لم يصدق كثير من السودانيين أن شمس الحرية ستشرق في عام 2019، بعد 30 عاماً من الحكم الشمولي، الذي تجلت وحشيته المفرطة في قمعه التظاهرات التي عمت البلاد وأطاحت رئيس النظام السابق عمر البشير بعد 111 يوماً من الحراك الثوري. لذلك، سيظل هذا العام وما شهده من أحداث محزنة ومفرحة عالقاً في ذاكرة كل من شارك وتابع مجريات تلك الأحداث.
فالثورة الشعبية كانت الحدث الأهم والأبرز في السودان هذا العام، فمع مطلعه تمددت في كل مناطق ومدن البلاد، متخذة السلمية شعاراً لها، وسقوط النظام هدفها من دون مساومة، على الرغم من أن دعوات التظاهر جاءت في بداية الحراك بسبب الصعوبات الاقتصادية والمالية وغلاء الأسعار. لكن الإفراط في العنف ضد المحتجين من قبل الأجهزة الأمنية رفع سقف المطالب. وقد كان حجم الخسائر البشرية كبيراً مقارنة بالثورات الشعبية السابقة، فقد سقط في هذه الأحداث حوالى 500 قتيل، وآلاف الجرحى، ونحو مئة مفقود.
حالة الطوارئ
وفي ظل هذه الأجواء سارت الأمور نحو التصعيد من الجانبين (الحكومة، والمتظاهرين)، فمع حلول فبراير (شباط)، لجأت حكومة البشير إلى التهديد باتخاذ إجراءات قانونية ضد منظمي التظاهرات المناهضة لها، واتهامهم بتعريض أمن البلاد للخطر، فضلاً عن إعلان حالة الطوارئ وحل الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات، وتعيين عوض بن عوف نائباً أول ووزيراً للدفاع ومحمد طاهر إيلا رئيساً للوزراء. كما أجرى البشير تعديلات في قيادة الجيش السوداني.
في المقابل، رفض تجمع المهنيين السودانيين، قائد الحراك الشعبي، الخطوات كافة التي قامت بها الحكومة لتهدئة الشارع، داعياً إلى الخروج في مواكب حاشدة في كل أنحاء السودان للمطالبة برحيل النظام.
وعلى المنوال نفسه، استمر التوتر في مارس (آذار). فتارة تتصاعد وتيرة التظاهرات متحدية حالة الطوارئ، التي أجازها البرلمان مدة ستة أشهر، مقابل استخدام الأجهزة الأمنية القوة المفرطة واعتقال العشرات، وتارة أخرى تنخفض حدتها.
الإطاحة بالبشير
ومع بداية نيسان (أبريل) وتحديداً في السادس منه، الذي يصادف ذكرى انتفاضة 1985 التي أطاحت الرئيس السابق جعفر نميري، قرّر المحُتجون بمُشاركة تجمع المهنيين السودانيين عقدَ اعتصام مُتواصل قُرب مقر قيادة الجيش حتّى تحقيق مطالبهم كافة. فبدأت بوادر الانقسام في الظهور عقبَ مُحاولة قوات أمنيّة فض الاعتصام بالقوّة مُقابل رفض عدد من الجنود النظاميين الذين اشتبكوا معها بالرصاص الحيّ، مما تسبّب في مقتل ثلاثة جنود على الأقل وإصابة عدد آخر غير معروف.
تطوّرت الأمور بشكل سريع، حيث حاولت القوات الأمنيّة مجدداً اختراق الاعتصام مستعملة الغاز المسيل للدموع، إلّا أن جنوداً سودانيين وقفوا في وجه أجهزة الأمن ومنعوها من التقدم، بعدما انتشروا في محيط مقر القيادة العامة في العاصمة الخرطوم وأغلقوا غالبية الطرقات المؤديّة إلى المجمع.
في صبيحة 11 أبريل، اجتمع عدد من القادة العسكريين من دون حضور الرئيس البشير، ثم بعدها بساعات سيطرت القوات المسلحة على مقر الإذاعة والتلفزيون، وتلت بياناً على لسان وزير الدفاع عوض بن عوف، الذي أعلن الإطاحة بالرئيس البشير واعتقاله. كما شكّل مجلس عسكري انتقالي يتولى حكم البلاد مدة عامين وفرض حالة الطوارئ في البلاد لثلاثة أشهر، فضلاً عن تعطيل دستور عام 2005 وإجراء انتخابات في نهاية المرحلة الانتقالية.
