في الوقت الذي شهدت مدينة الجنينة السودانية الواقعة في إقليم دارفور هدوءاً تاماً بعد الاشتباكات الدامية التي وقعت بين قبيلة المساليت وقبائل عربية، راح ضحيتها أكثر من 40 قتيلاً، نتيجة الجهود التي بذلها مجلسا السيادة والوزراء لنزع فتيل الأزمة وتقريب وجهات النظر بين أطراف النزاع، توعدت الحكومة الانتقالية الجناة المتورطين في هذه الأحداث بعقوبات رادعة، من دون أن يكون هناك عفو لمن حكم عليه بالقصاص، لوضع حد لهذه الجرائم التي أثرت في استقرار الإقليم منذ بداية الصراعات عام 2003.
ويترقب المجتمع السوداني نتائج أعمال لجنة التحقيق التي شُكّلت لتقصي الحقائق في هذه الأحداث، والتي تتمتع وفقاً للنائب العام تاج السر الحبر، بحيادية وشفافية ومهنية عالية، لافتاً إلى أن الوفد الحكومي برئاسة نائب رئيس مجلس السيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) هيأ المناخ لعمل اللجنة من خلال اللقاءات التي عقدها مع مكونات الولاية والأجهزة الأمنية، معلناً استعداد اللجنة وجاهزيتها لتلقي الشكاوى من المواطنين، المسنودة بالبيانات والأدلة، لتمكين اللجنة من تقديم الجناة إلى المحاكمة.
وقف العدائيات
ويرى كثير من المراقبين والمحللين السياسيين، أن تحرك السلطات العليا في الدولة منذ الوهلة الأولى لاندلاع الاشتباكات، كان له دور كبير في معالجة تداعيات الأحداث، والتزام الجهات المعنية بالنزاع بالحد من التعدي على الآخرين، فضلاً عن استجابة المجتمع الأهلي في المنطقة على وجه العموم، لنداء التصالح والسلم الاجتماعي وتفاعله الإيجابي مع طرح اللجنة العليا لمعالجة الأحداث. بالإضافة إلى شعور المواطنين بضرورة الالتفاف حول ممسكات الوحدة الوطنية، خصوصاً أن البلاد تمر بمرحلة دقيقة تتطلب وحدة الصف حتى تتمكن من عبور الفترة الانتقالية بكل أمان.
الشفافية والعدالة
كما شكل التزام المسؤولين بالشفافية وتطبيق القانون عاملاً مهماً في استتباب الأمن وعدم تكرار مثل هذه الأحداث مستقبلاً، فقد أكد نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي محمد حمدان دقلو أن الجناة في أحداث الجنينة لن يفلتوا من العقاب وسيمثلون أمام العدالة، وأن الدولة ستستفيد هذه المرة من التجارب السابقة، مؤكداً أن موضوع "الدية" سيتوقف تماماً، لينال القاتل عقابه وفقاً للقانون. لافتاً إلى وجود ما وصفهم بـ "المنتفعين" وراء هذه الأحداث لتمرير أجندتهم تحت الطاولة. واتهم جهات لم يسمها بالتسبب بالاشتباكات التي راح ضحيتها مواطنون أبرياء.
وحذر الذين يسعون لإشعال الفتنة من خلال التحريض عبر وسائل التواصل الاجتماعي من أجل الوصول إلى السلطة على أجساد المواطنين وأرواحهم، مبيناً أن الدولة ستكون لهم بالمرصاد وأن كل من تثبت إدانته سينال عقابه وفق القانون، ليكون عظة وعبرة للآخرين، نافياً أن تكون أحداث الجنينة بفعل خارجي، قائلاً "لن نجعل من الآخرين شماعة نعلق عليها الأخطاء"، مؤكداً أن ما جرى حصل بأياد داخلية، لذلك ستجري إدارة أحداث الجنينة، وفق معالجة تختلف عن سابقاتها. وقال "كل من يسعى لخلق فتنة للوصول للسلطة سيُحاسب"، مشدداً على حرص الدولة واهتمامها بأمن البلاد واستقرارها. وتعهد بألا تمر الحادثة المؤسفة مرور الكرام، وسيكون الجناة عبرة لغيرهم. في حين حمّل حكومة ولاية غرب دارفور مسؤولية تفاقم الأحداث، بسبب تحركها المتأخر لمعالجة المشكلة، الأمر الذي أدى إلى انفلات أمني وتأزم في الموقف.
وأوضح أن هناك أصحاب اختصاص من المباحث المركزية، وجهاز الاستخبارات العامة، والاستخبارات العسكرية، ستشارك في التحقيق والتقصي لمعرفة الجناة الحقيقيين الذين شاركوا في الأحداث لينالوا جزاءهم بالقانون، من خلال غرفة خاصة جرى إنشاؤها من أجل الوصول إلى المتورطين في هذه الأحداث. ووعد باعتماد شفافية تامة خلال التحقيق والمحاكمة في الأحداث، قائلاً "الحرية لا تعني الفوضى، بل انضباط وشورى وشفافية".
