مع إعلان الإدارة الأميركية عن مشروع التسوية الفلسطينية الإسرائيلية، ومنح إسرائيل سيطرة أمنية على أجزاء كبيرة من الأراضي الفلسطينية من غور الأردن حتى البحر المتوسط، والاعتراف بشرعية المستوطنات، وسيطرة إسرائيل على القدس عاصمة موحدة لها، والتنازل بشكل مطلق عن مطالبة تل أبيب بهدم أي مستوطنات بنتها في الضفة الغربية، مع تقديم الخطة أرضاً قابلة للتفاوض من حيث الحجم إلى الضفة الغربية وغزة لإقامة دولة فلسطين، في إطار فكرة حلّ الدولتين، وإن كانت الخطة منحت سيطرة إسرائيلية كاملة على الكتل الاستيطانية الكبيرة في الضفة الغربية، بات السؤال المطروح: ماذا بعد؟ بخاصة وأن تباين مواقف الأطراف المعنية من الصفقة كان طبيعيا ومطروحا قبل الإعلان الفعلي عن كل بنودها.
وقد نما إلى علمنا أن فريق الخبراء الأميركيين رفضوا فعليا تقديم خرائط كاملة للحدود الجديدة وفضّلوا ترك الأمر مبهما وقابلا للتفاوض، بناء على نصيحة عدد من مستشاري مركزيّ "واشنطن" و"سابان" تحديدا، وأن ما تم طرحه غير رسمي، كما خرجت الصفقة في حدود 181 صفحة، تشبّهاً بقرار التقسيم الشهير 181 الصادر عام 1947، والقاضي بالإعلان عن دولتين على الأراضي الفلسطينية.
تحركات استباقية
لن تكتفي الإدارة الأميركية بالإعلان عن خطة السلام، بل ستعمل على تنفيذها مع الحكومة الإسرائيلية، وهو ما اتضح فيما يلي:
1- استدعاء طرف المعادلة السياسية الآخر، ممثلا في زعيم تحالف "أزرق أبيض"، بيني غانتس، إلى واشنطن وإجراء مفاوضات مباشرة بشأن تنفيذ الصفقة، والتعامل معه كشريك كامل، وهو ما يعني أن الإدارة الأميركية لن تعتمد فقط على رئيس الوزراء الراهن، تخوفا من توجيه أدلة دامغة في القضايا المتهم فيها، واحتمالات خروجه من المشهد، وبالتالي تعاملت إدارة البيت الأبيض مع الشريك المحتمل، ومن الواضح أن هذا الأمر تمّ بناء على مشورة فريق الخبراء في مراكز البحوث التي استعانت بها إدارة ترمب في الصياغة الأخيرة للطرح الأميركي الرسمي، وكان من بينهم شخصيات دبلوماسية بارزة، منهم السفير مارتن إنديك، والسفير دينس روس (برغم بعض تصريحاتهم المتحفظة).
وقد وصلنا من مصادرنا، أن فريقا من المستشارين الأميركيين والإسرائيليين (غير الرسميين) التقوا أثناء الإعداد للإعلان عن مشروع الصفقة للبحث في البدائل ومسارات التحرك حال فشل تنفيذ الخطة، وأن هؤلاء صاغوا رؤية بديلة ومسارات مستقبلية للتحرك على الجانبين، في حال واجهت الخطة الأميركية إشكاليات في التنفيذ.
2- تتخوف الإدارة الأميركية من تحوّل المشروع بالفعل لوثيقة عمل غير ملزمة، مثلما فعلها من قبل الرئيس بوش الابن وكذا الرئيس كلينتون، وبالتالي فإن إدارة ترمب وضعت آليات تنفيذ كاملة بالتنسيق مع الحكومة الإسرائيلية (لم تُعلن على الملء في الوقت الراهن وتحسبا لمزيد من التحفظات)، ومن ضمنها تقديم خرائط نهائية للدولة الفلسطينية. وما نشره الرئيس ترمب ما زال في سياقه الأوليّ، وسيمنح انتخاب ترمب لولاية جديدة الفرصة لتنفيذ ما تم طرحه رسميا، وسيبلور ما تم الاتفاق بشأنه سابقا في توقيع اتفاق دفاعي غير مسبوق بين واشنطن وتل أبيب، وتنفيذ القائمة التحفيزية للإدارة الأميركية للحكومة الإسرائيلية الجديدة، حيث سيبدأ الجانبان حوارا استراتيجيا كاملا خلال الأسابيع المقبلة.
