يجلس ناصر مسترخياً منبسطاً منهمكاً في لعب الطاولة مع صديقه وجاره سيد. يرتشف رشفة طويلة من كوب الشاي "الخمسينة"، ثم يقول بلهجة العارفين العالمين "الستات سبب رئيس في ازدحام الشوارع. أينما يذهبن يتسببن في مشاكل وأزمات. لو التزمن بيوتهن، ثلاثة أرباع مشاكلنا ستنتهي".
ثمّن سيد كلامه، وقال بعد شَدّة نَفَس عميقة من الشيشة المثبتة أمامه "عندك حق. ده غير الذنوب التي يتسببن فيها بمشيهن أمامنا".
حديث المقهى
ما لا يكشفه حديث المقهى، أو رشفة الشاي، أو حتى شّدّة النَفَس، هو أن كلاً من ناصر وسيد تنفق عليهما وعلى مشاريبهما و"كيفهما" امرأة، هي الزوجة المسببة في الازدحام والمُفجِّرة للذنوب.
زوجة ناصر تعمل في الخدمة المنزلية، حيث تنظف ستة بيوت في كل أسبوع. أما زوجة سيد فتعمل في تنظيف وتجهيز وبيع الخضراوات في منطقة الدقي، وتحديداً في شارع متاخم لعدد من الهيئات الحكومية حيث تتعاقد معها الموظفات على تجهيز الخضراوات لطهيها بسهولة في بيوتهن.
ملايين البيوت المصرية تنفق عليها وتبقيها على قيد الحياة أو حتى هامشها، المرأة وحدها، من دون عائل أو معيل أو حتى عيّل. بمعنى آخر، هن أنفسهن هؤلاء المتهمات بالتسبب في الزحام والذنوب واقتناص فرص الرجال في العمل، إلى آخر قائمة الاتهامات الثقافية والعرفية التي يمسك بتلابيبها قطاع عريض من الذكور المصريين، لا سيّما أولئك المستجمّين على المقاهي والرابضين على النواصي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أرقام رسمية
الأرقام الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تشير إلى أن 3.3 مليون أسرة مصرية تعولها نساء، ما يعني أن ما لا يقل عن 15 مليون مصري تطعمهم وتعلّمهم وتأويهم وتضمن بقاءهم على قيد الحياة نساء، من دون إسهام الرجال.
الرجال المتضررون من عمل المرأة ووجودها المؤدي إلى الزحام في الشوارع ووسائل المواصلات، وفرص العمل الشحيحة، يستاؤون ويمتعضون لدى التفوّه بعبارات ناعتة لهذه المرأة أو تلك بأنها "ست بمئة رجل". يقولون إن "الست ست والراجل راجل" وإن "ما يفعله الرجال لا تستطيع النساء فعله"، وإن استقواء المرأة بأفكار نسويّة أو تعلقها بأفكار غربية أفسد العقول وأضاع هيبة الرجال.
أفكار ذكورية
لكن الواقع يشير إلى أنه لا العقول فسدت ولا هيبة بعض الرجال تبددت بفعل أفكار نسوية كما يُشاع، بل بفعل أفكار ذكورية اكتفت بالنمو والازدهار والتمدّد في أجواء افتراضية لا وجود لها على أرض الواقع. أجواء الهروب من المسؤولية، وفضاءات التمسك بتلابيب "سي السيد" الآمر الناهي وقت كان راعي البيت مادياً ورمز ثباته معنوياً سقطت سقوطاً مدوياً. فواتير الكهرباء والماء، وكلفة العلاج والتعليم، وإيجار البيت، وما يستجدّ من طوارئ وكوارث، لم تنتظر هيبة "سي السيد" حتى تعود أو الإحساس بالمسؤولية حتى يستيقظ.
