حقق الجنيه المصري ارتفاعات متواصلة على مدار عام كامل حيث ارتفع سعر الصرف مقابل الدولار الأميركي بحوالى 13 في المئة منذ بداية عام 2019، ليصل إلى مستويات 15.5 – 15.6 جنيه مقارنة بمستوى 17.85 جنيه الذي سجله في بداية العام الماضي. ويدعم صعود الجنيه مجموعة من الأساسيات الاقتصادية التي يراها البعض أسهمت في تدفق العملات الأجنبية واستقرار سعر الصرف. بينما يفسر آخرون ذلك الارتفاع المتواصل دون تراجعات إلى تحكم البنك المركزي المصري، من خلال البنوك الحكومية التي تسيطر على الحصة السوقية الأكبر بين البنوك، على سوق الصرف.
تدفقات دولارية
بالنسبة للفريق الذي يعتبر صعود الدولار ناتجاً عن الأساسيات الاقتصادية، فهو يرى السيناريو حسب نمو التدفقات الدولارية لمصر خلال العام الماضي التي صعدت بنسبة 16 في المئة لتصل إلى 95 مليار دولار خلال عام 2019، مقارنة بمستويات 82 مليار دولار في عام 2018، حيث يأتي معظم هذا النمو بفضل تحويلات المصريين العاملين في الخارج.
وقفزت هذه التحويلات إلى 26.5 مليار دولار إذ كانت قد شهدت انحساراً كبيراً قبل تعويم الجنيه المصري في نوفمبر (تشرين الثاني) 2016. هذا إلى جانب إيرادات السياحة، التي وصلت إلى مستويات تقارب فترة ما قبل 2011 حيث سجلت 12.6 مليار دولار خلال العام الماضي.
وعلى صعيد الميزان التجاري، فقد شهد تحسناً ملحوظاً وزيادة كبيرة في قيمة الصادرات التي ارتفعت بشكل ملحوظ لتصل إلى 29 مليار دولار خلال العام الماضي، مقارنة بمستويات أقل من 20 مليار دولار قبل تعويم الجنيه المصري وسيطرة السوق السوداء على تداولات العملات الأجنبية، بينما تبقى إيرادات قناة السويس شبه ثابتة حيث تتراوح بين 5.5 – 6 مليارات دولار سنوياً.
تجارة الفائدة
بالإضافة إلى العوامل الأساسية المذكورة أعلاه، هناك أيضاً الأموال الساخنة التي يضخها تجار الفائدة، التي تنافس تحويلات المصريين بالخارج على المركز الأول من حيث قيمة التدفقات الدولارية، إذ يستفيد هؤلاء المستثمرون من الاقتراض بأسعار فائدة منخفضة من البنوك حول العالم في ظل عودة البنوك المركزية الكبرى إلى سياسات التيسير النقدي، ثم يقرضون الحكومة المصرية بمعدلات فائدة مرتفعة لشراء أذون وسندات الخزانة المصرية، ويربحون بالتالي من الفرق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تحكم بالسوق
أما الفريق المؤيد لسيناريو صعود الجنيه بفضل تحكم البنك المركزي المصري عن طريق البنوك الحكومية في سوق صرف العملات في مصر، فهو يعتمد على الأحداث التي شهدها النصف الثاني من عام 2018 عندما انسحبت الأموال بشكل مكثف من الاستثمار في أذون وسندات الخزانة المصرية، وتمكن "المركزي" من التصدي للأزمة، في الوقت الذي لم تكن فيه الصادرات والسياحة وتحويلات المصريين بالخارج قد تحسنت كما هو الآن.
وقد وصلت استثمارات الأجانب في الديون السيادية المصرية إلى 24 مليار دولار منذ مطلع العام الماضي. وأدى إلغاء البنك المركزي المصري آلية الالتزام بتحويل الأرباح إلى الدولار في ديسمبر (كانون الأول) 2018، إلى دعم قوة الجنيه المصري. كما ساعد على ذلك السماح للأجانب باللجوء إلى سوق الصرف بين البنوك للدخول والخروج لشراء وبيع الأسهم المدرجة بالبورصة المصرية أو أذون وسندات الخزانة الحكومية. ودفع كل ذلك إلى تراجع ظاهرة الدولرة من المواطنين نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة على الإيداع بشكل كبير.
تقديرات مستقبلية
وتتباين تقديرات بيوت الأبحاث لتوقعات سعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار خلال عام 2020 في ظل سيطرة العديد من المتغيرات العالمية والإقليمية على المشهد. وقد توقعت أبحاث فاروس أن يصل متوسط سعر الصرف خلال العام الحالي إلى 16.25 جنيهاً، وأكدت أن زيادة التدفقات الدولارية عن الوضع الحالي قد يدفع به إلى مستوى 15 جنيهاً.
في المقابل، توقع بنك الاستثمار "سي اي كابيتال" أن يصل المتوسط إلى 16 جنيهاً مع إمكانية المراجعة للتخفيض لاحقاً، كذلك اتفقت أبحاث "اتش سي" للأوراق المالية مع تلك التوقعات ورأت أن المتوسط قد يصل إلى 16.3 جنيه.
في المقابل كانت توقعات قطاع البحوث في شعاع لتداول الأوراق المالية أقل تفاؤلاً، وتوقع أن يصل متوسط سعر الصرف إلى 15.5 جنيه على مدار العام، وهو ما اتفق مع توقعات "دويتشه بنك" بأن يصل متوسط سعر الصرف إلى 15.5 جنيه بالنصف الأول من العام على أن ينخفض إلى 15 جنيهاً خلال النصف الثاني من 2020.
خاسرون ورابحون
وهناك قائمة من الرابحين والخاسرين من قوة الجنيه المصري، حيث تتصدر القطاعات التصديرية قائمة الخاسرين، ويأتي ذلك في الوقت الذي لم تستفد فيه من تراجع قيمة الجنيه المصري بعد التعويم في ظل ما يواجهه القطاع الصناعي من تحديات تشغيلية. ويتأكد ذلك من ثبات نسبة قيمة الصادرات إلى إجمالي قيمة المبيعات لدى عينة من الشركات التصديرية المدرجة في البورصة المصرية، التي تفصح عن قوائمها المالية بانتظام، بحسب ما ذكره تقرير صادر حديثاً عن أبحاث فاروس القابضة. وتأتي قطاعات البتروكيماويات والتكرير والأسمدة والحديد في مقدمة تلك القطاعات التصديرية الأكثر تضرراً.
وفي الوقت الذي استفادت منه الصادرات الزراعية وبقوة على مدار ثلاثة أعوام من تعويم الجنيه المصري، إلا أن انخفاض سعر الصرف إلى ما دون 15 جنيهاً مقابل الدولار، قد يبدأ في الانعكاس على قدرتها التنافسية وانخفاض أحجام التصدير خلال الفترة المقبلة.
كذلك استفاد قطاع السياحة من تراجع الجنيه المصري، ولكن تبقى هناك تحديات أمامه مثل ظل سيطرة عوامل أخرى عديدة مثل الأمن والاستقرار وجودة الخدمات وظروف الأسواق السياحية المنافسة على جذب السياح.
ويتصدر المستوردون قائمة الرابحين في ظل ارتفاع قوة الجنيه المصري، إلا أن الضوابط التي تم وضعها أخيراً من زيادة الجمارك على العديد من السلع المستوردة، إضافة إلى رفع قيمة تأمين بطاقة الاستيراد 40 ضعفاً، أخرج العديد من شركات الاستيراد الصغيرة من السوق.
جاذبية الفائدة
تبقى الفائدة في البنوك المصرفية من بين الأكبر عالمياً وسوقها بين الأفضل، بحسب تقرير نشرته وكالة بلومبيرغ أخيراً، حيث أشار التقرير إلى أن التخفيضات الأخيرة في الفائدة التي وصلت إلى 4.5 في المئة منذ فبراير (شباط) 2019 وعلى مدار 12 شهراً لم تؤثر في جاذبية المستثمرين الأجانب لشراء الديون المصرية، التي استفادت من انخفاض الفائدة أيضاً في باقي الأسواق الناشئة المنافسة، وفي مقدمتها تركيا والأرجنتين وروسيا.
وكان المركزي المصري قد أبقى على الفائدة دون تغيير عند مستوى 12.75 في المئة في اجتماعه الأخير قبل أيام، على الرغم من تراجع معدلات التضخم بشكل كبير ووصولها إلى مستويات 7 في المئة، وهو ما يقل بكثير عن المستوى المستهدف للتضخم عند 9 في المئة. ويبدو أن "المركزي" يخشى من أن يؤدي انخفاض الفائدة مع استمرار ارتفاع سعر صرف الجنيه إلى هروب الاستثمارات الساخنة في أدوات الدين، وهو ما قد يضغط على السيولة الدولارية واحتياطي البلاد من النقد الأجنبي.