تُعدّ رئاسة الجمهورية التونسية مؤسسةً رمزيّة ذات مكانة اعتباريّة في الوجدان الشعبي، على الرغم من أن النظام السياسي في تونس، برلماني معدّل، إذ إن رئيس الدولة على الرغم من صلاحياته المحدودة في الدستور الحالي هو رمز السيادة الوطنية والقائد الأعلى للقوات المسلحة ويُنتخب مباشرةً من الشعب، بعكس رئيس الحكومة الذي يقترحه الحزب أو الائتلاف الحزبي الفائز بأكثرية المقاعد في البرلمان.
ونظراً إلى هذه الرمزية القيمية لا يقبل التونسي اليوم أن تقع هذه المؤسسة العريقة (خصوصاً في ظل تاريخها في عهد الرئيسين السابقين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي) في أخطاء تواصلية أو يلاحَظ عنها تقصير في الأداء، لأن من شأن ذلك أن يمس بهيبة الدولة وهيبة المواطن التونسي في آن. لذلك يحزّ في نفس شِق كبير من التونسيين كلما وقعت هذه المؤسسة في سوء تقدير أو خطا تواصلي فتشتعل مواقع التواصل الاجتماعي لوماً ونقداً حتى من الذين انتخبوا الرئيس قيس سعيد نفسه ويحمّلونه مسؤولية سوء اختيار فريق اتصالي قوي ومحترف.
نقابة الصحافيين تحتج على الأداء المهزوز
ويتقاسم عدد من الصحافيين هذا الموقف لأن الأداء الإعلامي المرتبك أثّر بشكل واضح في صورة مؤسسة الرئاسة ما دفع بنقابة الصحافيين التونسيين في 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، إلى إصدار بيان للتنديد بتواصل سياسة التعتيم التي تنتهجها رئاسة الجمهورية منذ تولي سعيد منصبه، والقائمة على التمييز بين وسائل الإعلام وغياب الشفافية والآنية في الإعلان عن نشاطات الرئيس وغياب التنظيم المحكم للتغطية الإعلامية القائمة على المساواة بين كل المؤسسات الإعلامية.
وكانت رئاسة الجمهورية منعت فريقاً صحافياً من حضور المؤتمر الإعلامي للرئيسين التونسي سعيد والتركي رجب طيب أردوغان الذي زار تونس في 25 ديسمبر 2019.
أخطاء في التركيب واللغة
كما ارتكبت الدوائر الإعلامية العاملة في الرئاسة التونسية سلسلة أخطاء شكلية في اللغة والتركيب، فتضمن البيان الإعلامي الصادر في 24 نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 بمناسبة إحياء ذكرى مقتل عناصر من الحرس الرئاسي في عملية إرهابية في العاصمة التونسية عام 2015، أخطاء في اللغة والتركيب تندّر بها بعض المواطنين على مواقع التواصل.
وتشي الأخطاء الإعلامية المتكررة بقصور في التعاطي مع الملفات الوطنية المحلية والعربية وفي امتداد تونس دولياً أيضاً. وتضطر الأجهزة التابعة لمؤسسة الرئاسة عادةً إلى نشر بيانات توضيحية أو تتدخل "المكلَفة بالإعلام" على إحدى وسائل الإعلام لتفسير بيان صحافي أو لتوضيح ملابسات تصريحات رئيس الجمهورية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إقالة منصف البعتي
وكشف التعاطي مع موضوع إقالة مندوب تونس الدائم في الأمم المتحدة خللاً في الأداء الدبلوماسي لتونس حيث اعتبر دبلوماسيون سابقون أن إقالة منصف البعتي بتلك الطريقة إهانة لتونس وللديبلوماسية التونسية.
على أثر ذلك، أصدرت رئاسة الجمهورية بياناً أشارت فيه إلى أن تونس لم ترضخ للمساومات والضغوط المتعلقة بإقالة البعتي، بينما رجّحت وسائل إعلام أجنبية إن الإقالة كانت نتيجة ضغط مارسته الولايات المتحدة على تونس نظراً إلى فحوى مشروع القرار الذي سيُعرض على مجلس الأمن الدولي إثر إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب عن "خطة السلام" الرامية لتسوية القضية الفلسطينية.
وأشار بيان الرئاسة إلى أن "تونس عندما تنتصر للحق لا تضع في حساباتها إلا الحق المشروع للشعب الفلسطيني وحقه في تقرير مصيره". واتهم البيان بشكل مُهين البعتي "بأنه لم يبق له إلا استجداء عطف المحتل الصهيوني وهو يتظاهر بمواجهة الاحتلال".
هذه العبارات اعتبرتها الصحافية التونسية منية العرفاوي "ترذيلاً لمؤسسات الدولة وبياناً يهز صورة المؤسسات الرسمية بشكل دراماتيكي لم تعهده تونس حتى في أكثر لحظات الدولة ضعفاً". وأضافت متسائلةً "كيف تعمد مؤسسة منتخَبة بحجم الرئاسة إلى تخوين أحد مواطنيها وهو موظف ديبلوماسي رفيع المستوى يمثل الدّولة والعلم التونسيين؟"، مشيرةً إلى أن "ذلك يمثل سقطة كبيرة تنمّ عن سوء تقدير وتلاعب واضح بمصلحة الدّولة وصورتها في الخارج".
وأكدت العرفاوي أنه يُفترض أن تبقى مؤسسات الدولة متحلّية بقدر من التحفظ وتتعامل مع موظفيها وفق الإجراءات والقوانين وليس بمنطق تبادل الشتائم والتخوين.
كما ينتقد صحافيون تونسيون مكاتب الإعلام في رئاسة الجمهورية لبطئها في التفاعل مع الأخبار والملفات والمواضيع الصحافية المنشورة في الصحف أو الإذاعات والتلفزيونات وتكتفي بالظهور في بعض المؤسسات فقط وكلما دعت الحاجة.
لم لا تستثمر تونس صورتها؟
ويرى مراقبون إن مؤسسة الرئاسة مدعوة في أقرب وقت ممكن إلى إعادة النظر في "مكتب الإعلام والاتصال" من أجل تجاوز الأخطاء والسقطات المهنية التي تضرّ بصورة تونس في الخارج وهي في أمسّ الحاجة إلى تلميع صورتها واستثمار واقعها بخاصة في مجال الحرّيات والتعاطي المهني مع الملفات الوطنية الكبرى واستثمار مناخ الحرية في البلاد من أجل التسويق للسياحة في تونس عبر الدبلوماسية الاقتصادية، لا تشويهها عبر إجراءات شعبوية كإقالة مندوب البلاد في الأمم المتحدة ثم إصدار بيان فيه مسّ بمكانة الرجل الذي خدم الدولة التونسية.
الشعبوية لا تعترف بمؤسسات الدولة
من جهة أخرى، يعتبر صحافيون تونسيون أن قيس سعيد عُرِف بخطابه الشعبوي الذي يستدرّ من خلاله عطفَ الناس من خلال الخوض في قضايا عربية حارقة كالقضية الفلسطينية والزّهد عن السياسة والسياسيين و"معانقة" الشباب العاطل من العمل واستقباله "عيّنات" منهم في قصر قرطاج الرئاسي، أمّا اليوم وهو رئيس الجمهورية فهو مسؤول عن مؤسسة الرئاسة وصورة تونس وهو الضامن لحسن أداء مؤسّسات الدولة ومدعو إلى ضبط إستراتيجية اتصالية تقوم على الوضوح والتوازن وكفّ المزايدات السياسية حول القضايا الوطنية الكبرى من أجل مصالحة التونسي مع محيطه السياسي ومع مؤسسات الدولة و من بينها مؤسسة الرئاسة.