ما الذي تعنيه لفظة "دبلوماسية"؟ بحسب الموسوعات الكبرى، تعني علم وإدارة التواصل بين الدول، بدءاً من الصفقات التجارية إلى توقيع المعاهدات الدولية، ويقوم عليها طاقم محترف من الدبلوماسيين. والكلمة في أصلها مأخوذة من الأصل اللاتيني "Diploma"، والتي تعني وثيقة رسمية، وهذه بدورها جذورها يونانية، وتفيد "الورقة المطوية"، والتي كنا نشاهدها في مكاتبات الأولين، لا سيما في القرون الوسطى.
وقد عرف العالم أشكالاً محدثة من الدبلوماسية، ففي بداية سبعينيات القرن العشرين، ومن أجل إنهاء الصراع العربي- الإسرائيلي، قام وزير خارجية أميركا ومستشارها للأمن القومي، هنري كيسنجر، بما عرف بدبلوماسية الجولات المكوكية بين عدد من دول المنطقة.
ولعله من عجب الأقدار، أن يكون كيسنجر عينه، هو صاحب دبلوماسية "البنغ بونغ"، تلك التي فتحت مسارات ومساقات جديدة، بين الولايات المتحدة وجمهورية الصين الشعبية، والتي كانت فتحاً بين الدولتين، في زمن الحرب الباردة، والمواجهة بين حلف الناتو ومعادله الاستراتيجي حلف وارسو.
التساؤل المطروح الآن على مائدة النقاش الفكري: هل أصبحنا في زمن دبلوماسية الأوبئة، كإفراز معرفي جديد، طرح جانباً الكثير من القضايا والملفات الساخنة، وبات هو حديث الساعة المخيم والمقيم، لا سيما بين الصين وروسيا من جهة، والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية من جهة ثانية؟ وهل سيسهم هذا المفهوم الجديد في تقريب الأطراف المتنازعة، والتوصل من ثم إلى مواءمات سياسية، إذا كان في حقيقته يحمل مضامين إيجابية، أم أنه استعراض دعائي، وربما الأسوأ الذي يمكن أن يمضي في طريق الإذلال الجيوسياسي، سيما وأن خلف أبواب التاريخ أكثر من ثأر قديم، وبخاصة بين الروس والغرب دفعة واحدة؟
عن الناتو وآسيا... قبل كورونا
لا يمكن الحديث عن مشهد الوباء بمعزل عن شكل العلاقات ما بين الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين بنوع متميز، وكذا بين الولايات المتحدة والقطبين الآسيويين الكبيرين، أي أننا قد عدنا إلى دائرة الناتو، وما هو قريب من وارسو مرة أخرى.
باختصار، بدا المشهد وقبل ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أي موعد انعقاد قمة حلف الناتو في العاصمة البريطانية لندن، مثيراً لقلق واشنطن، فقد كانت هناك خطوات تقارب واضحة بين أوروبا، وبنوع خاص فرنسا قلب "القارة العجوز"، وألمانيا محركها الاقتصادي المتميز، وبين الجانبين الروسي والصيني.
بل أكثر من ذلك، إذ مضت إيطاليا في مسيرة شراكة مع الصين، أزعجت الأوروبيين، والذين اعتبروها متحالفة مع بكين لجذب استثمارات، والتنكر للاتحاد الأوروبي.
على أنه، ومرة واحدة، استطاع دونالد ترمب إثارة الشكوك، وإفشاء الهواجس، ناحية روسيا والصين، ما أعطى قبلة الحياة من جديد للناتو.
غير أن أحداً لم يكن يدري أن الاتحاد برمته، والشراكة العضوية مع أميركا، ستضحى أمام اختبار قاسٍ يدعى كورونا عما قريب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قارعة الفيروس تضرب أوروبا
ضربت قارعة كورونا إيطاليا مرة واحدة ومن غير مقدمات، وبدا العجز الإيطالي الداخلي واضحاً للإيطاليين أنفسهم، وفاضحاً لدور الاتحاد الأوروبي في استنقاذ شركاء لهم، وعلى العكس مما هو متوقع، وجدنا إغلاقاً للحدود، وربما للقلوب، قبل أن يضنّ الفرنسيون والألمان على الجانب الإيطالي بالمستلزمات الطبية، من ملابس وأدوات وأجهزة، ناهيك بخطة أوليّة صحية على الأقل لإغاثة أشقاء أوروبيين، أو هكذا كان المأمول في مفهوم وشراكة "الشنغن".
