في مبادرة أولى لا سابقة لها، تقدّم أليس مغبغب في صالة عرضها في بيروت معرضاً مفتوحاً لأعمال فوتوغرافية أنجزتها المصورة والباحثة اللبنانية هدى قساطلي، على مدى عامٍ بأكمله في إطار ما اختارت مغبغب أن تسمّيه "سنة هدى قساطلي". عام مقسوم إلى خمسة محاور وخمسة معارض تقدّم 365 صورة للفنانة تستمرّ العام بأكمله وتختلف باختلاف الموضوعات، وتبدأ هذا الشهر بمعرض "دالية، بين سماء وبحر وبرّ". والدالية، "شرفة بيروت" كما تسمّيها مغبغب، هي أوّل انتصار للثورة اللبنانيّة على "محادل السلطة" التي تريد محو ذاكرة المدينة ومعمارها الأثريّ. انتصار أوّل للتراث والطبيعة تبعه الانتصار الذي تحقّق في بسري مؤخّراً في وجه بناء سدّ بسري الذي كان ليقضي على أحراج بكاملها. انتصاران هما رسالة للبنانيّين تحفّزهم على الاستمرار بالثورة، "فالثورة اللبنانيّة التي بدأت في أكتوبر (تشرين الأوّل) 2019 يجب أن تكمل لتحافظ على الإرث والتراث والتاريخ" بحسب مغبغب. وتضيف مغبغب في هذا الإطار وفي محاولة منها لوضع هذا المعرض الفريد من نوعه ضمن سياقه الاجتماعيّ- الثقافيّ إنّها ومنذ بداية انتفاضة 2019 وهي تبحث عن سبل للمساهمة في هذه الانتفاضة، سبل تمكّنها من الوقوف بوجه الفساد والدمار الخبيث وامّحاء الذاكرة والفوضى العارمة ومحاصصة البلد؛ فجاءت الفكرة بالتعاون مع المصوّرة اللبنانيّة والباحثة هدى قساطلي، تعاون يُضاف إلى 25 سنة من التكاتف المستمرّ لمواجهة فقدان المدينة، تعاون أنتج معرضاً أرادته مغبغب وقساطلي "رسالة إلى اللبنانيّين كافّة الذين يناضلون لحاضرهم ومستقبلهم ومستقبل أولادهم". ويقدّم المعرض صور قساطلي من مختلف مراحل مسيرتها أي منذ بداياتها، وهي صور اختارتها قساطلي بالتعاون مع مغبغب رغبةً منهما في تقديم عمل متكامل يعكس روح بيروت أو بيروي الأسطوريّة (Beroe) ابنة أفروديت وأدونيس الرائعة الجمال التي تنافس عليها الآلهة على مرّ العصور.
وهدى قساطلي مصوّرة لبنانيّة بدأت التصوير في ثمانينيّات القرن العشرين وتعاونت في سنوات إنتاجها مع صحافيّين وباحثين وفنّانين بارزين ساهموا في مشاريعها التي تُعنى بفنّ العمارة والميراث والحفاظ على روح المدينة المندثر. وركّزت قساطلي في أعمالها على المدينة، وكان لبيروت حضور كبير في صورها هي التي تعتبرها الخطّ الأفقيّ الدائم الذي تسير أعمالها الأخرى بخطّ موازٍ معه. وتتحدّث قساطلي عن بداياتها في التصوير وعمّا دفعها إلى هذا الفنّ قائلة: "التصوير هو مهدّئي ودوائي، سلاحي ضدّ الملل واليأس. بدأتُ التصوير عندما شعرتُ بفقدان المدينة، شعرتُ بغياب هذه المدينة وبضرورة البحث عنها وكان يجب أن أجدها، فبدأتُ السير بين المباني والعمارات والبيوت، وشعرتُ بأنّ هذه البيوت ستُفقد بسرعة ولن نلحق أن نمسك بها. شعرتُ بأنّ روح المدينة ستغادرنا مع اندثار هذه البيوت الذي سيحصل بسرعة ومن دون أن نشعر. شعرتُ أنّ البيوت ستهرب منّا بما تحمله من نمط عيش ونسيج اجتماعيّ، فالبيوت هي حياة أهلها وعندما تندثر، تندثر معها طريقة عيش. بيوت المدينة تخبر أخبار أهلها وجيرانهم ويوميّاتهم، أمّا اليوم فما عادت المباني الحديثة تخبر أيّة حكاية. لا جيران ولا يوميّات ولا تواصل ولا إلفة ولا دكاكين صغيرة يعرف أصحابها أهالي الحيّ ويتبادلون معهم العلاقات الإنسانيّة اليوميّة. كنتُ أدرك أنّه باندثار هذه البيوت ستندثر طريقة عيش بأكملها ولن نتمكّن من الإمساك بها من جديد. وفعلاً حدث ما كنتُ أخشاه، حدث ما كنت أخشاه وأكثر بعد. حصل بعد الحرب نوع من tabula rasa محا الوجوه والمعالم والبيوت وأنماط العيش وهذا أمر مؤسف ومحزن".