"استيقظت ذات صباح لأجد مسؤولية خمسة أشخاص في رقبتي. ديون متراكمة، أمي المريضة وفاتورة علاجها، وثلاثة أبناء في مراحل التعليم المختلفة، وزوج بائس يعمل يوماً ويتوقف عشرة، فقررت أن أبحث عن أي عمل لأنهي انتظار تحسن الأحوال، والذي طال ما يزيد على عشر سنوات هي عمر الزواج". وتستكمل محاسن قصتها كامرأة معيلة، والتي بدأت قبل ثلاثة أعوام حين انخرطت في منظومة تنظيف الشقق السكنية واسعة الانتشار. تقول إنها في البداية تخوّفت من القيل والقال بين الجيران والأهل والمعارف، لكن بعد مرور أسابيع قليلة قررت أن تسدّ أذنيها تماماً وتلتفت إلى عملها الذي يدرّ دخلاً معقولاً، تقسمه بين مصروفات البيت والأولاد والتعليم وعلاج والدتها، بالإضافة إلى مصروف الزوج الذي تقول محاسن إنه "استحلى الحكاية، وحتى اليوم الذي كان يعمله توقف عنه".
شراء رجل
تقول محاسن إنها ليست مضطرة إلى الإنفاق على زوجها، لكنها قررت أن تشتري وجود رجل في البيت في مقابل الإنفاق عليه وعلى إقامته شبه المستمرة في المقهى، أو كما تصف الوضع بمنتهى البلاغة "المصروف في مقابل الكيان الأسري".
الكيان الأسري الذي تحافظ عليه محاسن عبر التغاضي عن بلادة الزوج وتخليه الكامل عن مسؤولياته يتخذ أشكالاً وأنواعاً متعددة. وإذا كانت قايضت بقاء زوجها كواجهة تقي أسرتها شرور القيل والقال، لا سيّما أن "خلفتها كلها بنات" في مقابل الإنفاق عليه، فإن منال عرضت مالاً على زوجها في مقابل أن يطلّقها ويتركها تعمل وتنفق على أبنائهما الأربعة بعدما سقط في براثن إدمان المخدرات. تقول إن زوجها كان يعمل سائقاً لكنه فقد عمله بعد أكثر من حادث سير بسبب تعاطيه المخدرات، وتشير إلى إنه رفض العلاج، وبدأ يعتدي بالضرب عليها وعلى الأبناء في ظل عدم وجود المال الكافي لشراء احتياجه من المخدر.
تضيف "أقنعتني السيدة التي كنت أعمل في بيتها ثلاثة أيام أسبوعياً أن أطلب الطلاق في مقابل دفع مبلغ من المال له، وقد وافق على الفور، أما أنا فاتخذت احتياطاتي وغيّرت محل السكن، إلا أنني للأسف في كل مرة أحتاج فيها لإنهاء إجراءات رسمية خاصة بالأولاد يتوجب عليّ الاتصال به، لأن القوانين لا تعترف إلا بالرجل، وفي كل مرة أشتري إمضاءه أو قيامه بمشوار رسمي بمقابل مادي".
منال أصبحت تعمل سبعة أيام في الأسبوع في تنظيف الشقق السكنية، بالإضافة إلى بعض الأعمال الصغيرة مثل تنظيف الخضراوات أو تطريز الفساتين، وذلك حسب الوقت والمجهود.
الأمية لا تأتي منفردة
محاسن ومنال تمثلان الأغلبية بين نساء مصر المعيلات، وكلتاهما تعاني الأمية، وبالتالي تزوجت من رجل أميّ أو شبه أميّ، والأمية لا تأتي منفردة، بل معها فقر موروث، أضيفت إليهما في العقود الأخيرة زلازل وبراكين ألقت بظلال وخيمة على منظومة الأسرة، فلم تعد الأميّة دافعاً للأب ليقي أبناءه شرورها، ولم يعد مفهوم الأسرة، لا سيما بالنسبة إلى الأزواج، يعني مسؤولية. تداخل القيم وتشابك المفاهيم دفعت الكثيرين إلى الزواج لأن المجتمع يتوقع منهم الزواج، لكن ما يأتي ضمن الزواج من تحمل مسؤوليات ونحت في الصخر من أجل الارتقاء بمستوى الأسرة من حيث نوعية المعيشة وطريقة التربية وأسلوب التنشئة لم تعد أولويات.
