أكّدت كوريا الجنوبية أول حالة إصابة بفيروس "كورونا" على أراضيها قبل أحد عشر يوماً فقط من إعلان المملكة المتّحدة عن الإصابة الأولى لديها، لكن الدولتين تعيشان الآن في عالمين مختلفين تماماً.
فقد أبلغت بريطانيا عن مجموع ستين ألفاً وسبعمئة وثلاث وسبعين حالة إصابة مؤكّدة، أي ما يقرب من ستة أضعاف تلك الموجودة في كوريا الجنوبية. ووصل عدد المتوفّين بالفيروس في المملكة المتّحدة نحو 8 آلاف، بعد قضاء تسعمئة وثمانيةٍ وثلاثين شخصاً نحبهم بين ليلة وضحاها، مقارنةً بعدد المتوفّين في كوريا الجنوبية الذي بلغ مئتين وأربعة أشخاص فقط.
وكانت الدولة الآسيوية قد وصلت في أواخر فبراير (شباط) الماضي، إلى ما بدا أنها نقطة فقدان السيطرة على العدوى مع بلوغ حالات الإصابة اليومية ذروتها عند عتبة تسعمئة وتسع حالات في اليوم، غالبيتها مرتبطة بكنيسة شينتشيونجي السرّية في دايغو. وقد أُبلغ سكّان المدينة وعددهم مليونان ونصف المليون نسمة بوجوب التزام منازلهم، ودعت كلّ من حكومة سيول و"منظّمة الصحّة العالمية" إلى التحري عن العدوى. وعلى الرغم من ذلك، بدأ عدد حالات الإصابة اليومية ينخفض بعد أسابيع.
ويرى خبراء الصحّة أن مفتاح الاستراتيجية الناجحة التي اعتمدتها كوريا الجنوبية قوامه ثلاثة أركان: الاختبارات الشاملة للسكّان، وتتبّع المصابين المباشر، وإجراءات العزل الذاتي.
واستناداً إلى الدكتور لي هيوك مين، مدير شؤون مكافحة العدوى في "الجمعية الكورية للطب المخبري"، فإنه مع صدور نتيجة اختبار الشخص الرابع في كوريا الجنوبية وثبات أنها إيجابية لجهة الإصابة بفيروس "كوفيد-19"، كان الخبراء الطبّيون الكوريّون قد عقدوا بالفعل سلسلةً من اجتماعات الطوارئ.
ويضيف الدكتور لي مستذكراً: "كان يوم السابع والعشرين من يناير (كانون الثاني)، وكنا في إحدى الغرف نسأل ممثّلي شركات الاختبار عن الوقت الذي يلزم مؤسّساتهم لتطوير وحدات الاختبار. وعندما أخبرونا بأنهم سيتمكّنون من ذلك بعد شهر، رفضنا واستعجلناهم ان يعدوا العدة كلها في غضون أسبوع واحد".
وفعلياً خلال أسبوعين شُحن آلافٍ من عُدد الاختبار. والبلاد تنتج الآن أكثر من مئة ألف عدّة يوميّاً. إن هذا الشعور بالطوارئ قبل هبوب العاصفة، والجاهزية العمياء لحربٍ لا يمكن رؤيتها، هما وراء نجاح كوريا الجنوبية في التصدي لفيروس "كورونا".
وفي وقت تردّدت المملكة المتّحدة في إجراء اختباراتٍ جماعية لسكّانها، كانت كوريا الجنوبية سريعة الاستجابة والانطلاق. وفي العاشر من فبراير (شباط)، عندما كانت هناك سبعٌ وعشرون حالة إصابة مؤكّدة فقط، كانت تلك الدولة الآسيوية قد أبلغت فعلاً عن نتائج نحو ألفين وسبعمئةٍ وستةٍ وسبعين شخصاً أخضعوا لاختبار كورونا.
أجرت كوريا الجنوبية حتى الآن أكثر من ثلائمئةٍ وخمسين ألف اختبار مجّاني، وكانت من أوائل الدول التي أقامت أكشاك اختبار على الطرقات للأفراد الذين يقودون سيّاراتهم. أما حكومة المملكة المتّحدة فأعلنت أنها اختبرت أكثر من مئتين وثلاثين ألف شخص، لكن منتقديها يرون أن هذه الزيادة في عدد الفحوصات جاءت متأخّرة جدّاً.
ويرى الدكتور لي هيوك مين، مدير شؤون مكافحة العدوى في "الجمعية الكورية للطب المخبري"، أن "دولاً مثل الولايات المتّحدة والمملكة المتّحدة أضاعت فرصة الحؤول دون البواء. ففيما بدأ هذان البلدان أخيراً تكثيف جهود الاختبار، إلا أنهما لا يستطيعان الآن اللحاق بمعدّل ظهور حالات إصابةٍ جديدة".