مهما يكن من أمر، فإنه لا يمكن القطع بالأسباب الأصيلة التي دفعت بقية دول أوروبا، أول مشهد كورونا، إلى التصرف على مثل هذا النحو الشائه، والذي لم يقتصر على إيطاليا، بل امتد إلى إسبانيا، وبعض الدول السلافية مثل الصرب، وهل كان متعمداً، أم أنه حصل بسبب الارتباك والفوضى، اللذين عمّا القارة القديمة في بدايات تفشي الوباء المستجد، غبر المعروفة أبعاده؟
والثابت أنه في العمق من الأزمة يتذكر المرء التعبير العربي "صاحب الحاجة أرعن"، بالإضافة إلى المثل التقليدي "الغريق يتعلق بقشة"، لتظهر روسيا والصين، في خلفية المشهد الأوروبي.
من بكين إلى روما وغيرها
حين حظر الألمان تصدير الأقنعة والقفازات وغيرها من المستلزمات إلى إيطاليا، الدولة الثالثة في ترتيب اقتصادات أوروبا، وجدت روما نفسها أمام خيار لا يصدّ ولا يردّ: أن تولي وجهها شطر الشرق الآسيوي.
بحلول الثاني عشر من مارس (آذار) الماضي، كانت الصين ترسل فريقاً من تسعة أشخاص من الصليب الأحمر الصيني، ونحو 30 طناً من الإمدادات الطبية.
أبدى الإيطاليون تقديراً كبيراً للمساعدات الصينية، فقد أشار رئيس الصليب الأحمر الإيطالي "فرانشيسكو روكان"، إلى أن الشحنة كشفت عن قوة التضامن الدولي، وهو تعبير يقرأ على وجهين: إظهار التضامن الآسيوي من جهة، والإشارة إلى القصور الأوروبي من ناحية ثانية، ولا تزال المساعدات الصينية تتدفق على إيطاليا.
لم تكن مساعدات الصين قاصرة على إيطاليا فقط، فقد أرسلت بكين لاحقاً طائرة محملة بـ 8 أطنان من المعدات الطبية إلى اليونان.
ولعل ما صرح به السفير الصيني في اليونان، يوضح لنا كيف أن الصينيين يقدّرون لأرجلهم قبل الخطو موضعها، ومن عينة ذلك استدعاؤه لما قاله فيلسوف أثينا الأشهر "أرسطو" من أن "الصديق روح واحدة تعيش في جسدين"، وأن "الأصدقاء الحقيقيين يظهرون في الأوقات الصعبة".
الأمر عينه جرت به المقادير الصينية مع صربيا، وإسبانيا، وجمهورية التشيك.
لم تكن مساعدات الصين موجهة إلى الصف المتأخر من دول أوروبا، بل نالت دولٌ من الفئة الأولى، إن جاز التصنيف، كفرنسا وبلجيكا، نصيباً من مساعدات الصينيين، والمثير أنه فيما بولندا تهيئ أراضيها لنشر الدرع الصاروخية الأميركية لمواجهة روسيا والصين، لم يجد البولنديون سوى الصين لترسل لهم عشرات الآلاف من المواد الواقية، ونحو عشرة آلاف مجموعة فحص فيروس كورونا.
هل قدمت الصين ما قدمته مجاناً، بوصفها "السامري الصالح"، الذي يستنقذ الجريح على الطريق، أم أن لها ضمن رؤاها الإمبراطورية مآرب أخر، سخّرت "دبلوماسية الوباء" لتحقيقها؟
سلاح الأقنعة والنفوذ الجيوسياسي
المؤكد أنه لا شيء مجاني في عالم الدبلوماسية، فحين سعى كيسنجر إلى وقف إطلاق النار في أعقاب حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، كان يسعى لتوفير قدر كبير من الحماية لإسرائيل التي تعرضت لحرب صاعقة من الجانب المصري، وفي الطريق إلى الصين عبر لعبة "البنغ بونغ"، كان هدفه الرئيس عزلها عن الاتحاد السوفياتي.
