يكذب من يدعي أن التحرش ظاهرة دخيلة على الشارع المصري. ويغفل الحقيقة من يزين لنفسه وللآخرين مقولة إن التحرش بالنساء والفتيات هو نتاج عصور "الانحطاط الفني" أو "التدهور التربوي" أو "الانفلات الأمني". فالتحرش ثقافة ارتبطت قبل عقود بالثقافة الأبوية والهيمنة الذكورية وسطوة التستوستيرون (هرمون الذكورة) على مكامن المنطق ومنابع الحكمة.
ومسيرة التحرش في الشارع المصري طويلة. ففي زمن الأصالة كانوا يسمونها "معاكسات" تارة و"غزلاً" تارة أخرى. ويخبرنا الأولون أن أحدهم كان إذا أعجبته إحداهن يقترب منها مخاطباً إياها "بونسوار مدموازيل. باردون، ولكني لم أكن أعلم أن القمر يهبط على الأرض". كما يخبروننا أن المعاكسات لم تكن حكراً على طبقة دون أخرى أو فئة وليس غيرها. والفنان الراحل عبد الفتاح القصري لم يجد أدق من "صفائح الزبدة السايحة" ليعبر عن إعجابه بالجميلة فاتن حمامة.
الارتطام بالقاع
لكن زمن المعاصرة حاد عن التشبيهات ومال نحو التصريحات، بل وغاص ليدفعه البعض إلى الارتطام بالقاع. ومن دون أدنى استغراب أو استنكار، استيقظ المصريون في مطلع العام على فيديو كان يُفترض أن يكون صادماً، وكان يُتوقع أن يصبح مستنفراً للجهات الرسمية لتعلم أن أخلاقيات الشارع ليست بخير وسلوكياته ليست على ما يرام.
وكان الغضب والاستنفار والاستنكار من نصيب عدد قليل من المصريين من ذوي التوجهات المدنية الشاجبين خلطة الدين بالسياسة الجهنمية والمطالبين منذ سنوات بتطهير الخطاب الديني، الذي خلط التفسيرات المتشددة بالثقافة المتجمدة، فانفجرت قنبلة رجعية في وجوه الجميع.
الجميع شاهد فيديو التحرش الجماعي بشابة في مدينة المنصورة ليلة رأس السنة الميلادية. وتتلخص التفاصيل في سير الفتاة مع فتاة أخرى وشاب، وكانت ترتدي فستاناً، وهو ما تحول إلى أحد المستحيلات الأربعة في الشارع المصري منذ غزت التفسيرات الدينية المتشددة المجتمع المصري في أواخر سبعينات القرن الماضي.
ناقوس ومسمار
الفيديو الذي صدم البعض، بفعل وفضل منصات التواصل الاجتماعي، دق ناقوس خطر بعد ما دق مسماراً إضافياً في نعش السلوكيات والأخلاقيات التي راحت رغم طغيان المظهر المتدين.
وعلى الرغم من الصحوة المعرفية والجهود التوعوية التي يبذلها عدد من الجمعيات الأهلية والمجالس القومية في شأن التحرش منذ سنوات، فإن التفاصيل التي ينضح بها المجتمع المصري تقول بعلو الصوت إن الصحوة والتوعية في وادٍ، والثقافة الشعبية في وادٍ آخر تماماً، تدعمه ثقافة ذكورية حيناً ومنحى ديني أحياناً.
جانب مهم من تفاصيل المجتمع اجتهد البعض في تجميعها على مدار الساعات القليلة الماضية، وذلك عبر سلسلة من الفيديوهات والموضوعات الصحافية لدعاةٍ جُدد وقدامى، ومشايخ وفقهاء من أصحاب التأثير الكبير في المجتمع. فبين داعية شاب يقول: "لو الشباب شافوا (شاهدوا) ميكروجيب ولم يتحرشوا فهم ليسوا رجالاً"، وآخر محنك يؤكد أن "المرأة التي لا تتحجب أو تخلع الحجاب تكون قد أسقطت حقها في عدم السماح لأحد بالنظر إليها، وعدم وجود حجاب أو خلعه يسقط حرمة النظر إليهن، وهنا النظر يصبح عادياً، وتنتقل المسألة من العين والمقلة إلى الدماغ التي لا تكون في حاجة إلى التخيل"، إلى ثالث يحظى بمنزلة أقرب ما تكون إلى التقديس يتحدث عن مواصفات الحجاب، ثم يؤكد أن "لما يلاقوها عاملة في نفسها عمايل، يعني تعرض نفسها عرضاً مهيناً، إذاً طبيعي أن تكون عُرضة لسماع الألفاظ المهينة وغيرها"، وتدور الدوائر المجتمعية في مصر حيث التحرش بغير المحجبات مبرر ومفهوم.
