أزمة الدولار المُلتهبة ألهبت معها الأسعار، فزاد الهمّ المعيشي كما زادت المخاوف من فقدان سلع أساسية حياتية. فارتفاع سعر صرف الدولار بحدود الـ60% إلى مستويات 2500 ليرة للدولار الواحد، بينما السعر الرسمي لا يزال عند 1507.5 ليرة للدولار، ألقى بثقله على كل مكونات الاقتصاد من السلع وحتى الخدمات.
ضغوط على المستوردين
فالسعر غير الرسمي هو السائد في ظل شح الدولار بالمصارف، والسحب النقدي خُفّض إلى حدود الـ200 دولار أسبوعياً بينما التحويلات إلى الخارج شبه متوقفة، أما السلع الأساسية فحددها مصرف لبنان بالمحروقات والأدوية والطحين، ولهذه السلع يؤمن المصرف المركزي تمويل 85% من قيمتها بالدولار بالسعر الرسمي، أما التاجر فعليه تأمين 15% المتبقية بسعر السوق.
إجراء خفف لا شك من حدة الأزمة، إنما تمويل 15% من قيمة السلع بعملة أجنبية من السوق السوداء، خلّف بدوره ضغوطاً على المستوردين، خصوصاً أن المحروقات والأدوية والطحين هي أساسية وأسعارها محددة من قبل الدولة.
ومن هنا بدأت أزمة المازوت تطل برأسها في ظل شتاء بارد يشهده لبنان، وعلى وقع عواصف متتالية زادت من الطلب على المادة المستعملة للتدفئة.
فالربح المحقق على المازوت قليل ويتآكل مع ارتفاع سعر الصرف لتمويل 15% المتبقية من سعر المنتج، ما دفع بأصحاب المحطات إلى رفع سعره أو تخزينه أو عدم شرائه.
المشكلة في التسعير
الشركات المستوردة أيضاً تطمئن المواطن بأن المواد متوفرة، فيما المواطن يرفع الصوت لعدم تمكنه من الحصول على الكميات المطلوبة بالأسعار الرسمية. فالأزمة أزمة تسعير لا كميات.
الشركات المستوردة تؤمن 60% من حاجات السوق من مادة المازوت أو الديزل، في حين تستورد وزارة الطاقة من خلال مناقصات حدود 40% المتبقية. فاستهلاك لبنان من مادة المازوت في الشتاء يقدر بحوالي عشرة ملايين لتر يومياً، أما الاستهلاك في الصيف فيقدر بحوالي ثمانية ملايين لتر يومياً.
كسر الاحتكار
وبالنسبة إلى مادة البنزين فالاستهلاك اليومي في لبنان يُقدر بعشرة ملايين لتر يومياً، تستورد 90% منها الشركات، علماً بأن وزارة الطاقة دخلت في الفترة الأخيرة على خط استيراد البنزين لكسر احتكار الشركات، فأمنت 10% كخطوة أولى من إجمالي كميات البنزين المستهلكة في السوق.
إذاً الكميات مؤمنة والأزمة ناتجة عن التسعير، فحصة صاحب محطة المحروقات (ما يعرف بالجعالة) على المازوت محددة من قبل وزارة الطاقة عند 1425 ليرة لبنانية عن كل صفيحة تباع إلى المستهلك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبما أن الشركات المستوردة للنفط تفرض على المحطات دفع 15% من قيمة السلع بالدولار، ونظراً لسعر صفيحة المازوت، يتحرك حول 18000 ليرة للصفيحة، بالتالي 1.8 دولار عن كل صفيحة يجب أن تُدفع بالدولار بسعر السوق، أي على المحطة دفع 4500 ليرة بدل من 2727 ليرة بفارق 1773 ليرة.
وبالتالي، إذا قارنّا الفرق بالجعالة يتضح أن المحطات تسجل خسارة 350 ليرة عن كل صفيحة مازوت تبيعها.
ما دفع بعض المحطات غير المرتبطة بعقود مع الشركات المستوردة، التي لا تستطيع أن تصل إلى منشآت النفط المملوكة للدولة، للتوقف عن شراء وبيع هذه المادة الحيوية.
سوق سوداء جديدة
وفي هذا الشأن، يوضح نقيب موزعي المحروقات ومستشار محطات المحروقات فادي أبو شقرا لـ"اندبندنت عربية"، أن 50% من المحطات في لبنان متوقفة حالياً عن شراء مادة المازوت، وهي تتركز في قرى الأطراف حيث الشتاء أبرد وأقسى، ما يخلق أزمة إنسانية مرشحة إلى التزايد .
وبينما يعمد البعض الآخر من المحطات المرتبط بعقود مع الشركات إلى بيع الصفيحة بسعر أعلى من السعر الرسمي المحدد أسبوعياً من قبل وزارة الطاقة، وفي بعض المناطق كالبقاع، تُباع الصفيحة بـ21 ألف ليرة بالمقارنة مع 18 ألف ليرة محددة رسمياً، وهذه المحطات معرّضة لغرامات وملاحقة قانونية .
كما يكشف أبو شقرا أن سوقاً سوداء للمازوت بدأت تنشط مستفيدة من الكميات التي تستوردها الدولة اللبنانية عبر وزارة الطاقة إلى منشآت النفط .
فمنشآت النفط تبيع مادة المازوت بالليرة حصراً ولكن الكميات الموزعة لا تكفي حاجة السوق .
تخزين وفوضى
فالاستهلاك اليومي يتحرك حول تسعة ملايين لتر يومياً، في وقت لا توزع المنشآت أكثر من سبعة ملايين، خُصص جزء منها لأصحاب المولدات الخاصة وتحديداً مليون إلى 1.2 مليون لتر، وهنا بالتحديد تنشط السوق السوداء.
فالموزعون الذين يشترون المازوت لتسليمه إلى أصحاب المولدات لا يوزعون كامل الكمية بل يلجأون إلى تخزينها وبيعها بأسعار أعلى للمواطنين، ما شكّل أزمة جديدة تمثلت في وقف أصحاب المولدات للتغذية بالكهرباء خلال ساعات الليل بذريعة عدم توافر المازوت.
هي إذا الفوضى في لبنان التي تعم القطاعات كافة، ومنها قطاع المحروقات وتوفير الطاقة. فالجهات المعنية غائبة عن سمع معاناة المواطنين واستغلالهم. ومع تدهور مؤشرات الاقتصاد وارتفاع نسب الفقر لا تبدو الأيام القليلة المقبلة أسهل على اللبناني الذي أصبح أسير دولة مستقيلة ودولار ملتهب، يلتهم قدرته الشرائية وعيشه الكريم. وأزمة المازوت تفتح أبواباً على أزمات أخرى تطال الخبز والمستشفيات وغيرها لتصبح المرحلة المقبلة مرحلة المجهول.