في أعقاب انتشار فيروس كورونا الجديد منطلقاً من مدينة "ووهان" الصينية، ومنها إلى 24 دولة حول العالم، توالت العديد من النظريات المفسرة لانتشار الفيروس القاتل الذي أودى بحياة أكثر من 720 شخصاً حتى الآن منذ ظهوره أواخر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، لكن في ظل عدم تمكن العلماء من الوصول إلى منشأ الفيروس، برزت نظريات المؤامرة لتفسير انتشاره السريع، إذ ذهب البعض إلى توجيه أصابع الاتهام إلى الولايات المتحدة بتطوير الفيروس عمداً في إطار الحرب التجارية بين واشنطن وبكين وبهدف إضعاف الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم، فيما اتهم آخرون، بينهم سياسيون أميركيون، بكين بتطوير أسلحة بيولوجية من بينها هذا الفيروس الفتاك الذي تسرَّب من أحد المعامل في كارثة على غرار ما حدث مع انفجار مفاعل "تشرنوبل" النووي في أوكرانيا عام 1986.
وبعيداً عن هذه الاتهامات والتفسيرات السهلة لانتشار فيروس خطير، هل حقاً تطوِّر بعض الدول أسلحة بيولوجية؟ وإذا كانت هناك اتفاقيات دولية تقوِّض انتشار الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل، فما الإجراءات الدولية لكبح جماح أسلحة أكثر خطورة وفتكاً بالبشرية بل بالأحياء عموماً على سطح المعمورة. بحسب دراسة تعود إلى عام 2003 نشرتها المكتبة الوطنية الأميركية للمعهد الوطني الطبي للصحة، فإنه خلال القرن الماضي، قضى أكثر من 500 مليون شخص بسبب الأمراض المعدية، وعشرات الآلاف من هذه الوفيات نتج عن الإطلاق المتعمد لمسببات الأمراض أو السموم، ومعظمها أطلقها اليابانيون في هجماتهم على الصين خلال الحرب العالمية الثانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حرب البكتيريا والفيروسات
الأسلحة البيولوجية أو الجرثومية، تقوم على خمس فئات مختلفة من العوامل التي يمكن تحويلها إلى أسلحة واستخدامها في الحرب أو الإرهاب، وتشمل البكتيريا وتتسبب في أمراض مثل الجمرة الخبيثة والطاعون، والريكتسيا وتسبب حمى التيفوس، والفيروسات وتستخدم بسهولة كأسلحة تسبب أمراض مثل التهاب الدماغ، الفطريات وعادة ما تصيب المحاصيل الزراعية، السموم التي يمكن تطويرها إلى أسلحة بعد استخلاصها من الثعابين والحشرات والعناكب والكائنات البحرية والنباتات وغيرها.
وبحسب موسوعة "بريتانيكا" فإن الاستخدام المباشر للعوامل المعدية والسموم ضد العدو هو ممارسة قديمة في الحروب، ففي العديد من النزاعات، كانت الأمراض مسؤولة عن الوفيات أكثر من جميع الأسلحة القتالية المستخدمة مجتمعة، حتى عندما لم يجرِ استخدامها بوعي كأسلحة.
تاريخ الأسلحة البيولوجية
وبرز أول استخدام متطوِّر للأسلحة البيولوجية خلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، حيث بدأت ألمانيا برنامجاً سرياً لإصابة الخيول والماشية التي تملكها جيوش الحلفاء على الجبهتين الغربية والشرقية بفيروس يصيب الغدة، بالإضافة إلى محاولة ألمانية في عام 1915 لنشر الطاعون في سان بطرسبرغ لإضعاف المقاومة الروسية، في حين أن استخدام هذا النوع من الأسلحة يعود في الحقيقة إلى العصور الوسطى لكن بشكل غير متطوِّر.
ويُعتقد أن وباء الطاعون (الموت الأسود) الذي أودى بحياة نحو 25 مليون شخص، انتشر من خلال تعمد إلقاء الجثث المصابة من قبل جيش التتار في مدينة "كافا" المحاصرة، وهي المعروفة باسم "فيودوسيا" في أوكرانيا حالياً، ثم انتقل المرض إلى منطقة البحر المتوسط من خلال الإيطاليين الهاربين من "كافا"، ومنها انتشر في أنحاء أوروبا خلال القرنين الـ14 و15.
وبحسب دارسة نشرها المركز الطبي لجامعة "بيلور" في تكساس، تشير حوادث أخرى عديدة إلى الاستخدامات المختلفة للأمراض والسموم خلال الحرب، فعلى سبيل المثال جرى نقل جثث الجنود القتلى إلى صفوف العدو في "كارلشتاين" عام 1422، واستخدمت استراتيجية مماثلة باستخدام جثث ضحايا الطاعون في عام 1710 خلال المعركة بين القوات الروسية والقوات السويدية في ريفال. وفي مناسبات عِدة خلال الألفي سنة الماضية، تذكر السجلات التاريخية استخدام العوامل البيولوجية في شكل جثث المرضى والأدوات الملوثة والحيوانات.