الخطاب الديني والتحرش
السياسي والكاتب السيد نادر الشرقاوي، يقول "لكي نفهم لماذا ينتهج الكثيرون في المجتمع نهج التحرش وفي الوقت نفسه يقولون إنهم متدينون، علينا أن نعي العلاقة المباشرة بين ميل المجتمع إلى التشدد الديني واعتناق الخطاب المتطرف الذي يحقر شأن المرأة ويجيز ما يُسمى بالاستحلال، ومن هنا يستحل الشباب المرأة في الشارع".
ويشير إلى أن أحد رجال الدين الشباب من المحسوبين على مؤسسة الأزهر، وبما يثير الجدل أكد أن "عدم ارتداء الحجاب تعرٍ، وهذا يثير ذكورة الرجال والشباب الفطرية".
ويضيف الشرقاوي أن "مثل هذه الأفكار التي تربى عليها الشباب تعطي للمتحرش ضوءاً أخضر لاستحلال واستباحة التحرش بالإناث"، مؤكداً أن "المتحرش لا يفرق بين المرأة التي ترتدي حجاباً وتلك التي لا ترتديه. هم يستمتعون فقط بتصريح التحرش الذي حصلوا عليه من بعض رجال الدين المتشددين".
تشدد بعض رجال الدين، ومعهم تطرُف جانب كبير من الخطاب الديني على مدار عقود مضت وفرا أرضاً ثرية خصبة لخلط الثقافة صديقة الذكورية عدوة المرأة لترتدي عباءة دينية قادرة على وضع الضحية في زنزانة الاتهام وإخلاء سبيل المتهم بضمان تدينه.
ومثلما علت أصوات البعض على مواقع التواصل الاجتماعي وفي ردهات جمعيات حقوقية تعني بحقوق المرأة، انبرت أصوات أخرى مضادة تصب غضبها على الفتاة صباً كلاسيكياً معروفاً. "ده منظر بنت محترمة؟ تستاهل ما جرى لها"... "التحرش بمثل هذه الفتاة أقل ما يمكن عمله. نتمنى أن تكون استفادت من الدرس وتفكر مرتين فيما ترتدي قبل أن تترك بيتها"... "المفروض تكون عندنا قوانين تعاقب هذه المسخرة في ارتداء الملابس"، وغيرها أصوات غزت جنبات الأثير العنكبوتي.
ترسانة قوانين
وعلى الرغم من أن لدى مصر ترسانة من القوانين المعاقبة للمتحرشين، ووحدة شرطية أُسست خصيصاً لمواجهة هذا الفيروس الأخلاقي المريع، فإن القوانين الشعبية وتنصيب فئات في المجتمع نفسها كشرطة أخلاقية، تنفذ معاييرها على الآخرين وتنافس الأولى وكثيراً ما تتغلب عليها.
المثير في واقعة التحرش الجماعي الأحدث أنه ما زال في المجتمع من يؤمن إيماناً وثيقاً بأن ملابس الأنثى وليست اختياراتها أو قراراتها هي ما تحدد علاقة الآخرين بها وتصرفهم معها. "ليس من المعقول أو المنطقي أن تختاري أن تنزلي إلى الشارع وأنت ترتدين هذه الملابس ثم تغضبي لما حدث لك"... "طيب عيني في عينك كده؟ صحيح زعلانة (غاضبة) إن الشباب فقد السيطرة على نفسه؟ لو كنت صحيح غاضبة، لماذا ارتديت هذه الملابس؟". التعليق الأخير الذي جاء على لسان طالبة جامعية يعاود فتح باب موقف المرأة نفسها في مصر من آفة التحرش.
أستاذ علم الاجتماعي السياسي سعيد صادق، يقول إن "البعض من النساء اكتسب الثقافة الذكورية المهيمنة، ويسعى إلى نفاق الذكور بمحاربة بنات جنسهن".
ويرى أن هذا الاختيار المحدود والغريب ليس جديداً. "يخبرنا التاريخ أن العبيد والمضطهدين كانوا يحاربون من يحاول تحريرهم والوقوف والدفاع عنهم. هناك من وقف مع الاحتلال والاستعمار وتجار العبيد ضد الوطنيين الساعين إلى التحرر. هناك نساء معنفات يقفن ضد نساء معنفات ويدعمن حق الرجال في ضرب النساء، وأخريات غير محجبات يدعين إلى العنف ضد من تخلع الحجاب. علينا أن ندرك أن ليس كل النساء والرجال على الدرجة نفسها من الوعي والدعم لحرية الآخرين".
تستحق التحرش
"آخر ما كنت أتوقعه أن يدافع البعض عن فتاة ترتدي مثل هذه الملابس تحت بند الحرية الشخصية. وكان الأجدر أن توفروا هذا الجهد الدفاعي لإقناعها بالحجاب الذي يقيها كل تلك الشرور"، حسبما قالت سيدة لصديقاتها اللاتي كن يناقشن الحادث فوجدت منهن ميلاً للدفاع عن الفتاة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن الأرقام تشير إلى عكس ما طالبت به السيدة، المركز المصري لحقوق المرأة في دراسته الشهيرة عن التحرش بالنساء في المجتمع المصري والتي تعود إلى عقد مضى، وجد أن التحرش لا يصيب فقط غير المحجبات، بل العكس هو الصحيح.
وحسب الدراسة المستفيضة، فإن 72% من النساء والفتيات المصريات اللاتي يتعرضن للتحرش يرتدين إما الحجاب أو النقاب. ويشار إلى أن الدراسة خلصت إلى أن 99.5% من الإناث تعرضن للتحرش. وتشير مبادرة "خريطة التحرش"، العاملة في مجال التوعية المجتمعية، إلى أن الغالبية المطلقة من الإناث في مصر يتعرضن للتحرش بغض النظر عن المظهر والملابس.
قبض وتحريات
ولحسن الحظ أن الجهات الأمنية لم تتطرق هي الأخرى، على الأقل رسمياً، إلى إصدار الأحكام على المتحرش بها في ضوء ما كانت ترتديه. ولحسن الحظ أيضاً أن استجابة سريعة نسبياً حدثت بفضل وبفعل انتشار الفيديو على منصات التواصل الاجتماعي.
الشرطة أعلنت تكثيف الجهود لضبط مرتكبي واقعة التحرش الجماعى، وألقت القبض على 17 شاباً من المشتبه في وجودهم بالمكان وقت الواقعة، واستجوبت نحو 20 شخصاً من العاملين في المحلات التجارية وعمال "الجراجات" وأفراد الأمن في المنطقة.
من جهة أخرى، بادرت منظمات حقوقية إلى المطالبة بتطبيق القانون مع إدانة الواقعة. "مؤسسة القاهرة للتنمية والقانون" دانتها، وطالبت وزارة الداخلية بتكثيف البحث والتحريات للقبض على الجناة، وتقديمهم للمحاكمة طبقاً للقانون المصري، الذي يعاقب بالحبس والغرامة مرتكبي "هذه الأفعال المشينة".
لكن التحرش الذي تحول إلى منظومة شبه مقبولة، وقضية شبه منتهية، وآفة شبه متعايش معها من قبل قطاعات عريضة في المجتمع، يأبى إلا أن يعاود الظهور بشكل فج بين الحين والآخر، محدثاً ضجة مروعة ربما بحثاً عن علاج شاف، ولو كان بالصدمة.
وبعيداً عن رأي الطبيب النفسي المعتاد الذي يصف المتحرش بـ"الشخصية السيكوباتية التي تستوجب العلاج"، ورجل الدين المسلم المتنوِّر الذي يؤكد أن الله ورسوله والمؤمنين لا يرضون عن مرتكبي مثل هذه الأفعال، ورجل الدين المسيحي المتنور بالقدر نفسه الذي يتحدث عن احترام كل ما خلقه الله، والمثقف المنتشر إعلامياً المؤكد أن المُتحرَش بها هي الأم والابنة والأخت ويجب احترامها، وعضو البرلمان الذي يحرص على الظهور الموسمي مشيراً إلى ضرورة تغليظ العقوبات وتطبيق القوانين، فإن واقعة المنصورة تعاود رفع الراية الحمراء المُعلِنة عن ضرورة حتمية للمراجعات المجتمعية والتصحيحات الدينية والصحوات المستدامة.
الطريف أن عميد كلية أصول الدين في جامعة الأزهر عبد الفتاح العواري، قال في محاولة لمجاراة موجة التنديد بالمتحرشين، إنه "مهما كانت الأسباب الداعية للفعل الشائن الذي قام به هؤلاء الشباب، فإنه لا يجوز التفكير في انتهاك حرمة هذه الفتاة"، وهو ما يعيد النقاش إلى المربع صفر، حيث تبرير التحرش والسعار الجنسي وتفهم موقف المتحرش والمسعور، وذلك في ضوء ما كانت ترتديه أو لا ترتديه المتحرش بها.