مشاهد المدينة
وتتحدّث قساطلي عن مشاريعها وطريقة تعاملها مع المدينة وأهلها قائلة: "أسير وأصوّر في المدينة. أحادث الأهالي وأكتشف أخبارهم وخفايا مدينتهم وحياتهم وأستمتع بوجودهم وبالطابع الذي يخلّفونه. والناس منفتحون خدومون في مدينتنا يحبّون أن يتحدّثوا وأن يشاركوا تجاربهم مع الآخرين. أتبع الجمال أينما كان فهو يمنحني المتعة ومفاتيح المدينة".
وما يجدر ذكره أنّ قساطلي ليست ضدّ التجديد في فنّ العمارة، إنّما بشرط أن يتمّ ذلك بوعي وتخطيط. فتؤكّد قائلةً: "ليس المهمّ التجديد وحده، يجب التجديد والتحسين بحسب ما يتلاءم مع الناس ونمط المدينة. إذا نظرنا اليوم إلى بيروت لا نرى فيها شرفات، وإن ملك أحدهم شرفة أغلقها بواجهات زجاجيّة. هل هذه فعلاً بيروت مدينتنا؟ مدينة غارقة بالعمار الرماديّ الباطونيّ؟ كيف يمكن لأحد أن يغلق شرفة في مدينة كبيروت سابحة في الحرّ والشمس وهواء البحر. هذه العمارة تتعارض مع مناخ المدينة نفسه. أنا مع التجديد نعم، إنّما فليعانق التجديد روح المدينة وليكن مصمّماً بإتقان ومنهجيّة. أنظُرُ اليوم إلى بيروت ولا أعرفها. المباني الجديدة لا تلائم أرض المدينة ولا أهلها ولا مناخها ولا طبيعة العلاقات المنسوجة بين أهلها، بيروت مدينة بيوت وأهالٍ وجيران وليست مدينة أبراج وعمارات ساحقة الطول. نملك دبي واحدة في العالم العربيّ وهي تكفينا، فلنتمتّع بما نملك ولنحافظ على تراثنا وتاريخنا ويوميّاتنا الإنسانيّة. ما يحصل اليوم هو ما أسمّيه الرغبة في تدمير الذات، رغبة في محو حقيقة قصّتنا وتاريخنا. بيروت مدينة مجبولة بالثراء الإنسانيّ وهو أمر يحتاج إلى سياسات منظّمة للحفاظ عليه. بيروت اليوم كما أراها هي الفوضى، الفوضى السلبيّة".
وفي سؤال لها عن مشروع سوليدر وما ترتّب عن هذا التجديد المكثّف الذي أنتجته تقول قساطلي: "ليست سوليدر مشكلة، هي جريمة. ولا تنحصر مشكلتنا بسوليدر فقط، هناك أيضاً غياب في الوعي. سكّان البيوت أنفسهم لا يعون أهمّيّة دورهم ووجودهم. لا أريد أن أعيد المدينة إلى البدائيّة، على العكس، يجب أن تتمتّع المدينة بما تقدّمه الحياة من تسهيلات ولكن ضمن برنامج معماريّ متماسك يشرف عليه مهندسون وأخصّائيّون لا يشوّهون روح المدينة ولا يسلبونها جوهر أهلها. لا أملك حنيناً بالمعنى الكليشيه للكلمة، إنّما أجد أنّه من المحزن والمؤسف أن نفقد مدينة بتراثها وعمارتها وحكاياتها. أملك حسرة على ما اندثر، على الجمال الذي خسرناه".