هنا يكتب المحلل في المعهد البولندي للعلاقات الدولية، مارتن برجيهوديناك، مشيراً إلى أن ما نطلق عليه "دبلوماسية الوباء"، يحمل في طياته، ما هو أبعد من مجرد تقديم مساعدات طارئة لقارة موبوءة، إذ يتحدث عن دوافع سياسية واقتصادية وراء خطوات بكين، وعنده أنه لضمان الإمدادات من الصين، على الحكومات الأوروبية العمل مباشرة مع السلطات الصينية، وربما ضمن شروط سياسية معينة.
يطرح مشهد المساعدات الصينية لأوروبا علامة استفهام جذرية: هل تدرأ حكومة الرئيس الصيني "شي جين بينغ"، خطراً محدقاً يحوم حول مشروعها لبناء قيادة دولية في العقود المقبلة، تبدأ من عند الشراكة المؤكدة اليوم مع العالم القديم بجناحيه الأوروبي والأميركي؟
يبدو مؤكداً أيضا في هذا المجال، أن الصينيين بإسراعهم لتقديم الإسعافات الطبية واللوجستية للأوروبيين، إنما يصرفون الانتباه أول الأمر عن الأخطاء المميتة وليس العرضية التي ارتكبوها، من خلال محاولة التكتم على المشهد الوبائي الذي ساد في مدينة "ووهان"، ومنها انتشر إلى الخارج، ليلفّ العالم في بضعة أشهر.
الأمر الآخر الذي يمكننا من قراءة "دبلوماسية الوباء"، هو العمل الصيني الحثيث، الساعي إلى تعميق العلاقة مع أوروبا، على حساب الاختصام من متانة العلاقات بين بروكسيل وواشنطن... هل هي مساعدات "طروادية" إن جاز التعبير؟
لننتظر الجواب لاحقا، وبعد المرور على المشهد الروسي- الأوروبي بدوره.
روسيا - إيطاليا والصفح الجميل
يستدعي المشهد الروسي- الإيطالي تساؤلات جذرية عن حقيقة "الصفح الروسي الجميل"، إن استقام المعنى، تجاه إيطاليا، والتي تشارك كجزء من أوروبا في فرض عقوبات على روسيا، منذ ضم بوتين شبه جزيرة القرم.
مع أواخر شهر مارس (آذار) الماضي، كانت روسيا قد أرسلت طائرات عملاقة عدة، تقلّ خبراء ومساعدات إلى إيطاليا، تظهر ما اعتبره البعض "قوتها الناعمة".
ولعل المثير فيمن أرسلتهم موسكو إلى روما من خبراء، والذين يعدون نحو المئة، أن جلّهم، إن لم يكونوا عن بكرة أبيهم، سبق وتم إرسالهم إلى أفريقيا، لمواجهة أوبئة انتشرت هناك، كما أسهموا في تطوير لقاح لوباء إبيولا، حسب ما أعلنت وزرة الدفاع الروسية.
"دبلوماسية الوباء" الروسية، تجيء ضمن سياق الاستراتيجية الروسية، تلك التي يشرح أبعادها المحلل السياسي ألكسي مالاشنكو، حيث يعتبر أن الرئيس بوتين سجل انتصاراً، انطلاقاً من أنه أولاً عمل إنساني، وثانياً يوحي المشهد بأن العقوبات على روسيا غير مناسبة، وأنه رغم علاقاتها الجيوسياسية المعقدة مع الغرب، فإن روسيا تتصرف بشكل يتوافق مع تقليد التضامن الدولي، الذي تعتمده منذ الحقبة السوفياتية.