3- تعمل الإدارة الأميركية تجاه الأطراف المعنية انطلاقا من حسابات محددة. فالدول المعنية، مثل مصر والأردن، سيكون لهم دور محدد متجاوز لما طرح من ترتيبات أمنية وسياسية، ستكون على الهامش، بخاصة وأن موضوع ضمّ الأغوار وفرض السيادة الإسرائيلية على المستوطنات سيُنظر إليه من الآن فصاعدا على أنه شأن إسرائيلي خاص بالأساس، كما سيعاد النظر فيما طرح في مقاربة "المنامة" من تسهيلات اقتصادية وتعاون إقليمي سيخصّ مصر، وليس الأردن، عبر مشروعات ستطرح بالتفصيل. أما عمّان، فالموضوع معقّد ولن يقتصر على الأغوار، بل سيمتدّ لموضوعات خاصة بالإشراف على المقدسات الإسلامية وتأمين الحكم الهاشمي وشكل العلاقات المقبلة بين الأردن و"الكيان" الفلسطيني المقترح في الخطة. والبديل - في حال استمرار التحفظات الأردنية المعلنة- سيكون التلويح بصيغة جديدة في التعامل. أما دول الخليج، فالأمر مختلف، بخاصة وأن دورها لن يكون مموِّلا فقط، بل شريكا في مشروعات التعاون وإتمام منظومة السلام الاقتصادي، وهو الأهم بالنسبة إلى إسرائيل والإقليم، في ظل الانفتاح الحذر في العلاقات الخليجية على إسرائيل، مع بقاء المبادرة العربية مطروحة في إطارها النظري، وسيكون الأمر متعلقا بواقعية سياسية حقيقية ومصالح مشتركة حقيقية، تضم دول الخليج ومصر والأردن.
ووفق معلومات حصلنا عليها، فإن الرئيس ترمب رفض دعوة بعض القادة والزعماء للتمهيد للإعلان عن "صفقة القرن"، خصوصا وأن هناك زيارات مرتقبة لعدد من الرؤساء العرب لواشنطن خلال الفترة المقبلة، وتخوفا من ردّ الفعل المحتمل، واكتُفي بالرسائل والاتصالات الدبلوماسية غير المعلنة.
4- لن تتعامل الإدارة الأميركية مع السلطة الفلسطينية كطرف مؤثر أو شريك، بل ستعمل على التأكيد على أن الرفض الفلسطيني مدعاة لدفع إسرائيل للاستمرار في إجراءاتها من جانب واحد، ومن ثم فإن المسعى الأميركي لإيجاد بديل للرئيس محمود عباس سيستمر، وهناك تحركات نحو إيجاد قيادات محلية في الضفة الغربية لتكون البديل الجاهز للسلطة الفلسطينية وتشكيل مجالس بلديات حال حدوث فوضى في الضفة الغربية، إذا قطعت السلطة الفلسطينية اتصالاتها وأوقفت التنسيق الأمني الراهن، وهو أمر مستبعد حتى الآن، ومن ثم فإن إسرائيل ستتحرك في اتجاه الإفراج عن مروان البرغوثي أو إعادة طرح وتدوير دور محمد دحلان، القياديّ في حركة فتح، للضغط على الرئيس محمود عباس، أو إنهاء حياته في المقاطعة، وسيكون ذلك رهنا بما سيكون مطروحا في الضفة الغربية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
5- ستدفع الإدارة الأميركية بعض الشركاء لاستئناف وساطتهم تجاه قطاع غزة ومحاولة تحييده في المعادلة الراهنة، وإقناع حركة حماس بأنها ستجني ثمارا إيجابية من بقاء الأوضاع هادئة، وهناك رهانات حقيقية على أن "حماس" باعتبارها "حركة نفعيّة ومصلحيّة" ستتجاوب مع هذا الأمر، بخاصة مع التأكيد الأميركي على أن التسهيلات الجديدة المطروحة لسكان القطاع ستؤدي لتغيير الوضع الراهن وستدفع لمزيد من الاستقرار، بخاصة وأن الوسيط المصري قائم وموجود، وذلك في إطار المساعي الأميركية لربط الملفات المطروحة مع مصر (مفاوضات سد النهضة- مشروع التسوية الأميركية المعلنة- تهديد مصر بفتح ملفات جديدة- تحذير القاهرة مجددا من امتلاك منظومة سوخوي الروسية). وإن كانت إدارة ترمب ستعمل على بثّ رسائل إيجابية تجاه مصر ودول الخليج، بخاصة وأن ردّ الفعل المصري على الإعلان عن الخطة كان إيجابيا، في إطار من "الواقعية والرشادة السياسية".
