في معرض تقديمه لافتتاح قاعدة "برنيس" العسكرية المطلة على سواحل البحر الأحمر أواخر الأسبوع الماضي، تحدث العقيد بالجيش المصري ياسر وهبة، قائلا، "إن مصر التي تمد يدها بالخير والسلام والمحبة إلى كل دول العالم، هي ذاتها التي ستدافع عن حقوقها ومكتسبات شعبها".
وتعد القاعدة الأكبر والأضخم بأفريقيا، ووصفها العسكريون ووسائل الإعلام المصرية، بأنها "إحدى القلاع العسكرية ذات القوة الضاربة في البحر والبر والجو".
وشدد العقيد وهبة على "أن القاهرة لم تكن في يوم من الأيام دولة معتدية أو مغتصبة لحقوق الآخرين أو طامعة في خيراتهم أو معوّقة لتنمية أحد، وأن الأنشطة التدريبية التي تمت ما هي إلا عرض لبعض إمكانيات هذه القاعدة، التي تزخر بالعديد من الإمكانيات وتعمل في تناغم وتنسيق وتعاون كامل مع باقي تشكيلات ووحدات جيش مصر، الذي يرابط رجاله في كل بقعة من أرض الوطن"، لتستدعي الكلمات تصفيقاً حارا من الحاضرين، وعلى رأسهم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وضيفاه العربيان ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، ونائب وزير الدفاع السعودي خالد بن سلمان، وإلى جوارهم الرئيس البلغاري رومن راديف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واستدعى افتتاح القاعدة مشاهد المناورة العسكرية "قادر 2020" التي أجرتها القوات المسلحة المصرية بكافة أفرعها على مدار الأيام الأخيرة، وشهد الرئيس المصري ختام فعالياتهما خلال افتتاحه قاعدة "برنيس"، كثيرا من الأجوبة وقليلا من الأسئلة.
وفق عدد من العسكريين والأمنيين، ذوي الصلة بالشأن المصري والإقليمي، "فإن القاعدة بثت العديد من الرسائل للقاصي والداني على مستويي الأمن القومي المصري والعربي وسط التهديدات التي تنال من المحاور الاستراتيجية المختلفة لمصر والعالم العربي"، على حد وصفهم. في إشارة إلى أزمات ممتدة ومعقدة تشهدها المنطقة كالأزمة الليبية والأوضاع باليمن والخليج العربي فضلا عن التوتر القائم بين القاهرة وأديس أبابا حول "سد النهضة" المثير للجدل.
فما هي قاعدة برنيس (الواقعة جنوب شرقي البلاد)، وأي رسائل يحملها الاستعراض العسكري الضخم بها بحضور سعودي وإماراتي محليا وإقليمياً، لا سيما أنها ثاني كبرى القواعد العسكرية التي تشيدها القاهرة في السنوات الثلاث الأخيرة بعد قاعدة محمد نجيب (نسبة إلى أول رئيس للبلاد بعد ثورة 1952) بأعماق غرب البلاد؟
ماذا نعرف عن قاعدة "برنيس"؟
بحسب حديث لـ"اندبندنت عربية" مع المتحدث الرسمي باسم القوات المسلحة المصرية العقيد تامر الرفاعي، والأفلام التسجيلية التي بثها الجيش المصري، "فإن قاعدة برنيس، الممتدة على مساحة نحو 150 ألف فدان والواقعة بالقرب من الحدود الجنوبية شرقي مدينة أسوان، تصنف عسكرياً بأنها (غير نمطية)، إذ إنها تتضمن قاعدة بحرية وأخرى جوية ومستشفى عسكرياً وعددا من الوحدات القتالية، وتعد إحدى القلاع العسكرية ذات القوة الضاربة في البر والبحر والجو".
وتضم قاعدة برنيس، التي لم يكشف عن تفاصيل تكلفتها، بعد أن أنجزت في غضون شهور، وفق المتحدث الرسمي، عددا من الممرات كل منها بطول 3 آلاف متر وعرض من 30 إلى 45 مترا، بالإضافة إلى عدد من دشم الطائرات ذات التحصين العالي، وهنجر عام لصيانة وإصلاح الطائرات. كما تضم القاعدة الجوية منطقة فنية تشمل 45 مبنى ومنطقة إدارية تشمل 51 مبنى.
