كشف التصويت، الذي أجراه مجلس الشيوخ الأميركي بغالبية 51 صوتاً مقابل 49، على رفض استدعاء شهود أو المطالبة بالاطلاع على وثائق جديدة، أن براءة الرئيس دونالد ترمب أصبحت وشيكة ومؤكدة خلال التصويت الأخير المقرر الأربعاء المقبل، لتنتهي حلقة جديدة من حلقات الصراع بين الديموقراطيين والجمهوريين، التي زادت من الانقسام داخل المجتمع الأميركي.
لكن السؤال الأهم هو من كسب معركة العزل ومن سيتحمل تبعاتها؟ وكيف ستنعكس نتيجة المحاكمة على الانتخابات الرئاسية المقررة في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل؟
تتفق غالبية المحللين السياسيين في واشنطن على أن الرئيس ترمب سيخرج منتصراً، بل وأكثر قوة من أي وقت مضى. لكن ذلك لا ينفي أنه أصيب ببعض الندوب جراء هجمات الديموقراطيين خلال فصول المحاكمة الطويلة، وما صاحبها من تغطيات إعلامية شاهدها معظم الأميركيين. ويعود ذلك إلى اعتراف حلفاء ترمب من الجمهوريين، أن الرئيس أخطأ في قضية أوكرانيا، لكن ذلك لا يستوجب عزله من منصبه، الأمر الذي سيجعل ترمب في مرمى نيران مستمرة من قبل الديموقراطيين ومنافسيه في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
تغيير قواعد اللعبة
بالنسبة إلى مؤيدي الرئيس ترمب، فإن براءته من التهمتين المنسوبتين إليه بإساءة، استخدام السلطة واعتراض عمل الكونغرس، تمثل انتصاراً ثالثاً على خصومه الديموقراطيين على مدى ثلاث سنوات، بعد فشلهم في تحقيقات التدخل الروسي في انتخابات 2016، التي قادها المحقق الخاص روبرت مولر، وفشلهم الثاني في محاولة عرقلة تعيين بريت كافانو الذي رشحه ترمب قاضياً في المحكمة العليا الأميركية، قبل أن يفشلوا مجدداً في محاولة عزل الرئيس.
ولهذا، يرى هؤلاء أن ترمب أثبت المرة تلو الأخرى أنه استطاع تغيير قواعد اللعبة. فقد ظل صلباً وقوياً وعصياً على الكسر، ولم يضطر إلى تقديم تنازلات لخصومه، بل أصبحت سلطته أكثر قوة. وهو ما كان بعض الديموقراطيين يحذرون منه، ومن خطر المغامرة بالدخول في مواجهة شرسة عبر عزل الرئيس، فيخرج منها أكثر جرأة ويتخذ خطوات أكثر عدوانية ضد خصومه، في سعيه إلى الفوز بدورة رئاسية ثانية.
مؤامرة متواصلة
وفيما حذرت شبكة "سي إن إن" الإخبارية من أن مسيرة ترمب لن يعرقلها الآن أي شيء، لأن أحداً لم يتمكن من النيل منه، قالت تريش ريغان من شبكة "فوكس نيوز" إن ترمب أزعج الدولة العميقة، وإن البيروقراطيين الذين لم يعجبهم الرئيس ترمب، لا يزالوا يتآمرون من أجل التخلص منه، لكنه على الرغم من كل هذه "المسرحيات"، فإن الأمة الأميركية ترى نجاحات سياسية كبيرة في مكافحة الإرهاب وفي توفير الوظائف، ودفع النمو الاقتصادي وإصلاح نظام السجون، وخفض أعداد المهاجرين غير الشرعيين.
وتشير مواقع أميركية محافظة، ومنها موقع "سي دي إن"، إلى أن الديموقراطيين يعلمون منذ البداية أنهم لن يتمكنوا من عزل الرئيس ترمب في مجلس الشيوخ، حيث الغالبية الجمهورية، لكنهم واصلوا حملتهم في مجلس النواب ثم في التصويت على توجيه الاتهامات، وانتهاء بالمحاكمة في مجلس الشيوخ، ليس لأنهم يريدون عزل ترمب، ولكن لأن ذلك سيضره سياسياً ويشوه سمعته، بما يقوّض من فرص نجاحه في انتخابات 2020 الرئاسية. كما أن ذلك سيساعد النواب الديموقراطيين في الكونغرس على الفوز بمقاعدهم في انتخابات نوفمبر المقبل.
