توشك الأزمة الليبية التي لا تنتهي تقلباتها أن تتحول إلى ساحة مواجهة أوروبية -تركية، بعد إخلال الأخيرة بتعهداتها في مؤتمر برلين بالتوقف عن توريد الأسلحة والمقاتلين إلى العاصمة طرابلس مقر حليفتها حكومة "الوفاق". وبعد أسابيع قليلة كانت المخاوف فيها تتزايد من وقوع صدام تركي - مصري في أرض ليبيا، على خلفية تدخل أنقرة العسكري بطلب من رئيسها في الأزمة الليبية.
صدام أوروبي - تركي
وبدأت تصريحات أوروبية متواترة ومتطابقة، تشير إلى أن الأمور بين تركيا والقوى الكبرى في القارة العجوز في اتجاهها للتصعيد، على خلفية مخالفة تركية تعهداتها وما جرى الاتفاق عليه بين الدول الموقعة في مؤتمر برلين.
وكانت تلك التصريحات بدأت بسجال بين الرئيسين التركي رجب أردوغان والفرنسي إيمانويل ماكرون، بعد اتهام الأخير أنقرة بالاستمرار في نقل السلاح والمرتزقة إلى ليبيا، ورد عليه أردوغان، بأن سياسات باريس منذ عام 2011 هي التي أسهمت بوصول الأزمة الليبية إلى ما وصلت إليه اليوم.
ولم يتوقف هذا التراشق عند هذا الحد، بل واصل الرئيس التركي هجومه على فرنسا ورئيسها، حيث قال في تصريح أمس الجمعة، إنه طلب من الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون وثائق الأرشيف التي تقول إن "فرنسا قتلت خمسة ملايين جزائري خلال فترة الاستعمار".
وأشار أردوغان إلى أنه سيعرض الوثائق على ماكرون لأنه "لا يعرف ذلك، لجهله تاريخ بلاده"، بحسب وصفه.
فرنسا تهين السراج
وفي إجراء "غريب" اعتُبر أنه يحمل رسالة واضحة، أخضعت الشرطة الفرنسية رئيس حكومة "الوفاق" الليبية فايز السراج لتفتيش دقيق في مطار باريس، عقب وصوله من الكونغو بعد مشاركته في القمة الأفريقية.
وأفادت مصادر مطلعة بأن سفارة "الوفاق" لدى باريس، تقدمت بمذكرة احتجاج إلى وزارة الخارجية الفرنسية، اعتراضاً على المعاملة التي لقيها السراج في مطار "شارل ديغول"، بينما اعتبر مراقبون أن هذا التصرف يشير إلى توجه باريس للتخلي عن دعمها وعن اعترافها بحكومة "الوفاق" في الفترة المقبلة، إذا واصلت مخالفة مقررات برلين بالتعاون مع أنقرة.
واعتبر الناطق السابق للحكومة المؤقتة شرق ليبيا عبد الحكيم معتوق، أن "تعامل الأمن الفرنسي في مطار شارل ديغول مع السراج وكأنه تاجر مخدرات، بعد أن جرى تفتيشه بشكل دقيق، يأتي رداً على تطاول مندوب ليبيا في الأمم المتحدة على باريس واتهامها بتأجيج الصراع الليبي، ويندرج كذلك في إطار التعبير الفرنسي عن رفضها سماح حكومة "الوفاق" لتركيا بالتمدد في ليبيا على حساب مصالحها.
وكانت الناطقة باسم وزارة الخارجية الفرنسية "آنييس فون دير مول"، قالت في تصريح تلفزيوني "هناك إمدادات تركية مستمرة صوب ليبيا، وقد وثّقنا قبل أيام مواصلة الأتراك تسليم معداتٍ عسكرية إلى جهات في ليبيا، وهذا الأمر تواصل أمس الجمعة واليوم السبت"، بحسب قولها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
برلين تنتقد أنقرة
انتقد المتحدث باسم الحكومة الألمانية شتيفن زايبرت، ضمنياً أنقرة قائلاً إن "دولاً وقّعت على الاتفاقات التي جرى التوصل إليها خلال مؤتمر برلين بشأن ليبيا، الذي عقد في 19 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تقوم بانتهاكات لها"، مطالباً هذه الدول بالالتزام بالاتفاقات المبرمة.
وأشار زايبرت إلى أن "هناك تواصلاً مع أطراف مختلفة شاركت في مؤتمر برلين، ومحاولات لطرح هذا الموضوع في مجلس الأمن الدولي".
تحذير من العواقب
في السياق ذاته، أكد المتحدث الرسمي باسم المفوضية الأوروبية للشؤون الخارجية بيتر ستانو "ضرورة احترام الأطراف والدول كافة قرار مجلس الأمن الدولي بحظر توريد الأسلحة إلى ليبيا"، محذراً من عواقب الوضع في ليبيا على أمن الاتحاد الأوروبي وأمن الليبيين أنفسهم وعلى دول الجوار الليبي.
وتابع "نحن نعمل على مناقشة اتخاذ إجراءات وماهية العواقب على من يخرق حظر توريد الأسلحة، من خلال مقترحات من الوزراء والحلفاء بأفكار حول ماذا يمكن أن نفعل، مثل إحياء عملية صوفيا أو إطلاق عملية أخرى للانخراط في تأمين حظر الأسلحة، ولا تزال المناقشات مستمرة حول هذا، وبروكسل عازمة على إيجاد حل لذلك".