وتتنوع المنشآت العسكرية لقاعدة برنيس العسكرية، حيث تضم في الشق البحري رصيفا حربيا بطول ألف متر وعمق 14 مترا تسمح بمتطلبات الوحدات البحرية ذات الغاطس الكبير مثل الميسترال والفرقاطات والغواصات، فيما تضم القاعدة العديد من ميادين التدريب والرماية، مع إنشاء ميناء تجاري يضم عدة أرصفة بطول 1200 متر وعمق 17 مترا وعدد من المنشآت الخدمية.
وأدخلت في "برنيس"، التي يتمركز فيها وحدات ميكانيكية ووحدات مدرعة وعناصر الإشارة ووحدات الحرب الإلكترونية ووحدات المراقبة ومجموعة الدفاع الجوي، وفقما أوضح وهبة، أحدث الفرقاطات ولنشات الصواريخ والغواصات وحاملات المروحيات بما لها من خواص استراتيجية وتكتيكية تعزز من القدرات الهجومية والدفاعية للجيش المصري. فضلا عن وجود عدد من المنشآت الخدمية، بينها مستشفى عسكري مجهز بجميع المعدات الطبية وغرف العمليات ويضم 50 سريرا، ومنشآت خدمية أخرى كمحطة لتحلية مياه البحر بطاقة 3400 متر مكعب في اليوم.
وذكر عسكريون، "أنه تم ربط كافة المنشآت بشبكة من الطرق الرئيسة بإجمالي أطوال 40 كيلو متر، وطرق داخلية بالقاعدة العسكرية بأطوال تصل إلى 110 كيلو مترات أعمال الشبكات والمرافق وعدد من الأعمال الصناعية لمواجهة أخطار السيول، وإلى جانب المنشآت العسكرية يوجد مطار مدني يتكون من ممر بطول 3650 وعرض 60 مترا وترمك مدني يتسع لنحو ثماني طائرات وصالة ركاب لاستيعاب 600 راكب في الساعة وبرج مراقبة بطول 58 مترا".
رسائل مصرية من "برنيس"
في الوقت الذي تواجه فيه مصر عددا من التحديات والمخاطر على كافة "اتجاهاتها الشرقية والغربية والجنوبية والشمالية"، وفق حديث اللواء أركان حرب محمد الشهاوي، المستشار العسكري بكلية القادة والأركان، في إشارة إلى المخاطر التي تمثلها الأزمة الليبية وسد النهضة الإثيوبي المثير للجدل، فضلا عن حرية الملاحة بمضيق باب المندب وتطورات الأوضاع في اليمن، فقد مثّلت المناورة العسكرية الضخمة الذي استبق افتتاح "برنيس" واختتمت أعمالها بحضور ولي عهد أبو ظبي ونائب وزير الدفاع السعودي، "رسالة واضحة بجهازية وقدرة القوات المصرية على حماية الأمنين القومي المصري والعربي".
وعكست القاعدة العسكرية، حسبما غرد الأمير محمد بن زايد، "فإنها إنجاز نوع يعكس رؤية مصر الطموحة لآفاق تنموية شاملة، تعزز دورها المحوري في منظومة الأمن العربي والاستقرار الإقليمي. تمنياتنا لها مزيدا من التقدم والازدهار".
فيما أكد الأمير خالد بن سلمان على أهمية قاعدة برنيس العسكرية على سواحل البحر الأحمر في مصر، قائلاً، إن القاعدة تعد محوراً رئيساً لمواجهة التهديدات في نطاق البحر الأحمر وتأمين حركة الملاحة العالمية"، لافتا إلى أنها "تبين ما وصلت إليه مصر من تطور في منظوماتها العسكرية"، وفقما نقلت وكالة الأنباء السعودية الرسمية.
وبحسب المستشار العسكري بكلية القادة والأركان اللواء محمد الشهاوي "فإن قاعدة برنيس العسكرية هي الثانية في سلسلة القواعد العسكرية الجديدة (افتتحت الأولى في المحور الغربي للبلاد عام 2017، وتحمل اسم قاعدة محمد نجيب)، وتتمثل مهمتها الرئيسة في حماية وتأمين المصالح المصرية الجنوبية بمنطقة البحر الأحمر وباب المندب".
