يمكن القول إن العملية الانتخابية في إيران، بأي شكل من أشكالها، إن كان برلمانياً أو رئاسياً أو بلدياً أو مجلس خبراء القيادة، تختلف عن أي انتخابات مشابهة بالعالم، إن كان بخصوص الجدل الدستوري حول آلياتها، والإجراءات الممهدة والمرافقة لها، وإن كان لجهة الأبعاد السياسية ودلالاتها، ومواقف الأحزاب والقوى السياسية والمدنية منها، في الدعوة إلى المشاركة أو المقاطعة، ودورها وحجم تمثيلها الإرادة الشعبية، والتوجهات الاجتماعية والسياسية، فضلاً عن قدرتها على التعبير عن تطلعات المُقترعين أو الحدود الدستورية والقانونية المرسومة لها ضمن تركيبة النظام.
المزاج الشعبي الإيراني
وعلى الرغم من اتساع رقعة المعارضة الشعبية للنظام ومؤسساته وآليات تعامله مع مخرجات صناديق الاقتراع، والسماح بترجمتها عملياً في إطار المؤسسات الرسمية والدستورية، فإنه ربما يكون من الصعب معرفة المزاج الشعبي الإيراني وتأطيره ضمن قواعد محددة تساعد على قراءة توجهاته وحجم مشاركته في هذه التظاهرات الانتخابية، بما تعنيه من تعبير عن مظاهر ديمقراطية، يُفترض بها أن تكون مُلزمة النظام في نتائجها، وترسم له مسارات التطوّر والتغيير التي يطالب بها الشعب من خلال هذه الأطر الدستورية والديمقراطية.
لعل انتخابات العام 1997 التي أوصلت محمد خاتمي إلى موقع رئاسة الجمهورية على حساب مرشح النظام علي أكبر ناطق نوري، تشكّل مؤشراً على هذا المزاج الشعبي الذي شارك في الاقتراع، معتقداً أن صوته لن يُحدث فارقاً في النتائج، انطلاقاً من أن النظام سيعلن انتصار الشخص الذي يريده، فكان الاقتراعُ يحمل صبغتين، الأولى (لا لمرشح النظام)، والثانية (اكتب خاتمي ويقرؤونه ناطق).
والمحطة الثانية ليست بعيدة، عندما ألحق الشارع الشعبي الهزيمة بمرشحي النظام في انتخابات مجلس خبراء القيادة، خصوصاً بطهران، لصالح القائمة المدعومة من روحاني ورفسنجاني، وإطاحة أكثر الشخصيات تشدداً وتأثيراً في مفاصل النظام، مع إدراكهم (الجمهور) بأن هذا الاقتراع إنما هو اختيارٌ بين مرشحين من داخل التيار المحافظ، ولا فرق بين أن يكونوا معتدلين أو متشددين.
تشتت القوى والأحزاب السياسية
ومنذ أواسط ثمانينيات القرن الماضي، وبعد أن اتخذ النظام الإسلامي قراراً بإخراج القوى والأحزاب القومية والعلمانية، فضلاً عن الجماعات التي رفعت شعار الكفاح المسلح ضده، من دائرة السماح لها بالمشاركة في الحياة السياسية والآليات الديمقراطية والعمليات الانتخابية، منذ ذلك التاريخ وهذه القوى في الداخل الإيراني لم تتردد في الدعوة إلى مقاطعة الانتخابات ومخرجاتها الدستورية والسياسية، في مقابل موقف طبيعي ومبرر يدعو إلى المقاطعة كانت تدعو له القوى والجماعات التي تمثّل النظام الملكي التي كان انتصار الثورة وقيام النظام الإسلامي على حسابها وسلطتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إلا أنّه لم يحدث أن تضافرت جهود القوى والأحزاب السياسية الداخلية مع جهود أحزاب وأنصار النظام الملكي لتشكّل جهة موحدة تتبنى دعوة المقاطعة، في إطار مواجهتها مع النظام القائم وإسقاط شرعيته الشعبية.
ولعل السبب الرئيس في هذا التشتت وعدم تضافر الجهود يعود إلى رغبة كل طرف من هذه الأطراف في أن يكون وارث النظام، وأن يتحكّم هو بمصير البلاد في حال حدوث أي تغيير. ولعل ما يعمّق الهُوة ويحول من دون انضواء هذه القوى في جبهة واحدة التاريخ الطويل من المواجهة بين الأحزاب العلمانية والمدنية وحتى الليبرالية مع أنصار الملكية، ما يعزز عدم القدرة على بناء ثقة مشتركة حول رؤية واحدة لمرحلة ما بعد النظام الإسلامي.
وقد تكون مروحة القوى والأحزاب السياسية المعارضة والداعية إلى مقاطعة الانتخابات مروحة واسعة، وذات مسار تاريخي يضارع تاريخ تأسيس النظام الإسلامي، إن كان من أنصار الملكية أو الاتحاد من أجل الجمهورية أو حزب اليسار الإيراني (فدائيان خلق) أو أحزاب الجبهة الوطنية في الخارج، وحزب التضامن الجمهوري الإيراني، أو منظمة مجاهدي خلق وجبهة المقاومة الوطنية أو الحزب الشيوعي (توده) أو الأحزاب القومية والمناطقية الأذرية والبلوشية والكردية والعربية، إلا أنها لم تستطع أن تتوصل إلى رؤية موحدة لمرحلة ما بعد إسقاط النظام القائم.
وهي تختلف في ما بينها على مستقبل إيران ووحدة أراضيها لجهة تمسّك البعض بالدولة المركزية على كامل التراب الإيراني، وجهود البعض لإقامة كيانات عرقية وقومية خاصة بها على حساب الدولة المركزية، وفي أفضل الأحوال يدعو البعض منهم إلى إقامة فيدراليات أو كونفيدراليات لدول تمثل شعوب الهضبة الإيرانية.
ولعل النقطة المشتركة بين قوى المعارضة بالخارج وبعض القوى بالداخل التي لا تدعو إلى المقاطعة، تتمثل في المطالبة بحرية العمل الحزبي، وحرية التعبير والنشاط السياسي وحرية الصحافة، وبناء مجتمع متعدد سياسياً وفكرياً وثقافياً وحتى دينياً، إلا أن الاختلاف يكمن في الآليات المفترض اتباعها للوصول إلى هذه الأهداف والغايات.
المقاطعة الصامتة
قد تكون أحزاب الخارج قادرة على دفع مناصريها في الداخل، اتسعت دائرتهم أم ضاقت، إلى مقاطعة الانتخابات وعدم المشاركة في أي عملية دستورية تصب في تعزيز شرعية النظام، وقد تتسع هذه المقاطعة لتشمل الدائرة الأصغر للمناصرين في الداخل، إلا أنها ستبقى عاجزة عن التحوّل إلى ظاهرة عامة تؤسس لحالة من حالات العصيان المدني، ومقاطعة شاملة بمشاركة غالبية الشعب الإيراني أو "الشعوب الإيرانية"، بما يؤسس عملياً لإسقاط الشرعية الشعبية للنظام الذي يرفع الشعار الذي شدد عليه المؤسس "الشعب مصدر الشرعية".
في المقابل، لا يمكن الجزم بعدم وجود حالة من المقاطعة في الداخل، إن كان من القوى السياسية الفاعلة تحت سقف الدستور وشروط النظام ومحدداتها القانونية والسلطوية، أو تلك التي لا تجرؤ على الإفصاح عن وجودها كأشكال تنظيمية أو تجمعات فكرية ذات تمثيل في الشارع الإيراني.
