ذات يوم سأل معلق تلفزيوني ألماني معروف الفيلسوفة هانّا آرندت عما سيبقى بعد أن ينتهي كل شيء؟ فأجابته ببساطة: تبقى اللغة. وكانت تعني تحديدا أن ما سوف يبقى للمرء هو لغته الأم. بعد حين وعلى سؤال مشابه طرحه على نفسه بُعيد أيار (مايو) 1968، الفيلسوف الألماني الأميركي هربرت ماركوزه وجد هذا الأخير نفسه يشتغل على كتاب في أكثر من 300 صفحة للوصول إلى جواب. أما الجواب فكان بسيطا من ناحية عدد كلماته الموجزة، لكنه بالغ الطول والتعقيد من ناحية دلالاته: يبقى الفن، أي يبقى كل ما أبدعه الإنسان وأضافه إلى مادية هذا الكون. للوهلة الأولى كان الجواب يبدو وكأنه استطراد لبعض ما عند نيتشه. لكن المسألة لدى ماركوزه كانت أبعد من ذلك. فهو في كتابه الذي نعنيه هنا وعنوانه "نحو التحرر" إنما كان يحاول التعليق على "الخيبة" التي نجمت في ذلك الحين عن الثورات الطلابية والشبابية التي اندلعت في العالم منطلقة من باريس وبراغ وجامعة بيركلي الأميركية والمكسيك لتعم أنحاء عديدة من العالم متخذة شكل ثورة أجيال جديدة على سابقاتها وأفكار جديدة على القديمة وسياسات إنسانية جديدة على الضد من سياسات حولت المرء إلى "إنسان ذي بعد واحد"، بحسب ما جاء في عنوان كتاب سابق لماركوز نفسه اعتبر محفزا للثورة الشبابية تلك، إلى جانب كتابات البنيويين الفرنسيين ومن كان تبقّى من مدرسة فرانكفورت وما إلى ذلك.
من سيغيّر العالم
باختصار كان ماركوزه من متبنّي فكرة أن من سيغير العالم هم الأقليات الملونة والطلاب والمهمشون والنساء والمحرومون، بيد أن كل هؤلاء فشلوا يومها، ولو للوهلة الأولى، في "تغيير العالم" فما كان من ماركوزه إلا أن صمت ردحا ليطلع بعد ذلك بـ"نحو التحرر" الذي أعلن فيه إيمانه بأن الفن، ويعني تحديدا الوعي الناتج عن الفن سيكون الحصن الأخير ضد تعفن المجتمعات وإمتثالية الأفكار وتكلس الجهود البشرية الساعية إلى أي نوع حقيقي من أنواع التغيير.
طبعا لم يكن جديدا ما جاء به ماركوزه ، لكن صياغته كانت تجديدية. فنحن نعرف، وماركوزه يقول هذا بوضوح، أن الفكر والفن وكل ضروب النشاطات الذهنية للإنسان، لعبت دائما دورا كبيرا في تنوير البشر وغالبا في تثويرهم أيضا، لكن المشكلة كمنت دائما في أن تلك الإبداعات أتت لـ"تركب" على أوضاع قائمة – كما حال الثورة الفرنسية – أو على طبقات تخوض صراعاتها – كما حال الثورة الروسية – جاعلة من نفسها رديفا لثورات سياسية واجتماعية، أما بالنسبة إلى ماركوزه فالأمر مختلف: الفكر والإبداع هما الثورة الحقيقية في حد ذاتهما. هما من يصنعان التغيير بصرف النظر عما إذا كان الأمر سيؤدي أو لا يؤدي إلى "استلام السلطة". وهكذا على الضد من الشعار الشهير "إن أجمل الفن ما صُنع من أجل الثورة"، يطرح ماركوزه شعارا آخر: "إن الإبداع والوعي هما الثورة". وبهذا المعنى، بحسب ماركوزه لا تعود ثمة "طبقات ثورية" أو "أحزاب ثورية" أو "فنون وآداب تخدم الثورة"، بل إبداعات يشكل الوعي بها الثورة الحقيقية.
ويقول ماركوزه إن المسألة ليست نظرية لديه، بل هو رصدها من خلال ما لفت نظره في "الثورات الشبابية" من تطابق بين نظرة الشباب وما كان قد حلله هو سابقا من تفوّق "العالم الحر" على النظم البيرقراطية في مجال حرية الإبداع والفكر ودورها في التغيّرات الذهنية التي كان أهم ما نتج عنها إنكشاف ضآلة وعي "الطبقات الثورية العمالية والفلاحية" التقليدية مقارنة بقوة الوعي لدى أجيال جديدة. (ونفتح هلالين هنا لنشير إلى أن ماركوزه رحل في العام 1979 قبل أن يجد أفكاره هذه تتعزز حين راح العمال والفلاحون يعطون أصواتهم حتى في البلدان الإشتراكية السابقة للقوى اليمينية المتطرفة وللفاشيين، على عكس أبناء الوعي الفكري من الذين حافظوا حتى اليوم على القيم التقدمية والإنسانية! لكن هذا موضوع آخر بالطبع). ألمهم هنا هو أن كتاب "نحو التحرر" يعيد وضع الأمور في نصابها معيدا إلى الفكر دوره الرئيس في الوصول بالإنسان إلى الحرية وفي إخراج هذا الإنسان من البعد الواحد الذي وضعته فيه الرأسمالية الهمجية والإشتراكية البيرقراطية سواء بسواء، معتبرا الإبداع الحصن الأخير دفاعا عن التحرر والوعي.