يحمل إلينا هذا الشكل الجديد من أشكال الدبلوماسية تساؤلاً مثيراً حول المساعدات الروسية لإيطاليا، وهل هي بالفعل كما يروّج لها الإعلام الروسي، لا سيما الموالي منه لبوتين، أم أن وراء الأكمة ما وراءها؟
الظاهر للعيان، وهذا ما نشرته صحيفة "فزغلياد" الروسية، أن الروس يتحدثون عن ضرورة وضع دول العالم خلافاتهم جانباً في خضم هذه الأزمة، وبخاصة أن الفيروس لا يعترف بالحدود الجغرافية والخوف منه يوحد الجميع.
الصحيفة الروسية قارنت هذا الوباء بالحرب العالمية الثانية، ثم بالحرب ضد الإرهاب الدولي، فالحرب ضد هتلر وحدّت الأنجلوساكسونيين والروس، الذين كانت بينهم عداوة، ولم يكن ذلك لأن هتلر كان يمثل شراً مطلقاً، وإنما لأن انتصاره مثّل تهديداً على وجود الاتحاد السوفياتي والإمبراطورية البريطانية.
على أن الذين شاهدوا حجم وضخامة الطائرات الروسية التي أرسلت إلى إيطاليا، والتجهيزات التي حملتها، والمستوى الرفيع للخبراء الروس الذين أرسلهم بوتين، بهدف ظاهر هو مساعدة الإيطاليين في القضاء على الفيروس ورغم أنهم قدّموا عملاً كبيراً بالفعل، ساعد في مواجهة كورونا، إلا أن المشهد استدعى تساؤلات غير بريئة حول ما إذا كان في الأمر محاولة روسية مبطنة، لقياس قدرات أوروبا، على مواجهة مع روسيا حال الاشتباك العسكري، والجميع يعلم أن إيطاليا قاعدة متقدمة للناتو في أوروبا.
في كتابه الصادر حديثاً بعنوان "حرب بوتين الخفية: كيف يزعزع بوتين استقرار الغرب"، يفكّك الخبير الألماني في الشؤون الروسية، بوريس رايتشوستر، استراتيجيات وأدوات الحرب الخفية، التي يشنها سيد الكرملين ضد الدول الغربية عامة، وضد ألمانيا بخاصة، بهدف زعزعة استقرارها السياسي، وتقويض شرعية ديمقراطياتها.
في هذا الكتاب يرصد رايتشوستر، تأثير شبكات البروباغندا الروسية في دول الاتحاد الأوروبي المناهضة لما يراه بعض المحافظين الأوروبيين سياسات توسعية، كما يكشف عن أخطار تغلغل ما أطلق عليه "طابور الكرملين الخامس"، في مؤسسات الدولة الألمانية، وتداعيات ذلك على الاستقرار السياسي والاجتماعي للبلاد على المدى المتوسط والبعيد.
هل كانت "دبلوماسية الوباء" أداة روسية تقدمية ترتب أورقاً استشرافية لقادم الأيام، عطفاً على تعميق الشرخ في جدار النسيج الأوروبي؟
في واقع الحال، لا يمكن لأي متابع محقق ومدقق لعقل بوتين وأفكاره، بل ومكنونات صدره، أن ينسى أن الرجل يحمل بين حنايا أضلعه ثأراً لطالما تحدث عنه، يختص بما جرى للاتحاد السوفياتي في نهايات القرن العشرين، والمهانة التي تعرض لها الروس من قبل الأوروبيين، وكذا الأميركيين، فهل هذا هو وقت إدخال حصان طروادة الروسي أيضاً إلى قلب الاتحاد الأوروبي للاقتصاص التاريخي؟
الدب الروسي في بلاد العم سام
يبقى القيصر صائداً ماهراً بالفعل، يعرف كيف ومتى يطارد فريسته، وإذ يترقبها من بعيد، فإنه يتحيّن اللحظة المناسبة، والتي تكون فيها قد أرهقت من الجري من صياد آخر.