حكومة المملكة المتّحدة اشترت أخيراً سبعة عشر مليوناً و500 ألف اختبارٍ للأجسام المضادّة، لكنها اضطُرت إلى الاعتراف بأن فعالية هذه الاختبارات غير جديرة بالثقة على قدر كاف يتيح استخدامها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان خبراء كوريا الجنوبية قد وجدوا أن هذا الاختبار، على الرغم من أنه سريع، إلا أنه لم يكن دقيقاً في مواجهة "كوفيد 19"، وعملت السلطات الصحّية هناك على الدفع نحو أشكالٍ جديدة من الاختبارات الطبّية.
ويقول الدكتور لي: "إن هذا الاختبار يمكن إجراؤه فقط عندما يتعافى شخص ما تماماً من الإصابة بالعدوى. فهناك خطر في أن يخضع فردٌ ما لاختبار الأجسام المضادّة في وقتٍ مبكّر جدّاً، بحيث تأتي نتيجته سلبية، ثمّ يبدأ بالتجوّل والتفاعل مع الآخرين، فيقوم بإصابتهم بالفيروس من دون أن يعرف".
وينصح الخبراء الطبّيون الكوريّون الجنوبيّون الجمهور البريطاني، أمام هذه القدرة المحدودة على إجراء اختبارات، بتكثيف "التكميم الجماعي" أثناء التحضير لاختبارات المضادّات، وهي ظاهرة أصبحت طبيعية في كوريا الجنوبية منذ منتصف فبراير (شباط) الماضي.
وأوضح أن "الأقنعة عادةً ما يتم وضعها لحماية صاحبها من الإصابة بالفيروس. "لكننا رأينا عدداً من حالات الإصابة من دون أعراض. من هنا يتعيّن على الأشخاص ارتداء أقنعة على افتراض أنهم ربّما يحملون الفيروس، وهذا ما يساعد في الحدّ من اتّساع انتشاره". لكن على الرغم من ذلك، أثيرت أسئلة حول فاعلية وضع مثل هذه الأقنعة.
وفي المقابل، لم تقدم كوريا الجنوبية على تطبيق إغلاق على المستوى الوطني، لكنها ركّزت بدلاً من ذلك، على عزل الأشخاص الذين يُعتقد أنهم أصيبوا بالفيروس، إلى جانب تتبّعهم في الوقت الفعلي. وفرضت على أي شخص يعاني من أعراض المرض أن يقوم بعزل نفسه ذاتياً، وتنزيل تطبيق ينبّه المسؤولين في حال انتقال المريض خارج الحجر الصحّي، وهي سياسة أثارت مخاوف في ما يتعلّق بالخصوصية.
لكن سلطاتها مضت في تنفيذ إجراءاتها فارضةً على مواطنيها عدم تجاهل تنبيهاتها، ووضعت غراماتٍ على أي شخص يثبت أنه خرق الحجر الصحّي، بلغت في بعض الأحيان حدود ألفين وخمسمئة دولار أميركي. ويتلقّى الأفراد أيضاً تنبيهاتٍ تلقائية عندما يكونون بالقرب من حالةٍ تأكّدت إصابتها بالفيروس.
ويشير كيم إلى أن "المنشآت الصحّية في كوريا الجنوبية تعطي الأولوية للفئات الأكثر ضعفاً في المجتمع، بينما تراقب آلاف الأشخاص باستخدام طرق التتبّع في الوقت الحقيقي وتطبيقات الهاتف الجوّال".
ويتوقّع الخبراء الكوريّون الجنوبيّون، بحلول الوقت الذي ينتهي الإغلاق في المملكة المتّحدة أن تكون البلاد أكثر قدرةً على توسيع نطاق الاختبار، وتوفير أجهزة التنفس الاصطناعي على نطاق أوسع. لكنهم ينبّهون إلى أن مزيداً من "التباعد الاجتماعي المطبّع" الذي يُمارس الآن في كوريا الجنوبية، يجب أن يستمر مدة طويلة بعد ذلك.
ولفت الطبيب الكوري إلى أنه "إذا كان البريطانيّون جدّيين في تطبيق التباعد الاجتماعي، فسيبدأون في رؤية انخفاضٍ واضح في العدد الإجمالي لحالات الإصابة، ولا سيما بين السكّان الأصغر سنّاً".
وفي شوارع العاصمة سيول، تتواصل رؤية الوجوه الملثّمة بحيث تطغى على المشهد العام في الشوارع. وقد وضعت زجاجات الرذاذ المطهّر بعناية أمام كلّ متجر عمومي تقريباً. ويحاول الناس استعادة الشعور بمجرى الحياة الطبيعي في وقتٍ يمتنعون عن الاستهتار للغاية. فعاقبة التراخي غير آمنة.
ويختم كيم قائلاً إن "ندوب معركة كوريا الجنوبية في العام 2015 مع فيروس ميرس لا تزال ماثلةً اليوم كمسمار حاد. وربّما بسبب هذه الندوب، عرفنا بالضبط ما يجب القيام به هذه المرّة، ولماذا لم نتخلّ بَعد عن حذرنا".
© The Independent