"مدرك تماماً للصعوبات التي تواجه الدول التي تحاول النمو والتطور، ولكنها تواجه في الغالب أولئك الذي يعارضون تلك المحاولات"، هذا ما تضمنته أولى رسائل العالم والفيلسوف البريطاني الشهير "برتراند راسل" التي أرسلها للملك السعودي فيصل بن عبدالعزيز (ولي العهد آنذاك)، ضمن سلسلة من المراسلات استمرت بين الطرفين إلى حين وصول الأمير للحكم، حول القضايا العربية السياسية والأمنية، وسباق التسلح الذي شهدته المنطقة في ذروة الصراع مع إسرائيل.
إذ لم يكن حال المنطقة في الماضي أفضل مما هو عليه الآن، فصناعة الاستقرار في الدول العربية كان قضيةً على كل طاولة قرار يعنيها استقراره، فلم يحتكر قادة الدول جهود حل صراعاته في مكاتبهم المغلقة، بل وشاركت المنظمات الدولية ومؤسسات المجتمع المدني في محاولة جلب شيء من الاستقرار لمنطقة لم تعرف أجيالها المتعاقبة طعماً له.
كان من أولئك الذين اقتحموا مكاتب السياسيين وبلاط الملوك عن طريق قضايا المنطقة هو برتراند راسل الذي حمل القضية المستحيلة في محاولاته لإطفاء مشاعل الحرب في أرجاء العالم عن طريق مؤسسته "برتراند رسل للسلام"، في قرنٍ تعرف فيه العالم على أبشع وجوه الحرب على الإطلاق، كان من ضمنها القضية اليمنية التي سعى فيها بمراسلاته مع الأمير فيصل لإيجاد حلٍ لها، إذ تضمنت الرسائل المؤرشفة تقدير البريطاني لوجهة نظر فيصل حول ما ذكره له بشأن اليمن، قائلاً "لقد أمعنت النظر في ما ذكرتم حول اليمن، وأتمنى أن تستمر اتصالاتنا بخصوص ذلك"، إلا أن الوثائق لم تذكر ما قاله الملك فيصل لراسل في حينها.
كان راسل ناشطاً سياسياً بارزاً، ومنظراً هاماً في دوائر مناهضة الحرب وأحد أنصار التجارة الحرة ومناهضة الإمبريالية، حتى أودت به آراؤه يوماً إلى السجن بسبب نشاطه الداعي للسلام خلال الحرب العالمية الأولى، بعد أن قفز من سفينة قادة الحرب الكونية بمعاداته لأدولف هتلر وانتقاده الشمولية الستالينية، فضلاً على مهاجمته تورط الولايات المتحدة في حرب فيتنام.
نشاطه الذي تلى الحرب العالمية الثانية، تركز على جهود وقف انتشار الأسلحة النووية، الوحش الجديد الذي ينتشر في العالم بسرعة، فقد كان من الداعين لنزع الأسلحة النووية والحد من انتشاره، الأمر الذي قاده للتعرف على الملك السعودي فيصل بن عبدالعزيز قبل أن يتقلد الحكم، إذ تشير الوثائق المؤرشفة في جامعة مكماستر بكندا والتي قامت دارة الملك عبدالعزيز بنشرها، إلى أن أول تواصل بين ولي العهد السعودي آنذاك والفيلسوف البريطاني كان عام 1962 عندما طلب راسل من الملك فيصل السماح لاثنين من مساعديه بزيارة الرياض ومقابلته، وهو ما حدث.
التواصل الأول
تشير تلك المراسلات إلى أن أول اتصال، بين فيصل وراسل حصل عندما كان ولياً للعهد؛ فبعد أن أجابه الأمير فيصل بالموافقة أمر سفارة الرياض في بغداد بإصدار التأشيرة اللازمة لهما، وطلب الاهتمام بهذين المندوبين باعتبارهما ضيفين خاصين أثناء إقامتهما في السعودية.
وبعد عدة أيام من رسالة الأمير فيصل إلى بغداد، أهداه راسل كتابه الذي أصدره أخيراً بعنوان "تاريخ العالم"، فرد فيصل برسالة إلى "راسل " يشكره فيها على الإهداء قائلاً
"استلمت بكل سعادة رسالتك المؤرخة في 19 أكتوبر 1962، ومرفق بها كتاب بعنوان "تاريخ العالم" الذي أشكرك عليه، ولقد نجحت بلا شك فهذا الكتاب ثمين رغم حجمه الصغير، وأسال الله العظيم أن يقود الجميع إلى ما ينفع الناس"
الحرب ضد الأسلحة النووية
وازدادت هذه العلاقة بين الجانبين عندما استقبل الأمير فيصل المبعوثين الاثنين من قبل راسل وهما "نك" و "رالف"، وأجابهما عن تساؤلاتهما، واستمع منهما إلى ما يقوم به برتراند من جهود وأنشطة؛ فلقد كتب راسل إلى الأمير في يناير 1936، ليعبر له عن انطباعه مما نقله له المبعوثان قائلاً "لقد تأثر كلاهما بحديثهما معكم، وقاما بتسجيل ما دار معكم من حديث مهم لأطلع عليه ".