ضد التشويه المعماري
وهدى قساطلي مصوّرة تخرج عن المألوف ليس فقط بمواقفها السياسيّة المناهضة للعمارة العشوائيّة المعروفة بها إنّما أيضاً لعلاقتها بآلة التصوير. فقساطلي لا تحمل آلتها معها أينما كانت وتحرص على أن تسافر من دونها، وتبرّر هذا التصرّف غير المتوقّع من مصوّرة محترفة قائلة: "لا أحمل آلتي معي أبداً. لا أسافر والكاميرا معي. أنا في حاجة إلى رؤية الأشياء قبل أن أرغب في تصويرها. يزعجني السوّاح كثيراً بالصور التي يأخذونها. لماذا نحتاج إلى الكاميرا وإلى السفر بها وإلى التقاط هذا الكمّ الهائل من الصور؟ لمن نلتقط الصور؟ من سيراها؟ لماذا نرى عبر الكاميرا ولا نرى بالعين المجرّدة؟ لماذا نرى الأمور عبر علبة؟ لماذا لا نشعر بالأمور أوّلاً؟"
وبإجابة منها حول تحوّل فنّ التصوير إلى فنّ في متناول كلّ من يملك هاتفاً ذكيّاً، أبدت قساطلي ترحيبها بذلك وسرورها به: "الجميع مصوّر اليوم والجميع قادر على التقاط صور جميلة. هذا أمر رائع أن يصوّر الجميع، لمَ لا؟ لقد بات فنّ التصوير بمتناول الجميع وهذا أمر يثريه ويثري الذاكرة الجماعيّة. الجيل الجديد موهوب ومميّز ومتوهّج وفيه حماسة هائلة للفنّ، ولاحظتُ دخول العنصر الأنثويّ في هذا الفنّ بشكل واضح وملفت. طالما كان لبنان معقل المواهب وهذا ما يظهره الواقع مرّة جديدة". ولا تبدي قساطلي أيّ خوف على فنّ التصوير أمام السيطرة الكاسحة للسينما والتلفزيون والتطبيقات الحديثة، فبرأيها الصورة بالغة الأهمّيّة في عالمنا اليوم ولكلّ حدث يحصل حولنا صورة له في ذهننا. وتضيف قائلةً: "لا أخاف على مستقبل التصوير أبداً وبخاصّة أنّنا نعاني من مشكلة قراءة في عالمنا، لذلك تبقى الصورة حاملة المعاني الأولى. لقد انخفض مستوى القراءة للأسف، ولهذا السبب باتت الصورة تحتلّ المركز المحوريّ وبات تأثيرها عظيم الشأن في المجتمع وفي وسائل التواصل الاجتماعيّ".
وفي سؤال لها إن كانت قد صوّرت الثورة، أجابت قساطلي بأنّها صوّرت الثورة لنفسها ولأرشيفها فقط وأيّ عمل تجميعيّ لصور الثورة إنّما هو مبكر وسابق لأوانه. وتتابع قساطلي معارض الصور والمصوّرين وتستمتع بأعمالهم من دون أن تصدر أحكاماً تقيميّية، لكنّها في المقابل لا تحبّ الصور العنيفة وتجد أنّ الصورة الثاقبة والتي تحرّك الإنسان هي "الصورة التي تتكلّم، التي تملك صوتاً يخرج منها ليلمس كلّ من يراها".
وفي إطار مشاريعها الكثيرة وعملها مع مؤسّسة أركنسيال (arc en ciel) التي تُعنى عبرها بالعمارة والميراث المعماريّ والحفاظ على الحرف التي تندثر في وجه التقدّم التكنولوجيّ، تقدّم قساطلي كتاباً بعنوان "من تراب وأيدٍ بشريّة: بناء بيت سوريّ ذي قبب" ترمي به قساطلي إلى حماية حرف يدويّة من الاندثار ومنها حرفة بناء القبب التي تتميّز بها المدن السوريّة وحلب على وجه الخصوص التي عملت هي على مشاريع فيها. وقد استغرق العمل على هذا الكتاب سنة ونصف السنة وصدر مؤخّراً باللغات الثلاث العربيّة والفرنسيّة والإنجليزيّة. وقساطلي اليوم في طور العمل على مشاريع تصويريّة في طرابلس في الشمال اللبنانيّ وفي النوبة بمصر.
معرض هدى قساطلي مستمرّ طيلة العام بصوره المميّزة وألوانه النابضة ولعبة الضوء والشرفات والوجوه التي تروي ميثولوجيا مدينة لا يمكن تدميرها.