ووفق قراءتنا، تعمّد معدّو الخطة الخلط في المفاهيم والمصطلحات القانونية والسياسية التي جاءت في مضمونها، حيث استُخدمت مفاهيم الحكم الذاتي والتخوم والحدود والمعابر والممرات بمعانٍ مختلفة في نفس التوقيت، منعا للاصطدام في المواقف، على عكس مشروع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل ووادي عربة مع الأردن.
الرفض ليس حلا
ليس الرفض الفلسطيني المعلن هو الحل في ظل استمرار تكريس سياسة الأمر الواقع والانفصال الراهن بين الضفة والقطاع، ومن ثم فإنه من العبث العمل على التوصل لمصالحة وأرضية وطنية عاجلة، وبالتالي فإن المطروح فلسطينيا سيتركز فيما يلي :
1- الانتقال من إطلاق التهديدات بوقف اتفاقية أوسلو أو باريس أو وقف التنسيق الأمني، إلى تبني إجراءات حقيقية بإحياء دور منظمة التحرير وسحب الاعتراف بإسرائيل بناء على ما تم في اتفاقية أوسلو، على أن يتم ذلك في إطار إجراءات تدريجية منظمة (يفسر ذلك ما قاله الرئيس محمود عباس عن التغيير الوظيفي لمهام السلطة).
2- دفع الأطراف الدولية في مجلس الأمن، مثل روسيا وفرنسا، لترتيب خطوة الموقف الراهن بناء على ما صدر بخصوص القضية الفلسطينية طوال الـ25 عاما الماضية، والتأكيد على أن ما صدر أميركيا لا يخصّ سوى الجانب الأميركي فقط. أما إعادة التأكيد على إعلان الدولة الفلسطينية من جانب واحد أو تجميد مهام السلطة أو حلها فمجرد أفكار عامّة غير واعية.
وقد وصلنا من مصادر أميركية أنه ليس مستبعدا، رغم كل ما يجري من ردود فعل فلسطينية وعربية، أن تجرى مفاوضات سرية غير معلنة بين الإسرائيليين والفلسطنيين في النرويج، بخاصة وأن دولا أخرى، مثل الدنمارك، تسعي للعب هذا الدور في الفترة المقبلة، وأن هناك فريقا فلسطينيا موجودا في واشنطن قد يقوم بهذا الدور.
3- إن الإشكالية الكبرى تتمثل في كيفية تطويق التنظيمات في قطاع غزة، والتعامل مع حظر السلاح فيه، بخاصة وأن حكم "حماس" ما زال قائما ومستمرا ولن ينتهي، وبالتالي فإن "حماس" لا بد أن يكون لها دور في المعادلة الراهنة.
توظيف للصفقة
انطلاقا من الطرح الرسميّ الأميركي الراهن، فإن الموقف الإسرائيلي سيستمر في توظيف واستثمار موقف واشنطن، ليس في ضمّ الأغوار أو بعض المستوطنات فقط، وإنما أيضا في تحقيق المعادلة السياسية والاستراتيجية الصعبة:
1- من الوارد جدا ألا تجرى انتخابات تشريعية في مارس (آذار) المقبل، إذ إن توافق نتنياهو- غانتس في واشنطن سيؤدي لبلورة موقف واحد وتنفيذ جدول أعمال مشترك، وليس برنامجا حكوميا تقليديا، وهو ما استهدفه الرئيس ترمب بالجمع بين الطرفين، بل إعلان الطرح الأميركي رسميا.