ورغم هذا التدهور والخيبة، فإن مفهوم هذه الفئة من الأزواج لم يتخلَ قيد أنملة عن فكرة فوقيته الذكورية. إقامته لساعات في المقهى، وتمضية الوقت بين الشيشة والشاي والسحلب، وربما بعض من مواد مخدرة، وسداد الحساب من جيب الزوجة لا تخدش ذكوريته أو فحولته، لكنها أيضاً لا ترفع من دونية المرأة أو استمرار التعامل معها باعتبارها كائناً ناقصاً وعقلاً قاصراً.
أميّة وحظوظ
وبحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن 60 في المئة من نساء مصر المعيلات أميات. بمعنى آخر، فإن أمية المرأة لها علاقة مباشرة بحظوظها المستقبلية من حيث الزواج والأسرة واضطرارها إلى القيام بمهمتي الأب والأم في آن، شرط ألا ينال ذلك من مكانة الزوج الفوقية.
وتأتي بعد النساء الأميات في تعداد المعيلات الحاصلات على مؤهلات متوسطة بنسبة 17.6 في المئة، ثم الحاصلات على مؤهل جامعي 8.5 في المئة، والنسبة الباقية لصاحبات المؤهلات التعليمية الأعلى.
صاحبة درجة الدكتوراه والأستاذة الجامعية المرموقة سهى، 52 عاماً، نموذج غير تقليدي للمرأة المعيلة، طلبت الطلاق من زوجها الطبيب المشهور بعد خمسة أعوام من الزواج، بعدما طالبها بالاستقالة من الجامعة، والتفرغ للبيت. رفضت وأصرّت على موقفها، وحين احتدم الأمر طلبت منه الطلاق، فوافق شريطة ألا تطالبه بأي نفقات أو مصروفات للابنين كنوع من التعجيز. وافقت، ومضى إلى حال سبيله وتزوج بأخرى، وتفرغت هي لعملها وتربية الولدين. أنفقت ميراثها بالكامل على تعليمهما حتى تخرجا في جامعة مرموقة في الولايات المتحدة، وتدرجت في الوظائف في مصر حتى وصلت أرقاها، كما تعمل أستاذاً زائراً في جامعات أوروبية وأميركية بين الحين والآخر.
معيلة غير نمطية
تقول عن نفسها بفخر "الصورة النمطية للأم المعيلة هي تلك العاملة البسيطة التي تضطر إلى أن تكون العائل الوحيد للأسرة، وهي تستحق من الجميع كل التحية. لكن هناك أيضاً الكثيرات من النساء المعيلات من الطبقات الاجتماعية الأخرى. تدفعهن ظروف الحياة، سواء مرض الزوج أو وفاته أو انعدام شعوره بالمسؤولية أو تعنته، إلى القيام بهذا الدور العظيم. والحقيقة أن المرأة تكون أكثر قوة وقدرة على العمل الشاق، سواء كان جسدياً أو ذهنياً، حين يكون لديها رسالة وهدف يتعلق بأبنائها وتكون على يقين بأنها في حال استسلمت لليأس أو الإحباط أو حتى الصورة النمطية التي يعشق المجتمع حبسها فيها باعتبارها ضعيفة ومكسورة الجناح وغير قادرة على أن تكون واحداً صحيحاً".
الواحد الصحيح في مصر يقدر رسمياً بـ3.3 مليون امرأة وفتاة هن رؤوس أسرهن، وأغلب الظن أن عددهن أكثر من ذلك بكثير، لكن قصصهن وحكاياتهن تمضي من دون أن يدركن هن أنفسهن أنهن البطلات المعيلات القائمات بعشرات الأدوار من دون أن يلحظ أحد ومن دون أن يتوقفن لالتقاط الأنفاس أو استعراض البطولات.