إلا أن الترجمة العملية لهذه المقاطعة تأخذ أشكالاً مختلفة عن تلك التي تتبعها أحزاب الخارج، وهي مقاطعة يمكن تسميتها "صامتة"، لجهة أن قرار عدم المشاركة في الانتخابات لا يكون من خلال الدعوة العلنية أو التحشيد الشعبي العلني، بحيث إنها تحوّلت إلى ممارسة وسلوك غير معلن يصب في إطار "المعارضة السلبية"، وذلك حتى لا تتعرض للملاحقة القانونية والمحاصرة والتضييق من قِبل النظام وأجهزته، والدائرة التي تشملها لا تقتصر على القوى والجماعات المعارضة أصل النظام والرافضة الدستور الإسلامي، بل تشمل أيضاً قوى الأحزاب التي لا تعلن معارضتها أصول ومبادئ النظام ودستوره، وتنضوي تحت مسمى (القوى الإصلاحية) بمعناه الأشمل والأوسع، وبالتالي فإنها من خلال امتناعها عن تسمية مرشحين مباشرين لها في العملية الانتخابية تعتبر نفسها في حلّ عن دعوة مناصريها للمشاركة أو حثهم عليها.
رسائل وتحذيرات القوى الإصلاحية
من هنا، يمكن فهم الرسائل التي وجهتها القوى الإصلاحية والمستقلة والمعتدلة إلى النظام ومراكز القرار من مخاطر القرارات التي اتّخذها مجلس صيانة الدستور، التي أدّت إلى رسم وهندسة النتائج المرتقبة للانتخابات لصالح مرشحي التيار المحافظ على حساب مرشحي قوى المعارضة الداخلية بكل أطيافها، وحجم التحديات التي تفرضها هذه الآليات على جهود تعزيز الوحدة الوطنية التي تشكّل حاجة ماسة لإيران في هذه المرحلة المتخمة بالتحديات والتهديدات الداخلية والخارجية، خصوصاً أن التوجهات الشعبية كانت واضحة في الافتراق، بدأ بالتبلور بشكل واضح بعد حركة الاحتجاجات الواسعة والمواجهات الدامية التي حدثت في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي 2019 بعد قرار رفع أسعار الوقود، التي تعتبر نتيجة لمسار تراكمي من الاحتجاجات كان عام 2009، والحركة الخضراء أحد أبرز مؤشراتها الجدية، وعاد لتظهر نهاية عام 2017 وبداية عام 2018.
هذه التحذيرات الصادرة عن القوى الإصلاحية، ذات حدين، كلاهما بوجه النظام ومؤسساته، فهي من جهة تحذير من نتائج سياساته الإقصائية وجهوده لإحكام السيطرة على مراكز القرار واستبعاد الآخرين من المشاركة، ومن جهة أخرى تحمّله مسؤولية العزوف الشعبي، وتنامي حالة المقاطعة، وتراجع شعبية النظام أساس شرعيته الشعبية، فضلاً عن أن هذه الأحزاب عندما تعلن مخاوفها من مخاطر تراجع المشاركة على الوحدة الوطنية، فإنها تحذّر النظام من تداعيات اتساع هذه المقاطعة، وتحوّلها إلى نوع من الاستفتاءات التي لا يشارك فيها سوى المؤيدين وأنصار النظام والتيار المحافظ، وبالتالي تؤسس لحالة من العصيان المدني تنزع الشرعية الشعبية عن النظام، وتضرب أساس تمثيله. فهل سيتحوّل تاريخ الـ21 من فبراير (شباط) 2020 إلى محطة تاريخية تكشف تراجع قدرة النظام على كشف الشرعية الشعبية؟ خصوصاً إذا ما عجز عن حشد نصف الذين يحق لهم الاقتراع، وعددهم نحو 58 مليون شخص، أي أن تتراجع نسبة المشاركة إلى أقل من 50 في المئة لتكون المرة الأولى في تاريخ الثورة والنظام.