بوتين اليوم، يكاد يكون قراءة في المعكوس، لفكر الكابتن مورجان، القرصان الأميركي الأشهر، ذاك الذي لم يكن شغله الشاغل الإغارة على السفن أو المراكب الصغيرة، بل كان يتحين الفرصة ليترصّد القراصنة العائدين من غاراتهم البحرية، ليجرّدهم من غنائمهم، وليحقق بذلك أكبر مكاسب بأقل تكاليف.
هل كانت "دبلوماسية الوباء" الروسية، مدخلاً إلى القلب الأميركي، حيث النسر الذي اعتاد أن يحلّق في الفضاء عالياً، أجبرته كورونا على الاستسلام، ولو إلى حين؟
نهار الثاني من أبريل (نيسان) الحالي، كان الرئيس ترمب، الساكن تحت ضغوطات رهيبة في البيت الأبيض يصرح بأن روسيا أرسلت طائرة كبيرة جداً لبلاده، تحتوي على العديد من الأشياء والمعدات الطبية.
اعتبر ترمب البادرة الروسية "لطيفة جداً".
التصريح الترمبي غامض، ذلك أنه لم يوضح ما هي المعدات التي أرسلها الروس لبلاده، ومن أين جاءت المبادرة في الأصل، من الكرملين أم من البيت الأبيض؟
التزم ترمب الصمت، لكن "نتاليا ماكاروفا" و"ميخائيل موشكين"، من صحيفة "فزغلياد" الروسية حسما الأمر، وذلك بإشارتهما إلى أن دونالد ترمب هو من قبل عرض بوتين تقديم مساعدة طبية لأميركا، لمواجهة جائحة فيروس كورونا.
أصحاب التوجه الإيجابي، يقرؤون التاريخ بوصفه فردوساً للأطهار، من عينة الأستاذ المساعد في كلية الفلسفة بجامعة موسكو الحكومية، الباحث في الشؤون الأميركية، بوريس ميجوييف، والذي يرى أن "العالم لن يتجه الآن نحو الأنانية الوطنية، لأن ذلك النوع من الأنانية سيُدان بوصفه مصدراً رئيساً لجميع المصائب".
لكن رأياً آخر من آراء الذين يرون في التاريخ مؤامرة مستمرة ومستقرة، يظهر على السطح من خلال تصريحات الباحث في الشؤون الأميركية، والخبير في مركز الدراسات الأمنية التابع لأكاديمية العلوم الروسية، قسطنطين بلوخين، يميل إلى أن بوتين عمّق الشقاق والفراق القائم على صعيد الحياة السياسية الأميركية، وبين الأميركيين بعضهم البعض... كيف، وهل فعل ذلك عن قصد، ما يعني أن "دبلوماسية الوباء"، لم تكن محبة وكرامة وتفضلاً إنسانياً من الروس؟
يدرك الأميركيون أن هناك أزمة طبية كارثية على أراضيهم، ولهذا فإذا رفض ترمب قبول المساعدة الروسية، فسيتم إلقاء اللوم عليه، وسيقول الفريق المناوئ له إنه في ظل هذا الوضع الكارثي والمأساوي والكارثي، فإن الرئيس لا يريد قبول الطائرة الروسية، أي أنه لم يفعل كل ما في وسعه لمحاربة الوباء.
لكن، ومن ناحية ثانية، إن استقبل ترمب الطائرة، فساعتها سيجد من بين الديمقراطيين على نحو خاص، من يقرّعه، بل ويعيد فتح ملفاته القديمة، لا سيما "روسيا- غيت"، وسيكون قبوله للمساعدة من الروس، أمراً كارثياً، وبخاصة لأنه سيظهره في مظهر إيطاليا، الدولة غير القادرة على حماية نفسها، الأمر الذي لا يليق بالقوة الإمبراطورية المعتبرة، ولو مجازاً، الأولى حول العالم في شكله المعاصر.
وفي كل الأحوال يبقى من الصعب الحكم على نوايا القيصر بالنسبة إلى الولايات المتحدة، لكن من غير أدنى شك فإن الحقيقة، وكما يقال باللاتينية، تأتي في وضع متوسط بين تطرفين، ما يعني أن "دبلوماسية الوباء"، المستجدّة، تفتح الباب لقراءات متعددة ومتباينة، ولسوف تتضح أهدافها بعد أن تحطّ كورونا أوزارها وتحلّ رحالها.