ومن ضمن الرسائل التي توجهها قاعدة "برنيس"، يضيف الشهاوي، "إنها تبعث برسالة ثقة وطمأنينة للشعب المصري، بأن قواته المسلحة هي درعه وسيفه ضد كل من يحاول أن يعبث باستقرار أو المصالح المصرية، وأن الجيش على درجة عالية من الكفاءة والقدرة"، مشيراً، "عندما تكون قويا يبتعد المعتدون عنك، ويفكرون كثيرا قبل أن يحاول المساس بمصالحك وأمنك".
وعن الحضور العربي في الافتتاح، ذكر الشهاوي، "إنها رسالة قوية لعمق العلاقات ومصيرها بين مصر والسعودية والإمارات، والتأكيد على أن القاهرة حجر الزاوية في الأمن القومي العربي ولجنوب المتوسط، وأن تطورها وتحديثها عسكريا ليس لحماية أمنها القومي وحسب، ولكن تأمين المصالح العربية، ومحاولة استعادة الاستقرار في المنطقة وضبط موازين القوى بها للصالح العربي".
من جانبه، يقول إيهاب أبو عيش، الباحث المتخصص في شؤون الأمن القومي، "أهمية (برنيس) الاستراتيجية تتمثل في أنها نقطة مهمة تتوافر بها مقومات واحتياجات الجيوش للقيام بأعباء ومهام التفوق العسكري الاستراتيجي"، موضحاً، "تكتسب تلك القاعدة خصوصية من أهمية مضيق باب المندب وخليج عدن، مرورا بمضيق هرمز والخليج العربي، لقدرتها على تنفيذ مهامها بسرعة ودقة في تلك المناطق الاستراتيجية عالمياً".
يتابع، "تقام القاعدة على سهل ساحلي وسط سلاسل من جبال البحر الأحمر، وهو ما يمنحها تفوقاً استراتيجياً وقدرة دفاعية وهجومية"، مشيراً إلى "أنه تمت إقامتها عند أضيق مساحة بحرية على شاطئ البحر الأحمر جنوبا بين مصر والسعودية، وأقل مسافة طيران بين مصر ودول الخليج العربي، وهو ما يعزز مفاهيم حماية الأمن القومي العربي في شكله الجماعي".
يعدد أبو عيش، أهمية القاعدة على المستوى الجيوسياسي، بقوله، "منطقة برنيس تعد نقطة عبور استراتيجية إلى منطقة القرن الأفريقي، الذي يشهد اضطرابات أمنية قد تؤثر على حرية الملاحة العالمية مرروا بالبحر الأحمر وقناة السويس وصولا إلى البحر المتوسط والدول الأوروبية".
وكان المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية بسام راضي، ذكر "أن برنيس تعكس فلسفة القيادة السياسية والقيادة العامة للقوات المسلحة في بناء قواعد عسكرية"، موضحاً "أن إنشاءها يأتي ضمن رؤية مصر المستقبلية 2030، وتعكس خصائصها أنها مركزٌ لانطلاق القوات المسلحة المصرية لتنفيذ أي مهام توكل إليها على الاتجاه الاستراتيجي الجنوبي"، مشددا على "أن قوتها الضاربة ترتبط بمختلف المتغيرات الإقليمية والدولية مما يعزز التصنيف العالمي للقوات المسلحة المصرية بين مختلف الجيوش العالمية".
وذكر راضي، "أن الهدف الاستراتيجي لإنشاء قاعدة برنيس يتمثل في حماية وتأمين السواحل المصرية الجنوبية وحماية الاستثمارات الاقتصادية والثروات الطبيعية ومواجهة التحديات الأمنية في نطاق البحر الأحمر فضلاً عن تأمين حركة الملاحة العالمية عبر محور الحركة من البحر الأحمر وحتى قناة السويس والمناطق الاقتصادية المرتبطة بها".
ووفق مراقبين ومعنين بالشؤون الأمنية والعسكرية، يواجه الأمن القومي المصري تحديات غير مسبوقة "على المحورين الجنوبي والغربي"، على رأسها قضية "سد النهضة"، وأزمته المتفاقمة بين القاهرة وأديس أبابا، وسط "مراوحة" المفاوضات بين البلدين لمكانها، فضلا عما يمثله السودان وتطورات الأوضاع بها من "أمن قومي مباشر لمصر".
