراً قاتمة وغموضاً يلوح في الأفق حول مستقبل الاقتصاد العالمي خلال الفترة المقبلة.
ويرى التحليل أنه إذا كانت المشكلة قبل الأزمة المالية تتمثل في الاقتراض أكثر مما ينبغي والإنفاق الزائد، فالمشكلة اليوم تتمثل في الاقتراض الزائد والإنفاق القليل للغاية، والسؤال هنا، لماذا الاقتصاد العالمي عالق في فخ النمو المنخفض؟
وتشير البيانات والأرقام إلى أنه أعقب فترة الكساد العظيم في عام 1930 ثورة سياسية وثورة فكرية في الاقتصاد، وهذه المرة برزت الاضطرابات السياسية ولكن لا يوجد سؤال مماثل حول الأفكار التي تقوم عليها السياسة الاقتصادية، وهذا يحتاج إلى التغيير.
ويعمل صناع السياسة الاقتصادية الحديثة في عالم يخيم عليه حالة عدم اليقين، حيث إنه لا يعرفون ما يمكن أن يحدث بعد ذلك - وفي ظل هذه الظروف، يجب النظر إلى النماذج الاقتصادية بشكل جديد. فالسؤال ليس ما إذا كانت النماذج الاقتصادية صحيحة أم خاطئة، ولكن السؤال يجب أن يكون هل هي مفيدة أم لا؟، واليوم فإن السمات الرئيسة للنماذج القياسية تقودنا إلى الخطأ في الحكم على كيفية إخراج الاقتصاد العالمي من مصيدة النمو المنخفض، وكيفية الاستعداد للأزمة المالية التالية.
متى ظهر مفهوم "الركود المزمن"؟
التحليل أشار إلى أنه ومنذ ست سنوات، أعاد وزير الخزانة الأميركي السابق وكبير الاقتصاديين في البنك الدولي، لاري سامرز، تقديم مفهوم "الركود المزمن" أي الركود طويل الآجل إلى النقاش الاقتصادي. وترجع الحكمة التقليدية هذا النمو البطيء المستمر- الذي يطلق عليه الركود العظيم - إلى حد كبير إلى عوامل العرض، ويبدو أن هذا مناسب لأن النمو الأساسي للإنتاجية قد انخفض.
ولكن قصة جانب العرض مناسبة أيضاً بشكل مثير للشك، لأن البديل - الركود المزمن الذي يقوده الطلب - يتماشى بشكل غير مريح مع النماذج السائدة للسياسة النقدية. ويجد هذا النموذج صعوبة في قبول فكرة أن الاستثمار المطلوب لتحفيز الإنتاج قد يعيقه عدم اليقين الشديد، ونتيجة لذلك فإنه يقبل بسهولة فكرة أن اقتصاديات السوق تستقر ذاتياً.
لذلك فإن الهروب من فخ النمو المنخفض الناجم عن حالة عدم اليقين لا يشبه الخروج من "الضعف وفقاً للنظرية الكينزية"، التي تستخدم حوافز نقدية أو مالية مؤقتة تعيد الطلب إلى مسار الاتجاه.
ويتطلب الأمر بدلاً من ذلك إعادة تخصيص الموارد من عنصر طلب إلى آخر، ومن قطاع اقتصادي إلى آخر، ومن شركة إلى أخرى. وفي بعض الحالات، كان العالم يستثمر بشكل مبالغ فيه، فالصين وألمانيا على سبيل المثال استثمرا في التصنيع من أجل التصدير، في حين كان الاستثمار غير كاف في قطاعات أخرى - في البنية التحتية للعديد من الاقتصاديات المتقدمة على سبيل المثال.
وبالإضافة إلى ذلك ستحتاج قيم الأصول في العديد من القطاعات إلى خفضها إلى مستويات أكثر واقعية، ويجب إعادة رسملة بعض الوسطاء الماليين، وتمثل هذه نقاط الضعف الهيكلية وسيكون هناك خطر حدوث أزمة مالية أخرى ما لم يتم الانتباه إليها.
