إذا كان واضحاً، أنَّ ثمة تياراً لثورة مضادة ظلّ يستثمر في العثرات التي تمرّ بها الثورة السودانية عبر تدابير خبيثة ولا متناهية، من أجل إعادة عقارب الساعة إلى الوراء بعد 30 سنة من التخريب، فإن ما كشفت عنه أحداث تمرد قوات هيئة الإدارة التابعة للاستخبارات العسكرية يوم 14 يناير (كانون الثاني) الماضي، إبانَ خطورة تيار الثورة المضادة عبر ذراع جهاز الأمن.
الثورة المضادة، إذاً، تُضمر باستمرار تخطيطها وتدابيرها عبر أكثر من جهة وجهاز حكومي في بنى أجهزة الخدمة المدنية والعسكرية في السودان.
ما لم ينتبه إليه كثيرون في طبيعة نظام الإخوان المسلمين الذي دام 30 عاماً، هو أنه ليس مجرد نظام سياسي فحسب (كما كان الحال في تونس أيام زين العابدين بن علي مثلاً) لكنه، إلى جانب ذلك نظامٌ عقائديّ (وهنا تكمن خطورته)، فنظام الإسلام السياسي الذي صممه حسن الترابي كان يهدف إلى إعادة صياغة الإنسان السوداني ما قبل العام 1989 صياغةً جديدةً وفق رؤية "المشروع الحضاري"!
وحيال تصميم كهذا في إرادة تغيير المجتمع، لا يمكن لمثل هذا النظام ترك أي منصب حكومي، مهما كان صغيراً، لجهة أخرى من خارج عناصر التنظيم، في عملية (التمكين) التي استمرت ثلاثين سنة (سُميت زوراً بالتمكين عبر استثمار تحريفي مضلل لمفاهيم الدين الإسلامي).
ذلك أن عملية "التمكين" على مدى 30 سنة هي الشوكة التي يتعين على الثورة السودانية اقتلاعها اليوم بأي ثمن وبأسرع وقت، إذ ما زالت حكومة الحرية والتغيير منذ بداية المرحلة الانتقالية في سبتمبر (أيلول) الماضي بقيادة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك تواجه عقبات كبيرة في مواجهة التخلص التدريجي من آثار خراب 30 سنة في الجهاز الهيكلي للخدمة المدنية والعسكرية بالسودان!
صحيحٌ، أن هناك تحديات مهولة، وستمتص كثيراً من جهود الحكومة الانتقالية، لكنها عملية طويلة وضرورية، ولا بد منها لاستئناف أي عمل جاد من أجل إنجاح الثورة.
لقد كانت هناك أخطاء بارزة وقعت فيها الثورة السودانية خلال مسارها من أجل إسقاط نظام البشير، لا سيما في تهاون المجلس العسكري (قبل اتفاق 17 أغسطس "آب" الماضي) مع كثيرٍ من منسوبي نظام البشير والأجسام التي خلَّفها في بنية الدولة.
اليوم، بدا لنا تماماً أن كل تأخير في اتخاذ التدابير الحاسمة حيال عملية تصفية واقتلاع نظام "التمكين" كان يجعل العراقيل أكثر صلابة في مسار الثورة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبينما يصرّ اتجاه في قوى الحرية والتغيير على تفكيك نظام التمكين وفق علميات وضوابط قانونية (ستحتاج إلى وقت)، تجري على قدم وساق تدابير نشطة يومياً يشتغل عليها منسوبو نظام البشير، ويستخدمون فيها كل أوراقهم وطاقاتهم وقدراتهم ومعرفتهم وإمكاناتهم المالية، سواءً عبر خلق الفتن بين المكونات الأهلية (كما حدث في مدينتي بورتسودان والجنينة) لعرقلة الاستقرار، أو عبر تهريب كميات مهولة من الذهب يومياً تبلغ نحو 150 كيلوغراماً، أو اللعب بأسعار العملة كالدولار الذي تأثرت به أسعار السلع الضرورية تأثراً خطيراً، إلى جانب صحفهم الصفراء التي تنشط يومياً في تهييج خطاب كراهية ضد الثورة.
وإزاء وضع كهذا، ربما يشكك كثيرون في جدوى تلك المثالية (القانونية) التي تدعو إليها أطراف في قوى الحرية والتغيير حيال الالتزام الصارم بمسار القانون في التعامل مع ذلك التخطيط الماكر والأذى اليومي ضد توجه الثورة السودانية وعرقلة الحكومة الانتقالية.
يرى بعض الناشطين السياسيين، أنه ربما كان هناك خللٌ في طبيعة اختيار قوى الحرية والتغيير للطاقم الوزاري للحكومة الانتقالية، وهو طاقم غالبية الوزراء فيه كانت من الخبراء والعاملين في المنظمات الدولية خارج السودان، الأمر الذي لا يمكنها أبداً من تصوّر مقدار الأذى والخراب المديد الذي ألحقه نظام البشير عبر تدميره مقومات أي جهاز حكومي مدني أو عسكري، إلى جانب الحروب الأهلية والفساد في السودان!
ما هو مؤكدٌ في سياق هذا المسار الذي تخوضه الثورة السودانية، أن هناك إصراراً عنيداً من الحاضنة الشعبية للثورة عبر لجان المقاومة (وهي تشكيلات للجان أحياء في عموم السودان نظّمها الثوار لمواجهة نظام البشير عبر توجيهات تجمع المهنيين السودانيين منذ انطلاق الثورة) على استمرار الثورة إلى غاياتها، عبر دعم الحكومة الانتقالية.
وما هو مؤكدٌ كذلك، أن مواجهة آثار 30 عاماً من التمكين لنظام عقائدي أمرٌ صعبٌ ومركبٌ، ويحتاج إلى صيرورة مستمرة ولا متناهية من التخطيط الدائم واليقظة والحرص والنفس الطويل في المواجهة، والاستعداد لتبديل الخطط باستمرار بحثاً عن أنجع الحلول لإفساد خطط الثورة المضادة.
صحيح، ظل هناك بطء في إصدار القرارات الجديدة المتصلة بتصفية آثار نظام البشير. لكن، مؤخراً، وبعد تصاعد أصوات الثوار عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ظهر تحسّنٌ ملحوظٌ في عمل طاقم الحكومة الانتقالية التي ستدخل شهرها السادس بعد أسبوع. يريد كثيرون من الثوار والحالمين (لا سيما ثوار وسائل التواصل الاجتماعي) حلولاً سحرية في زمن ليست فيه معجزات، من ناحية، ولا يمكن المضي فيه بخطط الثورة على غرار نسق الثورات الكلاسيكية للقرن العشرين، من ناحية ثانية.
بين طبيعة الواقع وبطء التغييرات فيه، وبين عجلة ثوار وسائل التواصل الاجتماعي، تمر الثورة السودانية بمسار لا بد أن تمتلك فيه ميزاناً دقيقاً يقدِّر عميقاً طبيعة وعبء مواجهة خراب ثلاثين سنة، ويدرك تماماً أن أهم سلاح في هذه المرحلة هو الثقة البينية في تحالف أحزاب وأجسام قوى الحرية والتغيير، وكذلك الشفافية التامة وتمليك الحقائق لجماهير الثورة أولاً بأول، لكي تستمر الثقة ويتحقق النجاح.