2- ستدفع إسرائيل خلال السنوات الخمس المقبلة في اتجاه تنفيذ مخطط "ترانسفير" كامل في الأراضي المحتلة، انطلاقا من القدس، وتنفيذ خطة 2050 التي أعلنت عن إطارها، وستبدأ في تغيير كامل لمعالم القدس، والاتجاه لبناء كيان ذاتي لعرب 48 في صحراء النقب استكمالا لمخطط يهوديّة الدولة بالكامل.
3- في إطار المتبقي من الأراضي المتاحة للجانب الفلسطيني، فإن إسرائيل ستعمل على تنفيذ مخطط الأمن المتواصل، بل وستستمر في زحزحة الحدود بما يمكن أن يتم في إطار استراتيجي. وتحسباً من أي خطوات فلسطينية خاصة فإنها ستعمل على تهميش أي تهديدات أمنية واردة حال وقف التنسيق الأمني، كما ستشرع في تبني إجراءات غير مسبوقة في إقرار أمنها بعد ضمّ الأغوار والمستوطنات (تتحفظ أجهزة المعلومات في إسرائيل على هذه الخطوة)، على أن تمنح الفلسطينيين منطقة المثلث بالداخل الفلسطيني، وهي التي تضم نحو 250 ألف فلسطيني مقابل وجود المستوطنات داخل الدولة الفلسطينية المقترحة.
وقد نما إلى علمنا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو طلب التوقيع على المشروع الأميركي، ورفض فريق المستشاريين الأميركيين ذلك لاعتبارات متعلقة بوضع نتنياهو في الحكم، وانتهاء ولايته السياسية والقانونية، كما رفضوا توقيع الرئيس ترمب شخصيا لاعتبارات تتعلق بالانتهاء فعليا من تقديم المشروع بصورة كاملة في ظل غياب الخرائط والمواقع النهائية، بما في ذلك تحديد حدود إسرائيل النهائية، تخوفا من اعتراض مؤسساتها العسكرية.
4- ستعمل الحكومة الإسرائيلية على الانفتاح على كافة الأطراف العربية ومحاولة إحداث انقسام في المواقف، بخاصة وأن هناك مصالح حقيقية باتت تربط إسرائيل وبعض الدول العربية على أرضية مشتركة تتجاوز التهديدات الإيرانية لأمن الإقليم، ووفقا لاتفاقيات راسخة مع البعض منذ سنوات طويلة، وعبّرت عنها عملية تصدير الغاز الإسرائيلي لمصر والأردن، بل ودخول تل ابيب كطرف فاعل في منتدى غاز المتوسط، وطلبها توقيع اتفاقية عدم اعتداء مع دول الخليج العربي.
الخلاصات
إن الرهانات الحالية ليست في البدء في تنفيذ مشروع التسوية على أرض الواقع من قبل إسرائيل، إذ يمكن لها الإقدام على هذا الأمر من جانب واحد مع العمل على البحث عن شريك محلي فلسطيني يقبل بحدود الشراكة الجديدة ويقيم كيانا فلسطينيا ولو مؤقتا في إطار تسوية منقوصة، بخاصة وأن الرهانات الإسرائيلية على استثمار الدعم الأميركي اللامحدود وحتى 2024 إذ لا توجد ضمانات من أي نوع لما بعد هذه المرحلة، إذ قد تصعد قيادات فلسطينية جديدة.
وقد علمنا أن مفاوضين من الأردن تواصلوا مع نظرائهم في واشنطن، وأن الملك عبد الله الثاني فتح قناة تواصل مع الإدارة الأميركية بهدف الحصول على ضمانات كاملة خاصة بغور الأردن مقابل استمرار إشراف بلاده على المقدسات الإسلامية، وهو ما تم إقراره في الخطة، وإن كانت الترتيبات المستقبلية مع الكيان الفلسطيني قد تغير الموقف لاحقا.
في الذاكرة الأميركية ما سبق وطُرح من إدارات سابقة ولم ينجح في تغيير الموقف الفلسطيني، ووفقا لمعلومات مؤكدة فإن فريق إعداد خطة السلام الأميركية درس جيدا ظروف الفشل ومتطلبات النجاح للطرح الجديد، وفي ظل الوضع الإسرائيلي الراهن والقادر على أن ينفذ سريعا الإجراءات المطروحة على الأرض، والتعويل على قيادات فلسطينية صاعدة ومناخ عربيّ مختلف، وفي ظل تطورات غير مسبوقة في ملفات الإقليم الأخرى.