المدرسة النقدية
كان هربرت ماركوزه فيلسوفا وعالم اجتماع ألمانيّ الأصل اضطره الاضطهاد النازي إلى مبارحة ألمانيا في الثلاثينات، بعد أن كان واحداً من كبار أعيان «مركز البحوث الاجتماعية» الذي عرف باسم التيار الفكري الذي ارتبط به «تيار مدرسة فرانكفورت» بزعامة ماكس هوركهايمر. هناك ضمن إطار ذلك المعهد كانت ولدت النظرية النقدية، التي كانت، إلى جانب محاولة أنطونيو غرامشي في إيطاليا، أهم محاولة لإحداث تجديد في الفكر الماركسي الثوري، بعد أن كانت ممارسات الدولة «الماركسية» في الاتحاد السوفياتي والأخطاء المتراكمة للأحزاب الشيوعية الأوروبية، خاصة، قد كشفت عن اتساع الهوة بين نظرية الماركسية وتطبيقاتها. ومن هنا كانت محاولة مدرسة فرانكفورت، عن طريق هوركهايمر وأدورنو وماركوزه، وهابرماس لاحقاً، أول محاولة جدية يقوم بها الفكر الماركسي النقدي لتجديد نفسه، أولاً انطلاقاً مما كان يسمى بـ «كتابات ماركس الشاب»، وبعد ذلك بالانطلاق من الهيغلية ومن الفرويدية سواء بسواء.
وكان ماركوزه، المولود في برلين في 1898، من أبرز محاولي التجديد انطلاقاً من ثلاثي هيغل، ماركس وفرويد. أما هجرته من ألمانيا في العام 1933 فإنها لم تؤد إلى قطع أبحاثه، بل ان وصوله إلى الولايات المتحدة ومواصلته العمل ضمن اطار «معهد البحث الاجتماعي» الذي أسسه هناك ماكس هوركهايمر، واحتكاكه عن قرب بالمجمع الرأسمالي الذي كان تحليله هو شغله الشاغل، مكنه من أن يعزز أفكاره، وأن يجذر من منظوره الثوري، بحيث توصل إلى وضع أول نظرية متكاملة وذات مصداقية حول أواليات المجتمعات الرأسمالية في عصور ما بعد الصناعة. وعلى رغم تشاؤمية نظرته التي عبر عنها خاصة في كتابه الأشهر «الانسان ذو البعد الواحد»، فإن أفكاره اعتبرت القاعدة النظرية لحركة الطلاب. كما إن كتابه «الجنس والحضارة» (1955) اعتبر على الدوام نوعاً من اعادة إعتبار ماركسية لنظريات فرويد.
بالنسبة إلى ماركيوز، كانت الثورة الطبقية التي تقودها الطبقة العاملة قد كفت عن أن تكون ممكنة، بعد أن تمكنت البلدان الصناعية ذات الكثافة العمالية الواعدة، من أن تحيد الطبقة العاملة عن طريق اجهزة الدولة، كما عن طريق الوهن التدريجي الذي أصاب عملية الانخراط في المنظمات الجماهيرية مثل الأحزاب والنقابات. هذا الكلام تبدى هرطوقياً في ذلك الحين، أي في وقت كانت فيه الأحزاب الشيوعية في البلدان الرأسمالية تعتبر نفسها قوية وغير قابلة لأي تعديل. أما ماركوزه فكان يرى أنها تعيش نهايتها. فمن يقوم بالثورة اذن؟ الهامشيون حسب ماركوزه: الطلاب، النساء، الأقليات، الملونون والعاطلون عن العمل. ولكن لما كان على هؤلاء أن يجابهوا أجهزة الدولة القوية من ناحية، والطبقة العاملة وأحزابها ونقاباتها من ناحية ثانية، بات من غير الممكن لأي تحرك ثوري أن ينتصر، إنما من دون أن يعني ذلك أن التحرك لن يعطى فرصاً لأن يقوم. والمهم، بالنسبة إلى ماركوزه، كان أن يقوم التحرك من دون أن يشترط ذلك بانتصاره. ولقد أتت أحداث النصف الثاني من الستينات (حركات الطلاب، انتفاضة السود في أميركا، وتفاقم الأزمة العضوية للمجتمعات الصناعية بالتواكب مع انهيار الحركات النقابية وفشل الأحزاب الشيوعية في خوض اللعبة الانتخابية ديموقراطياً)، أتت لتؤكد ما كان ماركوزه قد استنتجه.
من 1965، أصبح ماركوزه استاذاً في جامعة كاليفورنيا، وكانت الأشهر من بين تلامذته المناضلة السوداء انجيلا دايفيز التي كانت تفخر بانتسابها إلى فكره رغم عضويتها في الحزب الشيوعي الأميركي.
وهو واصل، بعد أن خبا بريقه الفكري بعض الشيء، عمله ومضى يصدر كتبه طوال السبعينات، وكان من أبرز ما أصدره «نحو التحرر» و«البعد الجمالي، نحو نقد للجماليات الماركسية». أما كتابه «الماركسية السوفياتية، تحليل نقدي» الذي كان أصدره في العام 1958، فلم يعد إليه الاعتبار إلا بعد سنوات عدة من رحيل ماركوزه، أي حين انفرط عقد المنظومة الاشتراكية، وكان ذلك الكتاب واحداً من أبرز الكتب التي اكتشف الباحثون أنها فسّرت ذلك الانفراط بشكل مسبق.