ويضيف راسل "لقد تشجعت الآن بشكل كبير عندما علمت عن تأييدكم بشكل خاص للصراع ضد الحرب النووية، كما أقدر لكم المعلومات التي كان من الصعب الحصول عليها دون مساعدتكم عن طبيعة الأحداث في الشرق الأوسط ".
وبعد أشهرٍ كتب راسل رسالة جديدة يعبر فيها عن استيائه من سباق التسلح الذي تشهده المنطقة فترة التصعيد بين العرب وإسرائيل "أنا أكتب لك الآن لأنني منزعج جداً بسبب انطلاق سباق التسلح بين إسرائيل والعالم العربي بما في ذلك الصواريخ والأسلحة النووية، وأنا مقتنع أنه إذا لم تجد إسرائيل أو العالم العربي طريقاً لاتخاذ موقف حاسم لغرض إنهاء سباق التسلح في الشرق الأوسط، فإنه سيحدث صراع مروع يقود إلى تدخل قوى الحرب الباردة التي ستستغل المشكلة لمصالحها، والنتيجة ربما تكون دمارًا نووياً، إن أملي الكبير أن يكون في استطاعة كل زعيم في الشرق الأوسط أن يعلن عن استعداده لقبول المراقبة الدولية والسيطرة على المعامل النووية ومنصات الصواريخ تحت إشراف الأمم المتحدة والقوى العظمى".
وناشد راسل الأمير فيصل ليقبل بتلك المراقبة والسيطرة ما دام أن الوقت يسمح بذلك، وهو ما لم يتلقّ رداً عليه.
دعم مؤسسة رسل للسلام
ورغم ان الرجلين قد اختلفا في رؤيتهما حول الشرق الأوسط، والخطوات الصحيحة لصنع الاستقرار فيه، إلا أن العلاقة بينهما لم تنقطع.
فقد عاود برتراند مراسلة الأمير بعدها بفترة، لكن هذه المرة في رسالة عرّف فيها عن مؤسسته التي تهدف للتوعية بقضاياه المتعلقة بالحد من الحروب وانتشار الأسلحة النووية، وتضمنت الرسالة منشوراً يحمل أهداف المؤسسة، التي واصفها في رسالته بـ"الأهداف الطموحة" القابلة للتحقيق.
وعندما تولى الملك فيصل الحكم بادره راسل برسالة تهنئة وتضمنت دعوة لدعم "مؤسسة برتراند راسل للسلام"، وهو ما رحب به الملك فيصل، قائلاً
"أقدر عاطفتكم الطيبة نحوي بما ضمنتموه في كتابكم الذي بعثتم به إلي، وإننا إن شاء الله لن نتأخر عن مساعدة مؤسسة برتراند رسل للسلام"
إلا أن راسل واصل اتصالاته بالملك فيصل ليحثه على دعم مقترحاته للسلام في المنطقة، ففي عام 1965 أرسل له رسالة يفيده فيها بأن ممثله خالد زكي سيحمل إليه مقترحات نيابة عنه بشأن دور المؤسسة برتراند في الشرق الأوسط، وأنه يأمل في إسهامه بدفع عجلة المؤسسة للقيام بمهامها، ومتسائلاً عن مساعي حل النزاع في اليمن، ونتيجة لهذا الطلب الملح وجه الملك فيصل رسالة إلى "راسل" يبلغه فيها بقرار تقديم منحة قدرها ألف جنيه إسترليني للمؤسسة، ومجيباً عن تساؤلاته حول اليمن.
"...وتشجيعاً لمؤسستكم قد قررنا منحها هبة قدرها ألف جنية إسترليني ستصلكم قريباً، وبالنسبة لما عرضتموه من اقتراحات لفض النزاع اليمني، فإن المساعي لا تزال مبذولة بين الفرقاء المعنيين لعودة السلام إلى اليمن، ونحن لا ندخر وسعاً في سبيل إدراك هذه الغاية وأملنا وطيد في أن تسفر المساعي المبذولة عن تحقيق الغاية المرتجاة".