Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عندما فقد الروسي غوغول شاعرية "سهرات مزرعة ديكانكا"

صاحب "الأرواح الميتة" يعود لمدينة أوكرانية صغيرة بحثاً عن إلهام جديد يحركه

نيقولاي غوغول (1809 - 1852) (غيتي)

ملخص

حين خان الإلهام الكاتب الروسي الكبير نيقولاي غوغول لجأ إلى التراث الأوكراني يستوحي منه حكايات ونصوصاً كان من حظها أنه حقق عبرها تجديداً كبيراً في أدبه

كان الكاتب الروسي الكبير نيقولاي غوغول في الـ26 من عمره حين راح يبحث عن إلهام يحرك مكامن الإبداع فيه لينشر جزءاً ثانياً من مجموعة تلك الحكايات التي ستخلد وتخلده لاحقاً تحت عنوان مشترك هو "سهرات في مزرعة ديكانكا"، لكنه بحث طويلاً ولم يجد. كان يبدو وكأن ملكة الإلهام ما عادت تستجيب لطموحاته ولا لمطالب قرائه الذين كانوا يزدادون عدداً وإعجاباً به، ولكن تطلباً أيضاً. كانت المجموعة الأولى التي صدرت على دفعتين عامي 1830 1831 بالعنوان نفسه، حققت نجاحاً كبيراً جعل له اسماً لا بأس به في عالم الأدب والأدب الخيالي بالتحديد، أي في مجال كان يجدد فيه في سياق الأدب الروسي، لكنه حين راح يشتغل على مجموعة ثانية احتاج منه الأمر إلى ثلاث سنوات من الجدب الفكري والإبداعي، مما جعله، في نهاية المطاف، حين ينجز أربع حكايات جديدة، يصدرها بعنوان خاص بها هو "ميرغورود" على اسم مدينة أوكرانية شديدة الصغر ترتبط إلى حد ما بطفولته. والمعروف أن المجموعة الأولى ستعود وتضم لها المجموعة الجديدة لتسمى معاً "الحكايات الأوكرانية"، والحقيقة أن روسيا وأوكرانيا كانتا في ذلك الحين بلداً واحداً قد يولد الروسي أوكرانياً وقد يعتبر الأوكراني روسياً. وغوغول نفسه (1809 - 1852) على رغم أنه يكتب بالروسية ويعتبر من الأدباء الروس الكبار والمؤسسين، إلى حد أن دوستويفسكي كان ينحو مثل غيره من كبار أدباء القرن الـ19 الروس، إلى القول "لقد خرجنا جميعنا من معطف غوغول"، غوغول ولد في أوكرانيا غير بعيد من كييف التي كان يعتبرها، دون موسكو أو بطرسبرغ، العاصمة الحقيقية والتاريخية للإمبراطورية الروسية.

عندما خانه الإلهام

المهم هنا إذاً أن غوغول حين خانه الإلهام لجأ إلى التراث الأوكراني يستوحي منه حكايات ونصوصاً كان من حظها أنه حقق عبرها تجديداً كبيراً في أدبه، يمعن من خلاله غوصاً في غرائبية أدبية يمكن تتبع حضورها البديع في معظم أعماله التالية. ومن هنا يمكننا أن نتلمس فضل تلك المدينة الصغيرة، ميرغورود عليه. وهي صغيرة حقاً إلى درجة أن الكاتب نفسه أكد في تقديمه للمجموعة الجديدة تلك بأنها "مدينة أوكرانية صغيرة جداً تقع بالقرب من نهر خورول، وفيها مصنع للحبال وأربع طواحين تشتغل على الماء 45 طاحوناً تشتغل على الريح لا أكثر. وفي إطار تلك المدينة إذاً التي ستبدو من الغرابة بحيث اعتقد كثر أن غوغول اخترعها جعل الكاتب ميدان تحرك ونشاط أربع حكايات، هي على التوالي "أسرة من الزمن القديم"، و"تراس بولبا" (أطول تلك الحكايات وأشهرها إذ اتخذت لنفسها مكانة مستقلة مع مرور الزمن)، ثم "فيج"، وأخيراً "الخصام بين الإيفانين". وتبدأ المجموعة بحكاية تبدو للوهلة الأولى عائلية تزخر بالحنين إلى أزمان ولت من خلال العلاقة الحميمة بين زوجين عجوزين  في دعة وهدوء مطلقين، إذ لا يتوقف هو من ناحيته عن الأكل والشرب طوال النهار، بينما تكتفي هي من الحياة بالعيش من أجله وتقديسه كمعبود لها. وفي نهاية المطاف حين تموت الزوجة العجوز يبقى الزوج عائشاً على ذكراها زمناً يكاد يكون أبدياً، إذ لا يتوقف لحظة عن ذكرها متناولاً مأكله ومشاربه لإرضاء تلك الذكرى، انطلاقاً من هذا الموضوع البسيط يمضي غوغول في نسج هذه الحكاية التي يغنيها بلغته الخصبة بالمعاني. وعلى العكس من ذلك، تأتي الحكاية التالية "فيج" مستقاة أصلاً من حكاية شعبية يؤكد الكاتب أنه لم يحدث أي تغيير في أصلها الذي وصل إليه منذ سنوات.

