تواجه الجامعة العربية اختباراً صعباً في الفترة الراهنة والمستقبلية متعلقاً بالتحديات والمهام التي تواجهها بشأن أزمات المنطقة، خاصة بعدما أصاب الوهن مؤسسات الأولى نتيجة غياب الإرادة السياسية وصعوبة التوافق العربي، وغياب الرؤية العربية الجَمَعية، إضافة إلى وجود مواقف مسبقة من بعض الدول للإبقاء على الجامعة، كمؤسسة إقليمية في دائرة محددة مع توجيه السهام إليها بشكل دوري وانتقاد فعاليتها، وعدم وجود توجهات عربية جادة لقطع الطريق على الذين يريدون تجميد مؤسسات العمل العربي المشترك، بل وإبقائها في دائرة محددة من الخيارات، خاصة أن المصالح العربية المتباينة والمتجاذبة ألقت بتداعياتها على عمل الجامعة، وصدور قرارات ملزمة وقادرة على التأثير في ظل وجود اتفاق عربي بأن الحالة العربية الراهنة، ووضع النظام الإقليمي العربي المترنح بين الإيجابية الغائبة والسلبية الحاضرة، هو الذي جعل الجامعة العربية تبقى في دائرتها الحالية لا تبارحها.
ملفات مسكوت عنها
ربطت دول عربية فعالية الجامعة بالمطالبة بإعادة تدوير منصب الأمين العام للجامعة، مثلما طرحت الجزائر في وقت معين، وعادت قطر ودول أخرى تروج لهذا الخيار في دوائر من العلن والسرية، كما وقفت الدول العربية عاجزة عن تعديل الميثاق المنظم، الذي ظل جامداً، ولم يتغير طيلة هذه السنوات من عمر الجامعة العربية، بالرغم من أن تطوير وإصلاح نظامها وحده ليس هو الحل، في ظل استمرار النظر إليها على أنها لم تؤد دوراً جوهرياً، وأنها فشلت في الحفاظ على استقلالية القرار العربي في مواجهة التحديات الإقليمية والدولية، وفي إعادة تقديم نفسها وسط المتغيرات الجديدة بالنظام الدولي، التي تعد جزءا من أركانه باعتبارها تعبر عن نظام إقليمي عربي ظل راسخاً لسنوات، ومعبراً عن الدول العربية. حتى عندما تأسست المجالس العربية تباعاً ظلت تعمل من خلال مؤسسات النظام العربي ذاته، ولم تخرج عنه ولم تقدم نفسها على أنها البديل للجامعة العربية التي استمرت في مهامها النظرية دون فعالية حقيقية.
إشكاليات عميقة
المشكلة إذاً، ليست في تعديل الميثاق أو إعادة تدوير المواقع أو إعادة النظر في نظام المحاصصة، وإنما في التحديات الواردة من خارج الإقليم، وهي الأخطر، إذ تدعو إلى إقرار نظام الشرق الأوسط الجديد في مقابل النظام الإقليمي العربي لتدخل دول مثل تركيا وإسرائيل وإيران في قلب النظام الجديد المقترح ليؤسس لمرحلة جديدة من المهام الكبرى لنظام فوق عربي أوسطي مرحلي، لحين إعادة ترسيم الوحدات السياسية والجيواستراتيجية الجديدة في الإقليم، وستشمل كياناً فلسطينياً جديداً، وحُكماً كردياً مختلفاً، وربما أيضاً ستخرج دول أخرى من رحم النظام الإقليمي العربي التقليدي، قد يكون من ليبيا أو العراق أو سوريا أو اليمن؛ أي أن مشروع الوحدة العربية لم يعد له وجود على أرض الواقع، مما سيغير من وقائع السياسات العربية وموقعها الأصيل والنظام الإقليمي العربي ذاته ليفسح المجال أمام نظام جديد، ربما سيكون للدول العربية جزءٌ فيه وليس الهيمنة أو السيطرة، وهو الأمر الخطر بالتأكيد على وضع المؤسسات والمنظمات العربية، وقبل هذا وذاك مستقبل الجامعة العربية كمؤسسة عربية أدت دوراً مهماً في مراحل معينة من التاريخ العربي المعاصر في حل بعض الأزمات والاستمرار في موقعها ولم تغادره.
لكن الجامعة العربية، وبنفس المنطق – ومن منظور آخر- فشلت في القفز على معطيات الواقع الراهن، وعجزت عن الوقوف في مواجهته على اعتبار أن ذلك يحتاج إلى آليات وأدوات غير متوافرة برغم عدم ظهور حالات عربية دعت إلى الخروج من الجامعة، أو تجميد عضويتها. وعلى غرار ما جرى في الاتحاد الأوروبي بخروج بريطانيا لم يشهد في المقابل خروج دولة عربية. حتى مع تجميد عضوية سوريا بقي موقعها شاغراً، كما لم تتجرأ دولة عربية برغم سيل الاعتراضات على الجامعة ومهامها وميثاقها على الخروج من الجامعة، وهو ما تكرر بصورة أو بأخرى مع الحالة القطرية في نطاق مجلس التعاون الخليجي.
