عام 2008 منعت أميركا إسرائيل من قتل الجنرال قاسم سليماني، كان قائد "فيلق القدس" في الحرس الثوري الإيراني يقف مع القائد العسكري لـ "حزب الله" عماد مغنية في دمشق، فانتظر العملاء الإسرائيليون مغادرة سليماني لتنفيذ اغتيال مغنية. يوم 28 ديسمبر (كانون الأول (2020 قدم البنتاغون إلى الرئيس دونالد ترمب لائحة أهداف للرد على هجوم بالصواريخ على قاعدة في كركوك تضم قوات أميركية.
كان بين الأهداف قتل سليماني الذي اعتبره البنتاغون، كما تروي "نيويورك تايمز"، الخيار الأقصى شدة، وتصوروا أن ترمب لن يختاره. وهكذا كان، فاختار الرئيس توجيه ضربة لقواعد "حزب الله العراقي" بين العراق وسوريا. وعندما شاهد الرئيس الأميركي الحشود التي تهاجم السفارة الأميركية في بغداد رداً على الضربة الأميركية، طلب من البنتاغون قتل سليماني، وهو ما أثار ذهول القادة العسكريين الكبار. والسؤال ليس إن كان ترمب قد تحسب لما بعد القتل، بل ما الذي أعد له القادة العسكريون وهم ينفذون الأمر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ذلك أن سليماني هو رجل المشروع الإيراني في المنطقة، لا مجرد قائد عسكري. هو يسمي نفسه قائد فيلق "صاحب الزمان". وهو الذي عمل عن قرب لبناء البنية التحتية للمشروع الإيراني: "حزب الله" في لبنان، الحشد الشعبي في العراق، أدوات التغلغل العسكري والسياسي والاجتماعي في سوريا، وربط الحوثيين في اليمن بطهران. ومن الصعب تصور أميركا التي قامت بتوجيه أقسى ضربة لإيران وهيبتها ومشروعها من دون أن تتحسب للرد الإيراني وتهيئ للرد عليه. والأصعب هو تصور جمهورية الملالي التي بدأت منذ مدة سلسلة عمليات ضد أميركا في محاولة لاستفزازها من دون الوصول إلى هدف أبعد من ذلك، أقله تغيير المناخ المعادي لإيران في الحراك الشعبي العراقي ليصبح معادياً لأميركا. والتجارب أكدت أن الاغتيال السياسي هو سياسة عاجزة عن إحداث تغيير إستراتيجي في مواقف الطرف الآخر. أميركا تغتال خصومها وتعلن ذلك، وأبرزهم أسامة بن لادن، أبو بكر البغدادي، وقاسم سليماني. إيران تقتل وتنكر ثم تفاخر بالأمر بعد عقود، كما في تفجير مقر المارينز في بيروت عام 1983 عبر وكلائها، وفي اغتيال المعارضين مباشرة. إسرائيل تقتل وتنكر، ثم تعلن ذلك أحياناً، وهي قتلت عدداً كبيراً من القادة الفلسطينيين ومن كوادر "حزب الله" وحتى قادته، وبينهم الأمين العام عباس الموسوي وعماد مغنية. روسيا تغتال وتصر على الإنكار، ولو جرى كشف الوقائع في دول الغرب حيث تقع الاغتيالات. لكن ذلك لم يحدث تغييرات أساسية، بمقدار ما قاد أحياناً إلى المزيد من التشدد.
والظاهر، حتى إشعار آخر، هو أن أميركا المنقسمة لا تزال منقسمة حول قرار ترمب. وإيران المنقسمة توحدت في رد الفعل على مقتل سليماني. فلا صوت في إيران يعلو على صوت "الموت لأميركا". ولا في مجلس النواب الذي يسيطر عليه الديمقراطيون، وفي وسائل الإعلام الليبرالية سوى التخوف والتخويف والرغبة في تكبيل أيدي الرئيس الذي ازدادت قدرته على شن "ميني حرب" من دون موافقة الكونغرس بحجة الدفاع عن النفس وحماية الأمن القومي.
سوزان رايس وزيرة الخارجية في عهد الرئيس أوباما تكتب أن "حلقة التصعيد قد تقود إلى حرب وإن قتل سليماني، وإن كان مبرراً بالدفاع عن النفس، ليس قراراً حكيماً إستراتيجياً، وقد يؤدي إلى هزيمة لأميركا، هي الخروج من العراق". وطهران تبدو قادرة على توظيف الاغتيال أكثر من واشنطن. لا بل ترى أن مشروعها الإقليمي يتقدم، من حيث أراد ترمب ضربه.
والمنطقة تدخل مرحلة بالغة التعقيد بمقدار ما تبدو المواقف واضحة وبسيطة. إدارة الرئيس الأميركي تنتقل من مواجهة الوكلاء إلى "الرد على صناع القرار الفعليين"، كما قال وزير الخارجية مايك بومبيو. وأقل ما يهدد به ترمب رداً على تهديد طهران بضرب 35 هدفاً لأميركا في المنطقة هو ضرب 52 هدفاً في إيران نفسها. وهذا ما يسميه الإستراتيجيون سياسة "الذهاب إلى النبع" بدل تتبع السواقي وسياسة "تجفيف المستنقع بدل ملاحقة البعوض".
وجمهورية الملالي تتحدث عن ثأر وهدف. الثأر بضرب القواعد العسكرية الأميركية بصواريخها أو بفعل الوكلاء في المنطقة. والهدف هو "إخراج القوات الأميركية من غرب آسيا"، وهو نصر جيوسياسي لإيران. لكن ذلك ليس سهلاً، ولا حتى ممكناً، بصرف النظر عن التصرف كأن الحاجة انتهت إلى "الخدمات" التي قدمتها أميركا لإيران عبر غزو أفغانستان والعراق وإسقاط نظامين معاديين لجمهورية الملالي. فضلاً عن الدور الذي لعبته القوات الأميركية في محاربة "داعش" في العراق وسوريا، حيث كان وكلاء إيران يعملون تحت مظلتها الجوية.
واللعبة ليست مفتوحة إلى النهاية، كما يتصور المتحمسون لإيران والمراهنون على أميركا. فالثأر الإيراني محكوم بسقف الحفاظ على المشروع الإقليمي وشعار "ثأر لا حرب". والرهان الأميركي هو لمنع تكبير اللعبة. ولا أحد يعرف إلى أي حد يمكن أن ينزلق الطرفان إلى حرب يردد كل منهما أنه لا يريدها. لكن الكل يعرف أن تزايد النفوذ الإيراني وغياب الحماية الأميركية وصفة لتجدد قوة "داعش" في العراق.