الطالب والساحرة الشمطاء

ويتحدث ذلك الأصل عن طالب في دير يدرس الفلسفة يترك نفسه فريسة لألاعيب ساحرة عجوز تجعل منه مطية لها بالمعنى الحقيقي للكلمة، غير أن الأمر ينتهي به بفضل ألعاب شيطانية إلى السيطرة عليها محولاً إياها هذه المرة إلى مطية له، ودائماً بالمعنى الحرفي للكلمة، إذ يمتطيها ويدور بها من مكان إلى آخر إلى حد أنها سرعان ما تموت من الإرهاق. غير أنها قبل أن تسلم الروح تماماً، نراها تستعيد هويتها الحقيقية فإذا بها صبية آية في الحسن ليست سوى ابنة لواحد من زعماء القوزاق، وهي تعبر لابيها عن رغبة أخيرة، إذ تطلب منه أن يقوم طالب الفلسفة بالسهر على تابوتها في انتظار الدفن الذي يحتاج إلى انتظار ثلاثة أيام كما تقتضي الطقوس. وهكذا يكون، لكن فترة الانتظار تتجلى حافلة بأحدث عجيبة ومقلقة، ثم عند نهاية الليلة الثالثة يحضر فيج بنفسه، وهو المعروف بكونه رئيس الجن الذي أبدلت عيناه بجفون معدنية رهيبة تصل في امتدادها إلى الأرض، وفي النهاية حين يتمكن فيج من انتزاع جفونه وإلقاء نظرة على طالب الفلسفة يقع هذا الأخير ميتاً من الرعب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

صراع الصديقين

وفي الحكاية الثالثة يطالعنا الصديقان إيفان إيفانوفتش وإيفان نيكيفوروفيتش اللذان يخبرنا الكاتب أنهما كانا من أعز الأصدقاء قبل أن يقع بينهما خلاف ينتج من رفض أولهما إهداء بندقية يملكها إلى الثاني. ويصل الخلاف إلى المحكمة عبر دعوى يستمر النظر فيها 10 سنوات، تجف خلالها روحا الصديقين العدوين ويموت كل شعور لديهما. وهذه الحكاية هي التي تمهد على أية حال للحكاية الرابعة التي تعتبر في العالم كله، واحدة من أبدع أعمال غوغول وترجمت إلى العدد الأكبر من لغات هذا العالم واقتبست أفلاماً وأوبرات. وفي هذا النص الذي يزيد عدد صفحاته وحده عن مجموع عدد صفحات بقية حكايات المجموعة، يروي لنا غوغول تاريخ حياة وبطولات ذلك الزعيم القوزاقي الذي جعل واحداً من مبادئ حياته كراهية البولنديين الذين كانوا يحتلون بلاده في ذلك الحين، لينتهي الأمر به وقد أحرقوه حياً حين تمكنوا منه. والحقيقة أن هذا التلخيص السريع لما يحدث في "تراس بولبا" لا يترك مجالاً لسبر ما فيها من تأسيس حقيقي لأسلوب نيقولاي غوغول الذي سيكون أسلوبه الخاص في مجمل أعماله الروائية أو القصصية وبالأخص في عمليه الأشهر "المفتش العام" و"الأرواح الميتة"، إذ يتجلى ذلك الامتزاج المدهش بين الدموع الحقيقية والابتسامات الصاخبة وحيث، وعلى رغم أن الموت والفجيعة يشكلان خاتمة بديهية للأحداث لا تتوانى لحظات الابتسام والضحك الصاخب حتى من الإطلال برأسها حين لا يكون ثمة مجال حقيقي لها. ولعل هذا ما سيطبع الأدب الروسي في مجمله ليعتبر إشارة على تلك الذهنية الروسية التي يختلط فيها التطرف في كل شيء ويبدو التنقل بين شتى حالات الروح سلساً، وكأنه ماثل هناك منذ الأزل. وفي النهاية، صحيح أن هذه الحكايات الأوكرانية، التي أعلن غوغول عبرها دخوله عالم الأدب، لن تحتسب لاحقاً بين أعماله الكبرى - إن نحن استثنينا "تراس بولبا" على أية حال - لكنها إضافة إلى مجموعتي "سهرات المزرعة" يمكن اعتبارها القاعدة الصلبة التي عرف كيف يبني عليها الكاتب الشاب الذي كانه نيكولاي غوغول في ذلك الحين صرح مجد أدبي كبير، ربما يمكننا أن نقف في صف واحد مع أولئك الذين اعتبروه الأساس المتين الذي قام أدب القرن الـ19 الروسي عليه.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة