كان العمل في الأصل مسرحية رمزية في خمسة فصول كتبها موريس ميترلنك في الأعوام الأخيرة من القرن التاسع عشر لتقدّم على الخشبة للمرة الأولى أواسط ربيع العام 1893 في باريس. ولقد لوحظ على الفور كيف أن الكاتب/ الشاعر قد صاغ عملا يستند إلى بعد أسطوري بشخصيات تحضر هنا دون ماض ودون تاريخ، ما أسبغ على المسرحية مناخا شاعريا ربما كان هو السبب في التقاط عدد لا بأس به من الموسيقيين لها خلال السنوات التالية محوّلينها غالبا إلى أعمال أوبرالية تغلب عليها رومانسية حالمة. وهكذا على التوالي أُعيد خلق "بيلياس وميليزاند" بتوقيع غابريال فوريه منذ العام 1898، ليتبعه ويليام والاس بعد عامين ثم كلود ديبوسي بعد عامين آخرين وصولا إلى أرنولد شونبرغ في العام 1903 فجان سيبيليوس في العام 1905... وصولا إلى الموسيقي السينمائي المعاصر لنا آلكسندر ديبلا الذي جعل منها سيمفونية كونشرتو للناي والأوركسترا في العام 2013. والحال أن ما يهمنا هنا هو إقتباس شوينبرغ للمسرحية في "قصيدة سيمفونية" تعتبر من أجمل أعماله وأكثرها إكتمالا.
كلاسيكية مبكرة
تحمل هذه القصيدة السيمفونية الرقم 5 بين أعمال شوينبرغ، وهي قُدّمت للمرة الأولى في فيينا شتاء العام 1903، ولقد قال شوينبرغ دائما أن معلمه وزميله الألماني ريتشارد شتراوس كان هو من اقترح عليه تحويل المسرحية إلى موسيقى أوركسترالية. وتعتبر "بيلياس وميليزاند"، نموذجا لجهود شوينبرغ الباكرة في مجال التأليف الموسيقى التونالي وضعها قبل فترة من بداية خوضه الموسيقى الإثني عشرية اللاتونالية. بل إن لها طابعا كلاسيكيا يكاد يجعلها منتمية إلى تجديدات النصف الثاني من القرن التاسع عشر أكثر كثيرا مما تنتمي إلى تجديدات القرن العشرين ولا سيما في فيينا والتي سيكون أرنولد شوينبرغ سيدا كبيرا من سادتها. لكن الزمن الذي كتب فيه هذا العمل كان لا يزال مبكرا على ذلك التجديد الحداثي الذي سيجعل النازيون ينظرون إلى موسيقى شوينبرغ كرمز لانحطاط الفنون ويرجمونها مستثنين "بيلياس وميليزاند" من ذلك الرجم!.
مهما يكن فإن السمة الأولى من سمات "كلاسيكية" هذا العمل التي تربطها مثلا بآداجيو سميتانا في "وطني"، هي كونها تتألف من حركة طويلة واحدة تقطعها بين الحين والآخر فواصل محددة وقصيرة ويبلغ عدد هذه الفواصل أحد عشرة، يمكن تقسيمها بحسب مجرى أحداث قصة الحب التي تشكلها المسرحية الأصلية، إلى أربع مجموعات، تحاول كل مجموعة منها، أن تكون انعكاسا لدور الشخصيات في الأحداث المحددة التي تدور من حول قصة الحب التي تعيشها خاصة الشخصيات الثلاث التي تشغل الحدث: بيلياس وميليزاند وغولو وغيرهم من شخصيات تدور من حول الحكاية إنما دون أن تهتم بها موسيقى شوينبرغ كثيرا: آركل ملك آلموند وجنفييف أم بيلياس وغولو وإينيولد إبن غولو والطبيب...إلخ. والمجموعات الأربعة التي يترجمها شوينبرغ موسيقيا عبر توزيعه الأوركسترالي هي: الغابة، زواج غولو وميليزاند، بيليلس ويقظة الحب لدى البطلة – مشهد الينبوع ثم البرج – النبع في الحديقة ومشهد الحب ومشهد موت بيلياس -، وأخيرا مشهد موت ميليزاند الذي يختم العمل...
لقد حقق هذا العمل من النجاح الشعبي ما لن يحققه أي عمل أوركستراليّ آخر لشوينبرغ نفسه. واللافت هنا أن هذا الأخير في منفاه الأميركي، خطر له بعد أن شاهد في العام 1942 في نيويورك، عرضا صاخبا لباليه "عمود النار" الذي كان أنطوني تايلور قد اقتبسه أصلا من عمله الأوركسترالي "الليلة المتحوّلة"، خطر له أن يعيد الإشتغال على "بيلياس وميليزاند" محوّلا إياها من قصيدة سيمفونية إلى عمل للباليه مستبدلا الحركة السيمفونية المفردة التي كانت تميز العمل الأصلي بحركات متعددة تتلاءم مع عرض باليه شيّق... غير أن هذا المشروع الجديد لم يتحقق ما أنقذ القصيدة السيمفونية وأبقاها على حالها حتى وإن ظل المشروع يداعب خيال الموسيقي حتى آخر أيامه. وربما كان يريد به أن يرد من طرف خفي على تهمة "الإنحطاط" التي رماه بها النازيون وظلت لصيقة به طويلا.
وماذا عن الإنحطاط؟
والحديث عن الإنحطاط لن يكون هنا من قبيل الصدفة. فالحال أن ما ابتكره شونبرغ في عالم الموسيقى، هو الذي علم نفسه بنفسه باكراً، واطلق عليه اسم «الموسيقى الإثني عشرية»، اعتبر من قبل كبار النقاد والمؤرخين الكلاسيكيين فاتحة لرسم صورة لانحطاط الموسيقى في زمننا. غير أن ما اعتبر في ذلك الوقت انحطاطاً، سرعان ما دخل عالم كلاسيكية القرن العشرين وموسيقى شونبرغ التي كانت بدعة وهرطقة معه، سرعان ما صارت موسيقى زمننا السائدة، بعد أن تابع خطواته طلاب درسوا عليه كان من أشهرهم بيرغ وفيبرن، ثم جاء ثيودور آليس وميسيان وبوليز وغيرهم، ليعلنوا في نهاية الأمر انتصار شونبرغ على سترافنسكي، أي انتصار أول الحداثة على آخر الكلاسيكيين.
إذن، كان شونبرغ بداية ثورة في الموسيقى، قامت على أساس استخدام المؤلف لسلالم الموسيقى التي كان عددها في الأصل دزينة من السلالم لم يعتد المؤلفون أن يستخدموا، منها قبل ذلك، سوى سبع سلالم. لقد قامت ثورة شونبرغ على أساس إعادة دمج السلالم الناقصة وإعطائها في مجال الهارموني أهمية توازي أهمية السلالم الأخرى، ما جعل للموسيقى الحديثة إثني عشر صوتاً متساوية، ومن هنا جاء اسم «الموسيقى الإثني عشرية» التي أعاد شونبرغ تنظيمها تبعاً لأربع تقنيات واحدتها في الاتجاه المعتاد، والثانية في الاتجاه المعاكس، والثالثة في اتجاه يسمى اتجاه المرآة، والرابعة في اتجاه معاكس للمرآة. وهذا كله أدى إلى خلق الموسيقى التسلسلية.
كل هذا قد يبدو الآن معقداً، لكن أهميته تكمن في أن مبتكره، أو بالأحرى مكتشفه، لم يدرس الموسيقى في أي معهد، بل درسها عبر استماعه المتنبه والدقيق لأعمال أساتذته الكبار باخ، موزار، بيتهوفن وفاغنر. فالحال أن شونبرغ منذ اكتشفت الموسيقى الكلاسيكية وهو، بعد، صبي، لم يكف لحظة عن التطلع إلى اليوم الذي سيصبح فيه مؤلفاً موسيقياً، هو الذي لم يكن أكثر من ابن عادي لبقال متواضع. ولقد كانت أمه هي التي أعطته حب الموسيقى، فتعلم وحده العزف على الكمان والفيولونسيل وبدأ باكراً جداً يكتب انواعاً بدائية من موسيقى الحجرة الوترية. وهو كان في الثامنة عشرة حين التقى بزملنسكي الذي سيصبح استاذه وملهمه، ويزوجه أخته.
في 1907، وكان قد أضحى في الحادية والثلاثين من عمره لعب شونبرغ في فيينا قطعته «رباعي من مقام ري كبير» التي أتت لتتوج بداياته وتعلن عن ولادة موسيقي كبير، ولقد لعب بعدها اثني عشر تأليفاً للبيانو كان قد كتبها على شكل اغنيات في 1898. غير أن عمله الأول الذي لفت الأنظار حقاً إلى تجديداته كان سداسي التوتر الذي عرف باسم «ليل مشع» ولحنه على قصيدة لريتشارد دهمل. ولقد بدا واضحاً ان شونبرغ يحاول هنا ان يتخطى للمرة الأولى المستويات التي كانت قد وصلت اليها حداثة فاغنر. وفي 1901 سافر شونبرغ إلى برلين حيث لم يكف عن العمل منذ ذلك الحين وعن فرض وجوده في دائرة واسعة تتخطى حدود فيينا مسقط رأسه.
وفي برلين كتب اولاً قصيدته السيمفونية «بيلياس وميليزاند» التي كشفت عن تأثره بفاغنر وريتشارد شتراوس، ولكن كذلك عن تجديد تقني سوف لن يكف بعد ذلك عن ولوجه في أعماله التالية التي راحت تتوضح فيها أكثر وأكثر ابتكاراته التي قادته إلى الموسيقى الإثني عشرية، والموسيقى التسلسلية. ولسوف تمضي العقود التالية من حياته، وهو يبتكر ويؤلف ويعد خلفاءه، في الوقت الذي يؤكد فيه أنه موسيقي وليس مجرد منظر. في أواسط الثلاثينات اضطهد النازيون شونبرغ، رغم اعتناقه البروتستانتية، فهاجر إلى الولايات المتحدة التي سيرحل فيها العام1951 وهو في قمة مجده.