وفي أكثر من مناسبة كرر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أن القاهرة "لن تسمح لأحد أن يعتقد أنه يستطيع السيطرة على ليبيا والسودان، ولن نسمح لأحد بالسيطرة عليهما"، معتبراً أنه "أمر في صميم الأمن القومي المصري"، مشيرا إلى أن السودان وليبيا "دولُ جوار" مباشر لمصر.
وتأتي الأزمات في كل من "ليبيا والصراع على الغاز بشرق المتوسط"، بعد أن اتخذت الأزمة الليبية منحى جديداً منذ نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، إثر توقيع تركيا وحكومة الوفاق (مقرها طرابلس وتعترف بها الأمم المتحدة) اتفاقين، يتعلق الأول بترسيم الحدود البحرية بين الطرفين، فيما يتناول الثاني التعاون العسكري والأمني، وما تبعه من إرسال أنقرة لقوات عسكرية لدعم حكومة الوفاق في طرابلس.
ووفق تصنيف "جلوبال فاير باور"، المعني بتصنيف قوة الجيوش في العالم، فقد احتل الجيش المصري عام 2019 المرتبة الثانية عشرة عالميا، متصدرا الجيوش العربية والأفريقية. وأوضح الموقع ذاته في تصنيفه الأخير، أن مصر تمتلك واحداً من أكبر الجيوش مع تزايد الصناعة العسكرية المحلية.
ويعتمد تصنيف "جلوبال فاير باور" على 55 عاملا لتحديد "مؤشر القوة" لكل جيش. ولا يعتمد الترتيب فقط على العدد الإجمالي للأسلحة الموجودة لدى أي دولة، ولكن يركز بدلا عن ذلك على تنوع السلاح، وتطور التكنولوجيا المستخدمة.
ليست القاعدة الوحيدة "حديثاً"
على مدار السنوات الأخيرة، انتهجت القوات المسلحة المصرية مسارا لتحديث ترسانتها العسكرية، فضلا عن بناء قواعد عسكرية متطورة تعكس قدرتها على حماية المصالح المصرية في مختلف الاتجاهات الاستراتيجية.
فبعد قاعدة محمد نجيب الضخمة التي تم افتتاحها في يوليو (تموز) من عام 2017 على المحور الغربي للبلاد، جاء افتتاح قاعدة برنيس بالاتجاه الجنوبي الشرقي، فيما تشير مصادر إلى اعتزام القاهرة افتتاح وبناء قواعد عسكرية أخرى، في الشمال والوسط، لا تقل قدرتها عن السابقتين.
ووفق فيديوهات ومصادر عسكرية، فإن القوات المصرية تعتزم الانتهاء من قواعد عسكرية أخرى كبرى، في جهة الشمال (قاعدة شرق بورسعيد البحرية)، التي تطل على المدخل الشمالي لقناة السويس على البحر المتوسط، لتوفير الحماية والتأمين اللازمين للمنطقة الاقتصادية المصرية حيث اكتشافات هائلة من الغاز وتوترات قائمة في شرق المتوسط بشأنها.
وفي الاتجاه الغربي، يأتي الحديث عن قاعدة أخرى تسمى "جرجوب"، وتقع بمنطقة النجيلة غربي مدينة مطروح الساحلية غربي مصر، وتتضمن المنطقة ميناء جرجوب التجاري، والمنطقة الصناعية واللوجيستية، والمدينة الترفيهية العالمية، والمركز الاقتصادي والسياحي.
وبالإضافة إلى تلك القواعد العسكرية، فإن مصر لديها العديد من القواعد البحرية، من أهمها قواعد الإسكندرية (رأس التين – أبو قير)، وبورسعيد، والسويس، وسفاجا، ومطروح (قاعدة لنشات)، والرصيف الحربي في ميناء دمياط، والرصيف الحربي في ميناء الغردقة، والرصيف الحربي في ميناء شرم الشيخ.
وبحسب مراقبين، فإن التوسع في القواعد العسكرية مصرياً يأتي في إطار إعادة النظر بالتوزيع الجغرافي لمناطق ارتكاز القوات المصرية، فضلا عن إعادة تغيير المستوى التخطيطي والعملياتي للجيش.