أردوغان يرفض التراجع
وأمام هذه التهديدات والتحذيرات والنقد الأوروبي الصريح للتجاوزات التركية في الأزمة الليبية، بدا موقف رئيسها رجب طيب أردوغان متعنتاً ورافضاً للتراجع عن تدخله العسكري في طرابلس لصالح حليفته حكومة "الوفاق".
وزعم خلال اجتماعه مع رؤساء فروع "العدالة والتنمية" اليوم الجمعة، أن "أكثرية الشعب الليبي تؤيد تركيا"، وأضاف "أنقرة ستواصل البقاء في ليبيا إلى حين إرساء الاستقرار والأمان المنشود من قِبل أبناء الشعب الليبي كافة"، لافتاً إلى أن بلاده مُستمرة في دعم حكومة "الوفاق"، وفق قوله.
ووجه الرئيس التركي سهام النقد إلى المواقف والتصريحات الأوروبية قائلاً "لا يحق لبارونات الحرب انتقاد موقف أنقرة بلا خجل"، معتبراً أن "قائد الجيش الليبي المشير خليفة حفتر يقلب طاولة التفاوض في كل مرة، لم يكتفِ بعرقلة المفاوضات في مؤتمر برلين، وإنما أظهر رغبته الحقيقية في عدم التفاوض من خلال تكثيف هجماته العسكرية في الفترة الأخيرة، لكن مع ذلك هناك عدد من الدول الأوروبية والعربية لا تزال تواصل دعمها له، وبالتالي فإن التاريخ يسجل نفاق هذه الدول".
واشنطن تدعم القارة العجوز
وفي موقف بدا متضامناً مع مواقف دول الاتحاد الأوروبي ومخاوفها من الممارسات التركية في ليبيا، ومؤشر إلى عزلة قد تعيشها أنقرة في مواجهة دولية حول الملف الليبي، انتقد قائد قيادة القوات الأميركية في أفريقيا "أفريكوم" الجنرال ستيفن تاونسند، نشر تركيا قواتها في ليبيا، واصفاً ذلك بأنه "يهدد بتصعيد كبير للصراع المستمر منذ أشهر...".
وأشار تاونسند في بيان له قدمه إلى الكونغرس بشكل رسمي، إلى أن "القتال المستمر في البلاد جعل المجتمع الدولي مشلولاً لتحقيق تقدم حقيقي باتجاه حل سياسي"، وأضاف "إصرار تركيا على نشر قواتها ومعدات عسكرية لمواجهة الشركات العسكرية الروسية الخاصة، ينذر باستمرار الحرب نظراً لمحاولة الجانبين دعم طرف من أطراف النزاع في ليبيا"، وأبدى تاونسند مخاوفه من "وصول روسيا إلى مصادر النفط في ليبيا، ما سيعزل واشنطن والناتو عنها"، بحسب البيان.
أهمية ليبيا لأوروبا
وتعتبر ليبيا بلداً هاماً جداً لأوروبا من الناحيتين "الجيوسياسية والجيواستراتيجية"، ومصدراً رئيساً لإمداداتها من الطاقة حيث أغلب الدول المستوردة للنفط من ليبيا هي من الاتحاد الأوروبي، وتستورد ما يزيد على 70 في المئة في المئة من إنتاج النفط الليبي، بحسب إحصاءات المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا. وفي عام 2014 زودت ليبيا أوروبا بعشرة ملايين برميل من النفط الخام.
ومنذ اكتشاف النفط في ليبيا، ظهرت الأهمية الاستراتيجية للبلاد بالنسبة إلى الدول الأوروبية، خصوصاً فرنسا وإيطاليا وبريطانيا وألمانيا، وهي الدول التي لها شركات عاملة في النفط الليبي، فضلاً عن أهمية ليبيا كمنطقة عبور بين أوروبا وأفريقيا، ما يجعل الاستقرار في هذه المنطقة مسألة حيوية.
أما الغاز، فإنتاج ليبيا منه ازداد بنسبة كبيرة عام 2003 بعد مشروع نشأ في الغرب الليبي لإنتاج الغاز، وكانت إيطاليا هي المستفيد الأكبر من هذا المشروع عبر شركة "إيني"، حين مدت أنابيب غاز من ليبيا إلى إيطاليا وهو من أكبر المشاريع بين البلدين، وبلغ حجم ما تصدره ليبيا إلى إيطاليا وحدها من الغاز بعد هذا المشروع، قرابة 9.4 مليار متر مكعب.
دور الطاقة
ويقول الصحافي الليبي هشام بن صريتي في حديث إلى "اندبندنت عربية"، "تلعب الطاقة في الأزمة الليبية دوراً مهما في تحريك الصراع الليبي وبين الدول الإقليمية، فليبيا بأحواضها النفطية والغازية الأربعة وأهمها حوض سرت، تتعاون مع شركات عالمية متعددة من إيطاليا إلى ألمانيا وفرنسا وإسبانيا ودول الخليج، كذلك تُعد بديلاً للاتحاد الأوروبي لتنويع مصادر دخله من الطاقة وتقليل الاعتماد على الغاز الروسي".
وأضاف "في الوقت الذي تلعب الشركات المستفيدة من الطاقة في ليبيا، دور اللوبي الضاغط على مجموع الدول للوصول إلى حل للأزمة الليبية، بدأ الصراع الداخلي في ليبيا يتحول رويداً رويداً إلى صراع إقليمي، ويبدو أنه سيتحول إلى صراع دولي خصوصاً بعد اتفاقية أو مذكرة التفاهم بين تركيا وليبيا، لترسيم الحدود البحرية والتعاون الأمني الذي تطمح من خلالها تركيا للسيطرة على منابع الغاز في المتوسط، وهو ما لن تسمح به أوروبا بلا شك".