برغم ذلك كله، لا يمكن الرهانات على أن الجامعة العربية ستمضي على هذه الصورة خلال السنوات المقبلة، التي تتشكل فيها البنية الجديدة للنظام العربي على أسس جديدة، سواء تمت التسويات المؤقتة في الإقليم وهو أمر وارد وسيتعلق بالأزمات اليمينية والسورية والفلسطينية والليبية. وهو الأمر الذي سيتم في المدى المنظور وبفعل التطورات الهيكلية في الإقليم ومن خلال قاعدة المقايضات الدولية الكبيرة بين الولايات المتحدة وروسيا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فرص متاحة
لن يكون أمام الجامعة العربية مسارات عديدة للعمل، أو التفاعل أو محاولة لعب دور مركزي ظل غائباً لسنوات طويلة، ولا يمكن أن يعاد تشكيل بنية النظام الإقليمي العربي في ظل ما يخطط له إقليمياً ودولياً بوجود الجامعة العربية التي ستواجه بأحد مسارين، الأول، تجاوز الدور التاريخي للجامعة العربية، ووجودها أصلاً مع التوقع أن تبقى الجامعة العربية رمزاً حقيقياً وأملاً كبيراً لاستعادة النظام الإقليمي العربي، وكل مؤسساته وسيظل ذلك حلماً للذين تمنوا دوراً حقيقياً للمؤسسات العربية في ظل التحديات والاختراقات التي تتعرض لها دول الجامعة العربية، ووجود طرف إقليمي ساعياً إلى تطبيق نموذجه على العالم العربي، ولعل الطرح الإيراني والإسرائيلي والتركي يشير وبعمق لما تواجهه الدول العربية ولا تملك الجامعة العربية بدائل حقيقية لمواجهته.
ويتمثل المسار الثاني في الاتجاه إلى بناء أنظمة بديلة وفوق تقليدية تتجاوز البعد العربي وسياقات النظام العربي، الذي عرفه العالم العربي منذ سنوات التأسيس الأولى للجامعة، ومولد نظام عربي واضح بدوله ووحداته السياسية، مما يعني أننا سنكون هنا أمام إما نظام شرق أوسطي جديد، أو نظام عربي إقليمي يصبح فيه النظام العربي جزءاً من نظام عام متعدد الأطراف تدخله دول مثل إثيوبيا وتركيا وإسرائيل وإيران.
منهج جديد
لن تخرج الجامعة العربية من حالة دائرة الفراغ السياسي الراهن إلا من خلال منهاج عمل جديد، لا يتوافر في الوقت الراهن، مع ضرورة العمل على تطوير وإصلاح مؤسسات الجامعة ونظامها الأساس، وإعادة التوازن في أنماط التعامل (العربي – العربي)، وهو ما قد يتم، إنْ خلصت النوايا، وتوحدت الإرادات السياسية غير المتوافرة بدليل اتجاه دول عربية للاستقواء بإيران وتركيا في مواجهة تحديات تراها ماسة بأمنها السياسي. كما لم تعد الجامعة منطلقا لعرض أولويات ومهام دول مثل المغرب والجزائر وتونس، وهو ما يعني أن محاولة الخروج من حالة الوضع الراهن تحتاج إلى شروط حقيقية بعضها يتعلق بالجامعة العربية ميثاقا ومؤسسات ومنظمات، وبعضها بموقف بعض الدول العربية الأخرى، التي تريد أن تُبقي الجامعة العربية في إطارها مجمد نشاطها وفعالياتها، والاستمرار في نهج انتقاد الجامعة وأسلوب عملها وأنها باتت عاجزة عن أداء دورها التاريخي.
جامعة جديدة
هل يمكن اقتراح إنشاء جامعة عربية جديدة بميثاق جديد وفكر عصري ومنهاج حديث مع إعداد كتاب عمل يشمل الأولويات والمهام المطلوبة؟
لقد خرجت الأمم المتحدة من رحم عصبة الأمم المتحدة، ولا تزال مستمرة حتى الآن، فهل يمكن تصور تدشين نظام إقليمي جديد على أنقاض الجامعة العربية، وتأسيس أخرى معاصرة، وإعادة إحياء النظام الإقليمي العربي إلى معطياته بدلا عن الدعوة لإيجاد أنظمة فرعية، أو مجالس للوحدة أو التضامن، ومن ثمّ فإن الاتجاه إلى طرح البديل الفعلي ليس معناه إنهاء وتصفية مؤسسات الجامعة العربية الراهنة بقدر ما يدعونا إلى بناء جامعة عربية حقيقية في مواجهة ما يخطط له دولياً في الاتجاه إلى نظام بديل يعرف بالنظام الشرق أوسطي.
إن أي حديث عن مستقبل الجامعة العربية يجب أن يأخذ بعين الاعتبار عدة أبعاد مهمة، أهمها كيفية رؤية الدول العربية لترتيبات الأمن، ودراسة فكرة إحياء النظام الإقليمي العربي من خلال قراءة واعية لما يجري في المنطقة، بحيث يتم فك الإقليمية العربية عن نظيرتها القومية لمحاولة علاج أوجه الخلل الهيكلي الراهن.