لكن تجمع المهنيين السودانيين رفض صيغة التغيير ودعا المحتجين إلى مواصلة اعتصامهم أمام مباني القيادة العامة للقوات المسلحة، وكذلك حث بقية المواطنين على البقاء في الشوارع في كل مدن السودان، حتى تسليم السلطة إلى حكومة انتقالية مدنية تعبر عن قوى الثورة. وفي ظل ما حدث من ضغط واحتجاج واسع، اضطر بن عوف في اليوم الثاني إلى إعلان تنازله عن رئاسة المجلس العسكري الانتقالي، واختيار المفتش العام للقوات المسلحة، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، خلفاً له.
فض الاعتصام
ومنذ استلام المجلس العسكري الانتقالي زمام قيادة البلاد زادت حدة التوتر بينه وقوى الحرية والتغيير. وظل السجال بين الجانبين، تفاجأ العالم في 3 يونيو (حزيران)، بارتكاب الأجهزة الأمنية السودانية مجزرة بفض الاعتصام بالقوة، الأمر الذي خلف وراءه ما يزيد عن مئة قتيل وآلاف المصابين، وعدد غير محدد من المفقودين. ووجهت أصابع الاتهام إلى المجلس العسكري الانتقالي، الذي نفى ضلوعه في هذه الجريمة، محملاً بعض عناصر الجيش مسؤولية ما حدث، في محاولة لتبرئة ساحته بخاصة بعد موجة التنديد، الداخلية والخارجية، التي تعرض لها وأسفرت عن توقف عملية التفاوض مع قوى الحرية والتغيير.
فيما عمدت السلطات المختصة في السودان إلى قطع خدمة الإنترنت ليظل بركان الاحتقان خاملاً لفترة طويلة، لكن سرعان ما توهج مرة أخرى في أعقاب عودة خدمة الإنترنت بعد انقطاع دام أسابيع، الأمر الذي سمح للسودانيين بتوثيق المجزرة بالصوت والصورة. وهو ما أثبت تورط عناصر عسكرية فيها بشكل واضح، وجعل الجميع يترقب نتائج التحقيقات التي ما زالت تتقصى الحقائق حول هذه المجزرة على أحر من الجمر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تقاسم السلطة
وتواصلاً لجهود الوساطة الأفريقية التي قادها الاتحاد الأفريقي لتقريب وجهات النظر بين الأطراف السودانية من العسكريين والمدنيين، تم في 17 أغسطس (آب) التوقيع على اتفاق لتقاسم السلطة وقعه تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير مع المجلس العسكري الانتقالي، رسم الهياكل الانتقالية في تكوين مجلس السيادة ومجلس الوزراء والمجلس التشريعي، حيث توافقا على تقاسم المقاعد، وتشكيل حكومة من قبل الحرية والتغيير، مع حصة 67 في المئة من عضوية المجلس التشريعي المزمع تشكيله لاحقاً.
وفي 21 أغسطس، أدى الخبير الأممي عبدالله حمدوك اليمين الدستورية رئيساً للوزراء أمام رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان ورئيس القضاء، إيذاناً ببدء الحكومة الانتقالية التي ستحكم البلاد مدة 39 شهراً تبدأ من تاريخ توقيع وثائق الفترة الانتقالية "الإعلان الدستوري، والإعلان السياسي".
التحدي الأكبر
تعد عملية السلام وإيقاف الحرب، وإدارة الأزمة الاقتصادية واستعادة الأصول المسروقة، أبرز عشر قضايا ستركز عليها حكومة حمدوك الانتقالية خلال المرحلة المقبلة.
وتعول حكومة حمدوك كثيراً على المجتمع الدولي لمساعدتها في تخطي العقبات الجسام وتجاوزها والتي ورثتها من النظام السابق، خصوصاً في قضية إزالة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، والذي سيتيح لها الانفتاح على العالم الخارجي واستقطاب المستثمرين الأجانب وعودة البلاد إلى موقعها الريادي في كثير من الجوانب الحيوية، وهو الأمل الذي ينتظره السودانيون بترقب شديد.