الحل لا يتمثل في إصلاح السياسة النقدية فقط
التحليل أشار إلى أن العلاج لا يتمثل في السياسة النقدية، ولكنه يبرز في اتخاذ تدابير لدعم إعادة تخصيص الموارد اللازمة حيث يجب أن تكون أسعار الصرف، والإصلاحات في جانب العرض، والسياسات لتصحيح معدلات الادخار الوطنية غير المستدامة جزءاً من هذا الإطار.
وبالنظر إلى أوروبا، قد يساعد المزيد من التيسير النقدي وضعف اليورو في تعافي دول جنوب القارة، لكنه سيزيد من تشويه هيكل الاقتصاديات في دول الشمال، وإلى أن تتمكن فرنسا وألمانيا من حل خلافاتهما حول الإصلاحات الهيكلية للاتحاد النقدي، فإن التحفيز النقدي على نطاق أوسع لا يخفي المشكلات بشكل مؤقت فحسب ولكن يعمقها أيضاً.
وهناك حاجة أيضاً إلى تفكير جديد عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع الأزمة المالية، حيث إن الأزمة الأخير أدت إلى الركود العظيم وكان من الواضح أنه كان مكلفاً من حيث الإنتاج المفقود، لكنه كان مكلفاً أيضاً من الناحية المالية.
وكشفت دراسة حديثة لصندوق النقد الدولي أن تكلفة التدخلات، بما في ذلك الضمانات لدعم المؤسسات المالية بين عامي 2007 و2017 في 37 دولة، بلغت 3.5 تريليون دولار، كما أصبح الضخ غير المسبوق للسيولة مبدأً توجيهياً لإدارة الأزمات.
لكن إذا كان من المحتمل أن تضطر الحكومة لضمان جميع الديون التي يصدرها القطاع المالي في أزمة ما، فإن القضية ليست ما إذا كان بنك الاحتياطي الفيدرالي أو البنوك المركزية الأخرى ستكون قادرة على تقديم هذه الضمانات؛ ولكنها تتمثل في ابتكار تسوية سياسية يتم بموجبها قبول حدود تغير تاريخ الاستحقاق للقطاع الخاص في المقابل، نحن نتحدث فعلياً عن ضريبة على تغير الاستحقاق (قيام المؤسسات المالية باقتراض الأموال لآجال قصيرة مقارنة بإقراضها على آجل طويل).
ومن الضرورة إنشاء إطار مسبق لتوفير سيولة البنك المركزي، هذا لأنه من المستحيل معرفة متى يمكن أن يتحول حريق صغير ربما يكون قادراً على تدمير مؤسسة أو أكثر إلى حريق يهدد النظام بأكمله. وبمجرد وقوع الأزمة، قد يكون فات الأوان خلق شرعية سياسية للاستجابة إلى الأزمة في حالات الطوارئ.
الكونغرس الأميركي يضيف مزيداً من القيود
الوكالة أشارت إلى أن الكونغرس الأميركي تمكن من كبح قدرة وزارة الخزانة والاحتياطي الفيدرالي على مواجهة الأزمة المقبلة، ولا ينبغي أن يكون هذا مفاجئاً، لأن الإجراءات التي اتخذت خلال الأزمة لم تكن جزءاً من نظام وافق عليه الكونغرس مسبقاً.
وكما قال رئيس الاحتياطي الفيدرالي السابق ومسؤولون أميركيون آخرون، فإن هذه القيود غير مرغوب فيها - لكن سيتم إزالتها فقط في سياق إطار عمل مسبق واضح يجعل البنوك ومؤسسات تحويل الاستحقاق الأخرى جزءاً من نظام تأمين يتم قبوله بشكل جيد.
وسوف يتحسن الاقتصاد السياسي لبنوك الإنقاذ إذا كان من الواضح أن البنوك قد اشتركت في الأوقات الجيدة في نظام تأمين يحق لها الاقتراض في الأوقات العصيبة. بالإضافة إلى ذلك، عدم اليقين الشامل يعني أن سيولة أصول معينة في بعض الأزمات المستقبلية ستكون غير معروفة، وهذا ما يدعو أيضاً إلى وجود نظام تأمين - يضمن أن يتم تغطية جميع الالتزامات القابلة للتشغيل - بدلاً من التنظيم لضمان أن السيولة كافية.
