تبقى الأزمة الليبية الملف الأخطر والأصعب الذي يتهدد أمن تونس واستقرارها، كما يظل تعاطي تونس مع الأزمة دبلوماسياً وأمنياً حجر الأساس لتفادي آثارها الوخيمة على بلد يشكو من أزمات سياسية واقتصادية متتالية.
في الحقيقة، لا وجود لسياسة واضحة حتى الآن من قبل الرئيس التونسي قيس سعيد بشأن طريقة التعامل مع الأزمة الليبية على الرغم من استقباله، في العاشر من ديسمبر (كانون الأول)، رئيس حكومة الوفاق الوطني في ليبيا فايز السراج، وعقب الزيارة كشفت الرئاسة عن موقفها من الصراع الليبي حين دعت إلى ضرورة إيجاد حل للأزمة في إطار الشرعية الدولية، على أن يكون نابعاً من إرادة الليبيين أنفسهم، موضحة أن سعيد جدّد تأكيده على ضرورة إيجاد تسوية سياسية شاملة تخدم مصلحة الشعب الليبي، قائلاً "الشأن الليبي هو شأن تونسي".
هذا الغموض في دور تونس تجاه ما يحصل في ليبيا جعل المراقبين يشعرون بقلق وخيبة أمل.
عزل تونس
ومنذ ذلك التاريخ، وإثر زيارة السراج لم نلمس موقفاً واضحاً لتونس حيال ما يحدث على حدودها الجنوبية على امتداد 170 كيلومتر، وحول ما يحدث في المياه الإقليمية القريبة منها، إثر اتفاقية حكومة "الوفاق الوطني" في ليبيا من جهة وتركيا من جهة أخرى بخصوص إعادة رسم الحدود البحرية.
وفي هذا الشأن، يرى وزير الخارجية الأسبق أحمد ونيّس في تصريح لـ"اندبندنت عربية" أن "القضية تؤثر على حاضر العلاقات التونسية الليبية ومستقبلها"، لافتاً إلى أن "تدخل تركيا وتوقيع اتفاقية مع حكومة السراج حول تحديد الحدود البحرية، أشعل فتيل النار من جديد وأعاد إلى الميدان العمليات العسكرية بقيادة المشير خليفة حفتر، والتي كانت متوقفة منذ أبريل (نيسان).
وفيما يخص استقبال تونس للسراج وتأثير هذه الزيارة على علاقات تونس الدبلوماسية مع ليبيا، يعتقد ونيس أن "استقبال سعيد السراج يندرج في إطار التعامل بالمثل مع كل الأطراف الليبية، لأن حكومة السراج تملك اعترافاً دولياً وهي الطرف الوحيد في ليبيا الذي يتحدث باسم الشرعية الدولية"، بحسب ونيس.
المبادرة الألمانية
وتابع أن "العنصر الجديد الذي يمكن أن يؤثر على موقف تونس دبلوماسياً هو المبادرة الألمانية المتمثلة في ندوة برلين التي ستنظم بداية يناير (كانون الثاني) 2020، التي جرى إقصاء تونس منها بحجة أن الندوة تبحث تداعيات الأزمة الليبية على الأمن الأوروبي"، بحسب التفسير الذي قدمه وزير الخارجية الألماني لنظيره التونسي السابق خميس الحهيناوي.
ويعتقد ونيس أن "تعليل ألمانيا منطقي إذ أصبحت ليبيا المصدر الأول للإرهاب الذي بات يتمركز مقابل السواحل الأوروبية".
ويستخلص الدبلوماسي السابق أن "عزل تونس غير اعتيادي باعتبار أنها صاحبة مبادرة كان لها إجماع عربي خلال القمة العربية الأخيرة، إلا أن هجوم حفتر في أبريل السابق أجّل هذه المبادرة أو بترها".
وقد تكون الأسباب الأخرى اعتبار "تونس المثال الناجح من بين الدول العربية في التعامل مع الأحزاب الإسلامية والتوافق معها".
الصمت والحياد
من جهته، استغرب الصحافي والمحلل السياسي، محمد بوعود في تصريح لـ(اندبندنت عربية) "الموقف السلبي الذي اتّسم بالصمت لحد الآن من قبل الدولة التونسية تجاه التطورات التي تحصل في ليبيا، والمتغيرات السريعة التي تهبّ على العاصمة طرابلس، خصوصاً بعد توقيع اتفاقية أنقرة بين حكومة السراج والرئيس التركي".