"الوحدة 731"
وتسببت أهوال الحرب العالمية الأولى في توقيع معظم الدول على بروتوكول جنيف لعام 1925 الذي يحظر استخدام الأسلحة البيولوجية والكيميائية في الحرب. ومع ذلك، فإن اليابان، أحد الأطراف الموقعة على البروتوكول، انخرطت في برنامج أبحاث يُعرف باسم "الوحدة 731" ويقع في "منشوريا" قُرب مدينة "بينغفان"، لتطوير وإنتاج واختبار هائل وسري للأسلحة البيولوجية، وانتهكت المعاهدة عندما استخدمت هذه الأسلحة ضد قوات الحلفاء في الصين بين عامي 1937 و1945.
وتشير دراسة لمعهد "بوردن" في واشنطن بعنوان "الجوانب الطبية للحرب الكيميائية والبيولوجية" إلى أن اليابانيين لم يستخدموا الأسلحة البيولوجية في الصين فحسب، بل قاموا أيضاً بتجربة وقتل أكثر من ثلاثة آلاف شخص (بما في ذلك أسرى الحرب من الحلفاء) في اختبارات عوامل الحرب البيولوجية ومختلف آليات إيصال الأسلحة البيولوجية، حيث جرّب اليابانيون العوامل المُعدية للطاعون، والجمرة الخبيثة، والتيفوس، والجدري، والحمى الصفراء، والتوليميا، والتهاب الكبد، والكوليرا، والغرغرينا الغازية، والغدة الدرقية.
وخلال الحرب الكورية، اتهم الاتحاد السوفياتي والصين وكوريا الشمالية، الولايات المتحدة باستخدام عوامل الحرب البيولوجية ضد بيونغ يانغ، وفي السنوات اللاحقة، اعترفت أميركا بأن لديها القدرة على إنتاج هذه الأسلحة، لكنها نفت استخدامها، ومع ذلك، فقد تقوضت مصداقية واشنطن بسبب رفضها التصديق على بروتوكول جنيف لعام 1925، والاعتراف العام ببرنامجها الخاص بالحرب البيولوجية الهجومية، وبشكوك التعاون مع علماء "الوحدة 731" السابقين.
إرهاب بيولوجي... وزعيم هندي متطرف
وخلال العقود الثلاثة الماضية برز حادثان لاستخدام الأسلحة البيولوجية من قِبل الجماعات الإرهابية، أي خارج نطاق الحكومات، ففي عام 1984 انتشر مرض السالمونيلا في عدد كبير من المطاعم والمتاجر الأميركية في ولاية أوريغون، مسبباً تسمم نحو 750 شخصاً، وفي حين استبعدت السلطات الصحية وقتها أي مؤامرة فإن بعض الساسة أكدوا أنه إرهاب بيولوجي يقف وراءه أتباع زعيم هندي متطرف، وهو ما أثبتته التحقيقات، حيث أقر باغوان شيري راجنيش، بالوقوف وراء الهجوم الذي يُسجل كأول هجوم إرهابي بيولوجي في الولايات المتحدة لتحقيق مكاسب سياسية.
وفي مطلع الألفية الثانية، أبدى تنظيم "القاعدة" اهتماماً بتطوير هذه الأسلحة واستخدامها، وشغّل مختبراً للجمرة الخبيثة في أفغانستان قبل أن تجتاحها القوات الأميركية عام 2002. وفي عام 2001، بُعثت رسائل محملة بالجمرة الخبيثة إلى العديد من السياسيين وغيرهم في الولايات المتحدة، حيث قتلت خمسة أشخاص واحتُجز 22 آخرون في المستشفى، واضطرت الحكومة الأميركية لإخلاء مباني مكاتب الكونغرس، ومكاتب حاكم نيويورك، والعديد من مقار شبكات التلفزيون، وتسبب هذا الحدث في إنفاق مليارات الدولارات في تكاليف التنظيف وإزالة التلوث والتحقيق. وفي عام 2010، خلص مكتب التحقيقات الفيدرالي إلى أن الرسائل كان يقف وراءها عالِم عمل لسنوات في جهود الدفاع البيولوجي للجيش الأميركي، الذي انتحر في عام 2008 بعد تسميته كمشتبه فيه بالتحقيق.