وتجمع الاستجابة إلى الأزمة المالية التنظيم المفصل للغاية مع الحث على مزيد من الحريات لمؤسسات الإنقاذ، وهذا غير مستحب. ويفرض التنظيم المعقد تكاليف غير ضرورية للامتثال ويعطي إحساساً خاطئاً بالأمان، وغياب إطار مسبق تم الاتفاق عليه يتطلب موارد غير محدودة تقريباً بدون السلطة السياسية المناسبة.
ويحتاج الاحتياطي الفيدرالي والبنوك المركزية الأخرى إلى مساعدة المشرعين لمعرفة مدى ضعف النظم المالية في حالة حدوث أزمة في المستقبل. وفي المرة المقبلة، سيواجه الكونغرس اختياراً بين حدوث "يوم قيامة على المستوى المالي" أو تعليق القواعد التي أدخلها بعد الأزمة الأخيرة للحد من قدرة الاحتياطي الفيدرالي على الإقراض.
وتجنب هذا الخيار يتطلب تفكيراً جدياً جذرياً حول مقرض الملاذ الأخير - ويفضل قبل أن تصبح الحاجة إلى "الملاذ الأخير" حقيقة واقعية.
تخفيضات الفائدة الأميركية تقلص من توقعات الركود
وفيما تشير علامات الركود الذي من المتوقع أن يضرب العالم سوف ينطلق من السوق الأميركية، أشار تقرير حديث، إلى أن الاقتصاد الأميركي يتجه إلى عام 2020 بوتيرة ثابتة، ونمو مستدام بعد سلسلة من إجراءات خفض معدل الفائدة وحل تهديدين يتعلقان بالتجارة مما أدى إلى إنهاء مخاطر الركود الاقتصادي تقريبا.
وأوضح أن هذا يمثل تحولا جذريا في الزخم منذ أغسطس (آب) الماضي عندما تنبأ البعض بفرصة 50% للهبوط الذى يبدأ بحلول نهاية العام المقبل. وينسب العديد من خبراء الاقتصاد الفضل في ذلك إلى سلسلة التخفيضات في أسعار الفائدة التي أقرها مجلس الاحتياطي الفيدرالي وتحسن الصورة التجارية قليلا، مما دفع سوق الأسهم إلى مستويات قياسية جديدة، ودفع المتنبئين إلى تعزيز توقعاتهم بشأن المدى الذي يمكن أن يواصل فيها الاقتصاد النمو وإضافة فرص العمل دون تعثر.
وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب حصل الأسبوع الماضي على موافقة الديموقراطيين على اتفاق تجارى مع كندا والمكسيك يعرف اختصار باسم USCMA، من شأنه أن يبقى معظم السلع المتداولة بين الدول الثلاث معفاة من الرسوم الجمركية. وتم التوصل أيضا إلى اتفاق تجاري أولي مع الصين ألغيت بموجبه التعريفات الضخمة التي كان من المقرر تنفيذها أمس الأحد، مقابل موافقة الصين على شراء حوالى 200 مليار دولار إضافية من السلع الأميركية خلال العامين المقبلين.
لكن على الرغم من أن الصفقات التجارية ليست طموحة كما وعد الرئيس الأميركي، فإنها قللت من أكبر العقبات التي يعانيها الاقتصاد الأميركي، وهي حالة عدم اليقين. ففي حين أن بعض الصناعات لا تزال تواجه تعريفة كبيرة ولا تزال التفاصيل النهائية تتغير بشكل مستمر، إلا أن قادة الأعمال يقولون إنهم على الأقل يعرفون الوضع المحتمل أن يكون في عام 2020، مما يوفر وضوحا أكبر مما كان عليه الحل عندما بدأت الحرب التجارية التي أطلقها دونالد ترمب منذ ما يقرب من عامين.