تركت أحداث الشغب التي طاولت شارع الحمرا التجاري والسياحي الشهير في قلب بيروت، ليل الثلاثاء 14 يناير (كانون الثاني)، تفاعلات سياسية وأمنية متعددة الأوجه، نظراً إلى أن الوسط السياسي اللبناني أعطاها أبعاداً تتجاوز أهداف الحركة الاحتجاجية لجمهور الانتفاضة الشعبية، التي عادت إلى التحرك تحت عنوان "الضغط على الطبقة السياسية"، للإسراع في تأليف الحكومة الجديدة، ووقف المماطلة في معالجة الأزمة السياسية الاقتصادية المستفحلة.
لكن تقصّد استهداف المصرف المركزي وحاكمه رياض سلامة والمصارف، أثار أسئلة عن الهدف السياسي من التركيز من فرقاء سياسيين لا سيما "حزب الله" وحلفائه، على الشكل الذي حصل فيه، خصوصاً أن الحريري برد فعله أوحى بغرض سياسي وراءه. وتساءل مصدر قيادي في تيار "المستقبل" لـ "اندبندنت عربية"، هل المطلوب من الحريري "تصريف أعمال الحكومة المستقيلة أم تغطية أعمال تحصل في الشارع من قبل البعض؟".
فتجديد التحرك في الشارع جاء بعد "عطلة" أسبوعين بسبب الأعياد وإعطاء فرصة من أجل تأليف الحكومة، بعد نجاح الاحتجاجات في حمل رئيس الحكومة السابقة، أي الحريري، على التجاوب مع مطلبهم تغييرها. كما جاء إحياء التحرك الشعبي بعدما اعتبر قادة الثوار أن تأخير الحكومة يعود إلى استئناف أحزاب السلطة أسلوب المحاصصة وتقاسم النفوذ في المواقع الدستورية، في وقت يزداد المأزق الاقتصادي المالي عمقاً وتتفاقم الصعوبات المعيشية على المواطنين.
الجيش لم يتدخل ومحتجون يتبرأون
ومع عودة الاحتجاجات إلى أسلوب قطع الطرقات، بدا واضحاً أن انقسام المحتجين منذ ساعات مساء الثلاثاء الأولى، بين فريق نزل إلى الشارع للأهداف المذكورة، وفريق منهم أخذ الحراك الشعبي صوب وجهة واحدة هي الضغط على المصارف، والتظاهر أمام مصرف لبنان، وإقفال الطريق الذي يؤدي إلى شارع الحمرا، ما لبث أن تحوّل إلى أعمال تكسير وتحطيم طاولت بعض المصارف التجارية، بعد أن تصدت القوى الأمنية إلى محاولة هذا الفريق من المتظاهرين تخطي الحاجز الذي يفصلهم عن مدخل المصرف المركزي لاقتحامه، فامتدت أعمال الشغب كرد فعل على هذا التصدي إلى منتصف ليل الثلاثاء - الأربعاء، فتحول الشارع التجاري إلى ما يشبه ساحة حرب وكر وفر بين المتظاهرين الذين رشقوا الشرطة بالحجارة ورموا على أفرادها المفرقعات النارية الكبيرة الحجم، فردت بالقنابل المسيلة للدموع، وبين قوة مكافحة الشغب التابعة لقوى الأمن الداخلي، بينما لم يتدخل الجيش في الشارع. وتسمّر اللبنانيون على شاشات التلفزيون يتابعون بدهشة المواجهات، بينما حرص ثوار آخرون كانوا قطعوا الطرقات في مناطق أخرى منها جسر "الرينغ" الذي يربط شطري العاصمة، إلى التبرؤ من أعمال التخريب والعنف، وتحطيم واجهات المصارف وآلات سحب الأموال النقدية التابعة لها في الحمرا.
التفاعلات السياسية
وأخذ الأمر منحى سياسياً نظراً إلى أن الذين انتقلوا إلى الاعتصام أمام مصرف لبنان أعلنوا عن هويتهم السياسية، سواء على مواقع التواصل الاجتماعي حين تداعوا إلى النزول إلى الشارع، أو في الهتافات التي أطلقوها على الرينغ قبل انتقالهم إلى الحمرا. فهم جاؤوا من شوارع سيطرة "حزب الله" وحركة "أمل"، وسموا أنفسهم تارة "مجموعة الغبيري – الشياح" وأخرى "شباب زقاق البلاط" أو مجموعة "الخندق الغميق"، وهتف بعضهم للأمين العام للحزب حسن نصر الله ورئيس البرلمان نبيه بري.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأدت الأضرار التي أصيب بها الشارع وبعض المصارف إلى ردود فعل سياسية لسببين: استهداف المصارف والمصرف المركزي، واستباحة العصب التجاري للعاصمة بيروت بحسب شعور قيادات بيروتية، أثار حفيظتها عدم توجه المتظاهرين إلى المصارف في أحياء وشوارع سكنهم. وقال المصدر القيادي في تيار "المستقبل" وأوساط سياسية أخرى، "صحيح أن هناك أحزاباً ومجموعات يسارية لديها وجهة نظر تتهم المصرف المركزي والمصارف بالتسبب بالأزمة المالية، وأن هذه وجهة نظر خاضعة للنقاش، لكن ما حصل له يدل على ما هو أبعد من ذلك".