اتفاقات دولية للحظر
يُشار إلى أن الأسلحة البيولوجية تُصنف على أنها "أسلحة دمار شامل" شأنها شأن الأسلحة الكيميائية والإشعاعية والنووية، على الرغم من أن البيولوجية الفتاكة قادرة على التسبب في وفيات جماعية، لكنها غير قادرة على التدمير الشامل للبنية التحتية أو المباني أو المعدات. ومع ذلك، بسبب الطبيعة العشوائية لهذه الأسلحة وكذلك إمكانية بدء انتشار الأوبئة، وصعوبة السيطرة على آثار المرض والفزع الذي تثيره، وافقت معظم البلدان على حظر هذا النوع من الأسلحة بأكمله.
وحظرت معاهدتان دوليتان الأسلحة البيولوجية في عامي 1925 و1972، واعتباراً من عام 2013، وقَّعت 181 دولة اتفاقية (BWC)، و171 من تلك الدول صدقت على المعاهدة، التي فتحت للتوقيع في عام 1972، وبموجب شروط اتفاقية الأسلحة البيولوجية، فإن الدول الأعضاء يحظر عليها استخدام هذه الأسلحة في الحروب أو تطويرها أو اختبارها أو إنتاجها أو تخزينها أو نشرها.
مصدر قلق أمني
لكن يقول فريدريتش فريشكنيت، الباحث لدى معهد باستور في فرنسا، إن هذه المعاهدات فشلت إلى حد كبير في منع البلدان من إجراء الأبحاث الخاصة بالأسلحة الهجومية وإنتاج "البيولوجية" على نطاق واسع. وواصل عدد من الدول السعي وراء قدرات الحرب البيولوجية، سعياً وراء سلاح استراتيجي أرخص، ولكنه لا يزال مميتاً بدلاً عن اتباع المسار "النووي" الأكثر صعوبة والأكثر تكلفة. وإلى جانب ذلك فإن التهديد الذي تتخذه بعض المنظمات الفردية أو الإرهابية المشبوهة بصنع أو سرقة أسلحة من هذا النوع يشكِّل مصدر قلق أمني.
وبحسب مبادرة التهديد النووي، وهي منظمة بحثية أميركية مناهضة لأسلحة الدمار الشامل، فإن هناك 17 دولة لديها أو يشتبه حالياً في وجود برامج أسلحة بيولوجية لديها وهي، تايوان وكندا والصين وكوبا وفرنسا وألمانيا وإيران والعراق وإسرائيل واليابان وليبيا وكوريا الشمالية وروسيا وجنوب أفريقيا وسوريا وبريطانيا والولايات المتحدة.
كورونا كارثة طبيعية أم توليد صناعي؟
وفي ما يتعلق بفيروس كورونا، الذي استغله البعض لنشر مزيد من الذعر عبر وضعه في نطاق الأسلحة البيولوجية، بينها صحف أميركية، فإن باحثين من الولايات المتحدة وكندا دحضوا هذه الفرضية، حيث قالت ميا ماجوميدر، الباحثة لدى مستشفى بوسطن للأطفال في تعليقات لمجلة فورين بوليسي الأميركية، "الأمر لا علاقة له بسلاح بيولوجي، ويجب أن يتم التعامل معه على أنه أمر طبيعي".
وحذر ديفيد فيسمان، أستاذ علم الأوبئة في كلية "دالا لانا" للصحة العامة بجامعة تورنتو، "إن من يروجون لهذه النظرية يدفنون أدمغتهم في الرمال"، موضحا "نحن أمام كارثة من نوع جديد وليست سلاحاً بيولوجياً، نحن أمام تحول كبير في النشاط الفيروسي على كوكب الأرض وليس بفعل البشر، ولكن بفعل الطبيعة".
واتهمت الصين الولايات المتحدة "بالخوف والمبالغة في رد الفعل" بعد أن فرض الرئيس دونالد ترمب حظراً مؤقتاً على سفر الأشخاص من الصين، فضلاً عن أنها أول دولة تقترح انسحاباً جزئيا لموظفي سفارتها. وقالت متحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية "في مواجهة أزمة تتعلق بالصحة العامة، يتعين على الدول العمل معاً للتغلب على الصعوبات وعدم التلاعب بمشكلات أحد".
ونشرت وكالة الأنباء الصينية بيانا قالت فيه، " أطلقت الولايات المتحدة حديثاً تصريحات، واتخذت إجراءات غير ودية تجاه الصين، وهي تصريحات وإجراءات غير قائمة على حقائق وغير مفيدة في هذا الوقت بالتحديد، الذي تبذل فيه الصين قصارى جهدها لمكافحة تفشي فيروس كورونا الجديد".
وعلى نحو آخر، اتهمت وسائل إعلام روسية الاستخبارات الأميركية وكبرى شركات الأدوية بالوقوف وراء الفيروس باعتباره مخلقا صناعيا.