وتابع قائلاً "صحيح أن وزارة الخارجية تسير اليوم بوزير تصريف أعمال بالنيابة، ورئاسة الجمهورية قد تكون مشغولة بملفات أهم، لكن لا يعتقد عاقل أن نترك الملف الليبي تتلاعب به كل القوى العالمية والإقليمية ونأخذ نحن دور المتفرّج، فتلك حدودنا، وهي مجالنا الحيوي، وامتدادنا الجغرافي والبشري والطبيعي، وما يمسّها يؤثّر مباشرة، وبعد ساعات معدودة على الأوضاع في تونس، وبالتالي فأمنها هو أمننا المباشر".
مثير للريبة
وأضاف "ليست المرة الأولى التي تقف فيها تونس متفرّجة، فقد سبقتها مراحل عدّة تدخل فيها الجميع إلا تونس، تحت شعار الحياد الإيجابي بين كل الفرقاء الليبيين، وفي الوقت نفسه هو نتيجة عجز عن التصرف في الشأن الليبي، وعجز عن الإقناع والخوف من المبادرة، على الرغم من أن دول الجوار قد سلّمت الملف الليبي هدية إلى تونس في زمن المبادرة الثلاثية، لكن تردد الرئيس الباجي في ذلك الوقت وقلة دراية وزير خارجيته خميس الجهيناوي، ضيّعا على تونس فرصة أن تكون هي صاحبة المبادرة، وأن ترعى هي مفاوضات تدعو إليها، علماً أن كل الأطراف الليبية حينها كانت مستعدة للجلوس مع بعضها برعاية تونسية.
لكن يبدو بحسب تحليل بوعود أن "بعض الضغوط التي كانت تمارس على الراحل الباجي قايد السبسي من قبل بعض القوى داخلياً وإقليمياً جعلته يتردد ويضيّع الفرصة على تونس وعلى الليبيين".
واليوم يبدو المشهد أكثر تعقيداً في ظل حرب معلنة على تخوم العاصمة طرابلس، وفي ظل تهديدات تركية بالتدخل، وفي ظل استيلاءات على المياه الدولية في المتوسط واكتشافات غازية ونفطية هامة، ومعادلات جديدة تُرسم على حدود تونس وقبالة سواحلها، ويرى المحلل السياسي بوعود أن "تونس لا تزال تتمسك بموقف الصمت والحياد"، وهو موقف غير واضح وغير مفهوم بحسب اعتقاده، بل إنه موقف مثير للريبة، خصوصاً أن كل الجهات تسعى إلى الفوز بموطئ قدم في الخرائط الجديدة التي تُرسم للمنطقة، سواء اقتصادياً أو سياسياً، إلا تونس التي تخاطر الآن بفقدان حتى ما يمكن أن يعود عليها بالمنفعة من مرحلة إعادة الإعمار، التي يبدو أنه جرى تقاسمها أيضاً بعيداً من تونس، ولم يبقَ لها إلا التهديدات الأمنية.
موقف مكبّل
"ويبقى الموقف التونسي إلى حد الآن سلبياً وغير مفهوم"، على حد تقدير بوعود، "وأغلب الظن أنه لا يزال مكبّلاً بعاملين أساسيين، علاقة حركة النهضة بحكومة السراج وجماعة المؤتمر الداعمين لها، والتي تمنع الدبلوماسية التونسية من التصرف أو تضع فيتو على الملف الليبي على أساس أنه يعني أصدقاءها فقط، والعامل الثاني هو العجز وعدم إلمام من في الخارجية التونسية والقصر الرئاسي بمجريات الملف الليبي، وافتقادهم إلى محاورين وحلفاء وأصدقاء هناك، يضعون البلاد في الصورة الحقيقية لما يجري على الأرض".
ويعتقد أن "هذا الموقف إذا استمر على هذا الحال، فلن تجني تونس سوى مزيد من تدفّق اللاجئين ومن المصاعب الأمنية، لا أكثر ولا أقل".
ونظراً إلى أهمية الملف وآثاره على تونس، ينظم مركز الدراسات الاستراتيجية حول المغرب العربي، بالاشتراك مع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ندوة أواخر الشهر الحالي، بعنوان "أية سياسة تونسية ممكنة تجاه الوضع في ليبيا" باستضافة أطراف ليبية.