رد فعل الحريري وجنبلاط وبري
ودفع استياء جزء من البيروتيين الرئيس الحريري إلى إصدار بيان صباح الأربعاء، اعتبر فيه أن "الهجمة التي تعرّض لها شارع الحمرا غير مقبولة تحت أي شعار، وهي هجمة لا أريد تحميلها لثورة الناس وغضبهم تجاه المصارف، ولكنها كانت لطخة سوداء في جبين أي جهة أو شخص يقوم بتبريرها وتغطيتها". وإذ أشار إلى "حملة اقتلاع يتعرض لها حاكم مصرف لبنان" والنظام المصرفي، تحدث عن "هجمة تستهدف بيروت ودورها كعاصمة ومركز اقتصادي معني بأرزاق جميع اللبنانيين ولتكسير أسواق بيروت... لن أقبل أن أكون شاهد زور على مهمات مشبوهة يمكن أن تأخذ كل البلد إلى الخراب". وذكّر الحريري في بيانه أنه في حكومة تصريف أعمال "ولن أكون تحت أي ظرف على رأس حكومة لتغطية أعمال مرفوضة ومدانة بكل مقاييس الأخلاق والسياسة"، وطالب القضاء بملاحقة العابثين ودعا الجيش إلى تحمل مسؤولياته "لردع المتلاعبين بالسلم الأهلي".
وتبع الحريري رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط الذي استنكر ما حصل تحت حجة المصارف، لكني أذكّر بأن الأزمة الحالية المالية من أحد أسبابها الرئيسة رفض بعض فرقاء الحكومة الحالية الإصلاح في قطاع الكهرباء". ورأى "أن شارع الحمرا جوهرة التعايش وملتقى الأندية الثقافية ومنطلق المقاومة الوطنية وفيه بقي تراث بيروت الأساسي".
وشعر الرئيس بري أن أحداث الليلة الفائتة أثارت حساسيات سياسية ومذهبية ضمناً، فسارع إلى إعلان "استنكارنا الشديد لما حصل في شارع الحمرا. الأمر غير مقبول. لا أتهم اشخاصاً معينين ولا الحراك المدني... كان هناك شيء مقصود ومستهدف من أناس غير معروفين، هل المطلوب تدمير البلد؟".
وأكد أن "بيروت عاصمتنا جميعاً وليست عاصمة أحد من دون آخر، وما حصل لا يصدق، إذا كان الحراك بهذا الشكل لا مش حراك وليست انتفاضة". وطالب بمحاسبة المرتكبين "لأي طرف أو طائفة انتموا".
الرسالة لمن؟
وكشف مصدر وزاري لـ"اندبندنت عربية"، أن عدد الذين أوقفتهم القوى الأمنية ليل الثلاثاء في شارع الحمرا يناهزالـ54 شخصاً، بعد أن أفرجت عن آخرين تبين أنهم لم يقوموا بتعديات على الأملاك الخاصة والعامة، وأن معظم هؤلاء من "سرايا المقاومة"، التنظيم الرديف لـ"حزب الله".
وأوضح المصدر أن الإعلام التابع للحزب يركز منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية على التحرك ضد المصارف ويحمل على الحاكم رياض سلامة. ويتساءل "هل ما جرى رسالة إلى الخارج تتعلق بالتوجه الأميركي لفرض عقوبات إضافية على الحزب، الهدف منها القول إن هناك ضغوطاً مقابلة على المصارف كي لا تطبق العقوبات الموجودة والتي يمكن أن تأتي؟".
ويدعو المصدر إلى البحث عن الوظيفة السياسية المالية للتركيز على القطاع المصرفي، بصرف النظر عن صحة النقمة الموجودة في الشارع على إجراءات تقييد المصارف لسحوبات المودعين بالعملة الصعبة. ويشير إلى أن هذه الإجراءات لم تصب فقط المودع اللبناني، بل أصابت أيضاً المودعين السوريين، الذين بينهم كثر ممن أودعوا أموالاً في المصارف اللبنانية كي تتصرف بها شركات تشكل واجهة لرجالات النظام، من أجل استيراد البضائع ومنها المحروقات، والالتفاف على العقوبات الأميركية على النظام السوري، فأدى شح العملة الخضراء في دمشق، والتي كانت تنقل من لبنان إلى انخفاض سعر صرف الليرة السورية، بحيث بلغ الدولار الأميركي زهاء 1150 ليرة بعد أن كان 650 قبل الانتفاضة في لبنان وأزمة السيولة. هذا فضلاً عن أن تقييد المصارف سحوبات الودائع على اللبنانيين نتيجة النقص في سيولة العملة الصعبة فرض انحساراً لعمليات تبييض أموال كانت تأتي من إيران عبر العراق ثم إلى لبنان ومنه إلى سوريا، لدرجة بات هناك في السوق اللبنانية ما يسمى "الدولار العراقي". ويضاف إلى ذلك أنه كان يجري تسهيل بيع واستهلاك جزء من البنزين الإيراني في السوق اللبنانية. ولربما هذه الوقائع تفسر موقف الحزب الضمني حيال المصارف، وهذا يقحم لبنان في موجبات انخراط الحزب في الصراع المتصاعد إقليمياً.