كورونا أرحم من الروس
فوجئ الأوروبيون قبل نحو أسبوعين تقريباً بتصريحات قاسية، من جانب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حملت بعضها تصريحاً وتلميحاً، دلالات بأن التعرض لكورونا، ربما يكون أكثر أمناً وأماناً من التصديق بأن روسيا أو الصين يمكن أن تكون نواياهما خالصة لمساعدة الأوروبيين.
يرفض ماكرون، وتشاركه المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، في ذلك، ما تعرّض له الاتحاد الأوروبي، ممثلاً في صورة "أورسولا ديرلين"، رئيسة المفوضية، والمدير التنفيذي للاتحاد، من إذلال اضطرها إلى الانحناء للصينيين، الذين جادوا على الأوروبيين بمليوني قناع طبي، و50 ألف جهاز اختبار، رغم أنه في يناير (كانون الثاني) الماضي، تبرّع الاتحاد الأوروبي بخمسين طن من أقنعة "أن -95"، و20 الف قناع طبي، ومعدات للصين.
ماكرون، وفي حديث ساخن لصحف إيطالية عدة، بدا وكأنه يوبّخ الإيطاليين، بقوله إن "فرنسا تقف إلى جانب إيطاليا"، ويضيف "هناك حديث كثير عن مساعدات من الصين وروسيا، ولكن لماذا لا نقول إن فرنسا وألمانيا وفرتا مليوني كمامة وعشرات الآلاف من السترات لإيطاليا".
كشفت "دبلوماسية الوباء" أن حزازات الصدور الأوروبية جهة روسيا، لا تزال قائمة حتى الساعة، فعلى سبيل المثال، في الوقت الذي دافع فيه وزير الخارجية الإيطالي، لويجي دي مايو، عن المساعدات التي حصلت عليها بلاده من روسيا، نفى الكرملين أن تكون المعونة المقدمة لإيطاليا، الملصقة عليها قلوب ملونة بالأعلام الروسية الإيطالية، مشروطة بمقابل من الدبلوماسية الإيطالية.
لم يعر مسؤولو الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، أي أهمية للنفي الروسي، بل رأوا أن المساعدات أكثر من مجرد بادرة حسن نية، وأنها خطوة جيوسياسية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتوسيع نفوذه.
الخلاصة
أثبتت "دبلوماسية الوباء" أن الفجوة في الثقة بين مراكز صناعة القرار حول العالم تتسع، والهوة تتعمق فيما بينهم، وبحسب خبير الجغرافيا السياسية الإيطالي الشهير، مانيلو دينوتشي، فإن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ربما يتخاصمان، لكنهما في نهاية المطاف سيتحدان في مواجهة روسيا والصين.
واشنطن وبروكسيل تدركان أن موسكو وبكين تسعيان لصناعة وصياغة عالم جديد متعدد الأقطاب، يكون لهما فيه نفوذ بالغ وحضور كبير.
على سبيل المثال، هما يتعاونان على تطوير "طريق الحرير الجديد"، من خلال تضافر جهود نحو 70 دولة في آسيا وأوروبا وأفريقيا، ما رأى فيه 27 من أصل 28 سفيراً من الاتحاد الأوربي في بكين باستثناء المجر، انتهاكاً للتجارة الحرة في أوروبا، والدعوة لتقسيمها لاحقاً، أي تفكيك الاتحاد الأوروبي في نهاية المشهد.
"دبلوماسية الوباء" أكدت من جديد أن الأزمة لا تخصّ مجموعة الـG7 أو السبعة الكبار وحدهم، وكذلك تتجاوز حدود دول العشرين، إنها تصنع النظام العالمي، الذي لا يزال، تجاوزاً، يعتبر غربياً منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، أمام حقيقة عالم معقد ومركب، قائم وقادم، وعلى من لا يصدق قراءة ما سطره ثعلب السياسة الأميركية هنري كيسنجر عبر صحيفة "وول ستريت جورنال".