قوة منقوصة
وعلى الرغم من القوة التي كشف عنها التصويت في مجلس الشيوخ برفض استدعاء شهود مثل جون بولتون، مستشار الأمن القومي السابق، أو مايك مولفاني، رئيس هيئة موظفي البيت الأبيض، التي أظهرت بوضوح أن الجمهوريين يسيطرون على أوراق اللعبة في المحاكمة ولديهم الغالبية المطلوبة لإنهائها بسرعة وتبرئة ترمب، إلا أنها بدت قوة منقوصة. إذ إنها امتزجت بتوبيخ ضمني لسلوك ترمب في قضية أوكرانيا من أعضاء جمهوريين في مجلس الشيوخ، وصفوا هذا السلوك بأنه غير مناسب، ولكنهم في الوقت نفسه قاموا بحماية الرئيس من أي عقوبة رسمية ومن استدعاء شهود قد يفصحون تحت القسم عما يضر ترمب ودفاعه خلال المحاكمة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي حين سيخرج ترمب من المحاكمة بضوء أخضر يتيح له تحدي الكونغرس من دون انتقام، فإنه سيكون من الصعب عليه أن يصور نفسه باعتباره ضحية النظام، بعدما أعلن حلفاؤه في مجلس الشيوخ أنه تجاوز حدود سلطته.
لقد اقتنع الجمهوريون في مجلس الشيوخ، ومنهم السيناتور لامار أليكسندر عن ولاية تينيسي والسيناتور روب بورتمان عن ولاية أوهايو والسيناتور ماركو روبيو عن ولاية فلوريدا، بالطرح الذي قدمه محامو البيت الأبيض خلال المحاكمة، بأنه ليس هناك ما يحول دون أن يواصل الرئيس ترمب عمله أو أن يترشح إلى اذلانتخابات الرئاسية المقبلة، طالما أنه لم يُتهم ولم يرتكب جريمة كبرى مثل الخيانة أو تلقي رشى بما يستوجب عزله من السلطة.
صندوق ذخيرة
وفّر الجمهوريون للرئيس ترمب طوق النجاة الذي يسمح له على الأقل بالاستمرار في منصبه مدة 12 شهراً أخرى والترشح إلى دورة ثانية، إلا أنهم في الوقت نفسه سلموا خصومه الديموقراطيين صندوقاً من الذخيرة السياسية، ليستخدموها ضد ترمب في انتخابات 2020. ذلك أن المعارضة الديموقراطية لن تكتفي باتهام ترمب بالاستفادة من التغطية السياسية التي وفّرها له الجمهوريون، بل ستكون لديها تصريحات حلفاء ترمب - ومنهم السيناتور بورتمان - التي يقطعون فيها أنه أخطأ في أفعاله، وارتكب ما نُسب إليه من ادعاءات بشأن طلبه من حكومة أجنبية (أوكرانيا)، التحقيق في أمور تخص خصمه السياسي جو بايدن، وأرجأ تقديم مساعدات عسكرية لها حتى تستجيب هذا الطلب.
كما لمح السيناتور روبيو إلى أن قراره التصويت في القضية يستند إلى إطار منطقي يفترض أن المزاعم ضد ترمب صحيحة، لكن ذلك لا يعني أنه من الأفضل للولايات المتحدة إقالة الرئيس من منصبه، لأن ذلك سيضر بالبلاد المنقسمة بالفعل حالياً.
وفي النهاية، فإن ما سيفهمه ترمب عقب تبدد سحب العزل، هو أن الكونغرس غير قادر على عرقلة مسيرته على الإطلاق. لكن دعم الجمهوريين له في مجلس الشيوخ، وعدم ارتياحهم لطريقة استخدامه للسلطة في قضية أوكرانيا، سيطيح بجزء من سحر ترمب السياسي، ويمنح الديموقراطيين حجة أفضل ضد ترمب أمام الناخبين في معركة نوفمبر المقبل.