مكان آخر في الكوكب
وفي الوقت نفسه، وفي مكان آخر على الكوكب، يمضى القائمون على أمر المجتمع قدماً، حيث ناصر وسيد وأمثالهما ملايين يرتشفون الشاي ويشدون أنفاساً من الشيشة قبل أن يصبّون غضبهم على النساء ويلعنون اليوم الذي نزلت فيه المرأة من بيتها لتزاحمهم، وبعد صبّ الغضب وتوجيه اللعنات يعودون إلى بيوتهم ليقتسموا مع نسائهم قوت يومهن لتمويل شاي وشيشة اليوم التالي.
وفي الوقت نفسه أيضاً، نماذج أخرى لرجال اضطرتهم الظروف إلى تبديل الأدوار تحت وطأة مرض أو عجز، لكنهم يكنّون الاحترام ويعترفون بما تقوم به الزوجة أو الابنة من أعباء مضاعفة. فريق ثالث يمضي هو الآخر قدماً حيث دقّ على أوتار تفسيرات دينية مغلوطة وإصرار على حبس المرأة في سجون ترتدي عباءة الدين، ولكنها عباءات ذكورية في حقيقتها. ولا يزال مشايخ على المنابر يفتون ويلمحون إلى دونية المرأة، ونقصانها العقلي، وعورتها الجسدية، وهو ما يساعد على تقوية شوكة الرجال الرابضين في المقاهي بتمويل كليّ من النساء "الناقصات العورات صاحبات الدرجة الثانية في الترتيب الهرمي للرقي البشري".
تمويل ودعم
وفي سياق حكومي، دأبت الحكومات المتعاقبة على مدار العقود الأربعة الماضية على إيلاء الاهتمام للمرأة المعيلة، سواء بتخصيص القروض والمشروعات لدعمهن وتمكينهن، أو بتكريمهن والاعتراف بأدوارهن العظيمة، لا سيما في تكريمات عيدي المرأة المصرية والأم.
وتنشط هذه الأيام فعاليات صندوق "تحيا مصر" الموجهة للمرأة المصرية المعيلة في كل مدن وقرى مصر. عدد كبير من المصارف الحكومية والخاصة يموّل مشروعات موجهة لهؤلاء النساء والفتيات، منها قرض "مستورة" الذي يقدمه "بنك ناصر الاجتماعي" بالتعاون مع الصندوق، ومشروع "بدايتي" الذي يقدمه البنك الزراعي المصري للمرأة المعيلة أيضاً بهدف تعميق قدرتها على الاستفادة وتمويل مشروعتها الصغيرة ومتناهية الصغر في مجالات الزراعة والصناعة والأعمال الحرفية والخدمية، وغيرها كثير.
يشار إلى أن صندوق "تحيا مصر" تأسس في يوليو (تموز) عام 2014 بهدف المساعدة في النمو الاقتصادي المستمر والشامل والحدّ من الفقر عبر تلبية احتياجات الفئات الأكثر فقراً، وعقد شراكات بين القطاعات المحلية والإقليمية والدولية كمدخل للتنمية المستدامة، وجاءت الفكرة بعد إعلان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في 24 يونيو (حزيران) عام 2014 تنازله عن نصف راتبه البالغ نحو 42 ألف جنيه مصري (نحو 5900 دولار أميركي) بالإضافة إلى نصف ثروته لصالح مصر، وذلك في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها مصر، مطالباً المصريين ببذل الجهد والتكاتف لمساعدة بلدهم.
الكثيرات من المعيلات لا يلجأن إلى هذه المشروعات، سواء لأنهن ينتمين لطبقات اجتماعية وتعليمية تجعلهن يعلن أسرهن عبر وظائف وأعمال جامعية وهندسية ومحاسبية وقانونية وغيرها، لكن جميعهن يبقى حاملاً لقب ومكانة وتكريماً اسمه "المرأة المعيلة".