السلام والاستقرار
وبينما قال رئيس الوزراء عبد الله حمدوك إن "ما حدث في الجنينة يمكن أن يحدث في أي مدينة في السودان لذلك سنتعامل بشكل منضبط"، وشدد على أن هذه القضية ترتبط بمسارات عدة على رأسها السلام، وأن معالجة ما حدث يساعد في العبور بالبلاد إلى وضع أكثر أمناً واستقراراً، وأوضح أنهم تلقوا تنويراً إضافياً من لجنة الأمن والأجهزة الأمنية المُختلفة، مشيداً بدور القوات النظامية في حفظ الأمن، مترحماً على أرواح الضحايا.
وأكد حمدوك أن الجهات المختصة باشرت بشكل عاجل التعامل مع أحداث مدينة الجنينة، وأن الجهود الرامية لحفظ الأمن والنظام وتحقيق السلام في كل أنحاء البلاد مستمرة.
رأب الصدع
في حين عزز وجود وفد المجلس المركزي لقوى "الحرية والتغيير" من عملية رأب الصدع والوصول إلى حل، وبحسب نائب رئيس حزب الأمة القومي مريم المهدي، فإن الوفد اطلع على الجهود التي بذلتها لجنة أمن الولاية ولجنة الوساطة من القبائل الأخرى، إضافة إلى مساعي قوى "الحرية والتغيير" في الولاية، والتي أكدت جميعها أن الجهات في الولاية كافة حريصة على وضع حدٍ لتلك المشكلة والعمل على تحقيق سلام دائم لدعم جهود الدولة تجاه تحقيق السلام الشامل في أنحاء ربوع الوطن، مشيرة إلى أن الوفد لمس الرغبة الأكيدة من الطرفين في الوصول إلى السلام والدعوة إلى المصالحة خلال تقديم الوفد التعازي لأسر الضحايا وتجمعات النزوح التي تحتاج إلى حملة سودانية إنسانية، إضافة إلى معسكر كريندنق الذي جرى حرقه .
وأكدت أن الجهات كافة التي استمع إليها الوفد، نفت أن تكون الأحداث قبلية، متهمة الدولة العميقة بالضلوع في هذه الأحداث من أجل زعزعة الاستقرار والأمن وإفشال الفترة الانتقالية، معتبرة أن الأطراف كافة تنتظر تطبيق القانون بعد حصر الجناة بعيداً من المداراة للمجرمين وتقديمهم للمحاكمات القانونية العادلة، في الوقت الذي التزم الجميع بالتعايش السلمي وعدم الاعتداء على بعضهم بعضاً والاحتكام إلى القانون.
الصلح القبلي
لكن مكونات في مجتمع دارفور حذرت من الصلح القبلي كآلية لمعالجة هذه الأحداث، حين وصفت هيئة محامي دارفور الصلح القبلي بأنه يكرس لثقافة الإفلات من العقاب وإنتاج الصراعات القبلية وشيوع الفوضى في هذا الإقليم المتوتر، مشيرة إلى أن لجنة التحقيق وتقصي الحقائق التي شكلها النائب العام هي الجهة الوحيدة المؤهلة لتحديد المسؤولية الجنائية.
في حين، حث رئيس حركة تحرير السودان مني أركو مناوي، الجميع في غرب دارفور، على وقف الاقتتال وتفويت فرصة التربص على من سماهم "صُناع سياسة الفتن وفرّق تسُد"، وقال في تغريدة على "تويتر"، "إنها فرصة نادرة للعمل معاً بعيداً من القبلية من أجل الحصول على التغيير الذي يبشر بتوزيع الفرص".
بداية الاشتباكات
وبدأت الاشتباكات في مخيم "كريندينغ"، الواقع شرق الجنينة عاصمة إقليم دارفور، يومي 29 و30 ديسمبر (كانون الأول) إثر نزاع بين جماعات عربية وأفريقية، حين جاء وفقاً للمتحدث باسم البعثة المشتركة لحفظ السلام من الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة (يوناميد) أشرف عيسى، رجال من قبائل عربية إلى معسكر النازحين وبدأوا في إطلاق النار والقتل والحرق. ونتيجة ذلك، ذهب الأقارب إلى المستشفى وهددوا العاملين فيه بالسلاح ودمروا بنك الدم. وعندما حاول أحد رجال الشرطة السودانيين التدخل، أطلق النار عليه وأردي قتيلاً".
وتمثل الوساطة من أجل سلام دائم في دارفور وأجزاء أخرى من السودان أحد التحديات الرئيسية التي تواجهها السلطات العسكرية والمدنية، التي تتقاسم السلطة بعد الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير بثورة شعبية في أبريل (نيسان) 2019.
واندلع الصراع في دارفور عام 2003 بعد أن حملت مجموعات غالبيتها من غير العرب السلاح ضد النظام السابق، وطبقاً لتقديرات الأمم المتحدة، قُتل ما يصل إلى 300 ألف شخص وتشرد 2.5 مليون آخرين، من بينهم أكثر من 180 ألفاً نزحوا في غرب دارفور.