اتخذت الحكومة التركية قراراً، طال انتظاره، وحالت دون صدوره أسبابٌ عدة، بفرض حظر تجوّل في الفترة الواقعة بين 10 و12 أبريل (نيسان)، يشمل 31 مدينة كبيرة، وجاء هذا القرار بعد شهرٍ كاملٍ من الإعلان الرسمي عن أول إصابة بفيروس كورونا بتركيا في 11 مارس (آذار)، وخلال هذه الفترة تجاوز عدد المصابين بالوباء في أنحاء البلاد 50 ألفاً والوفيات 1000 حالة.
والسؤال حول ما إذا لو فُرِض حظر التجوّل من قبلُ، هل كان العدد يا تُرى أقل مما نراه اليوم؟ سؤالٌ افتراضيٌ لا يستند إلى أي أسس علمية، غير أنّ الفوضى التي سادت الشارع التركي وما حملت معها من مخاطر انتشار العدوى بالفيروس، بسبب طريقة إعلان القرار عقب اتخاذه ستبقى محفورة في الذاكرة أكثر من صوابية القرار الذي جاء متأخراً.
تأتي تركيا في طليعة الدول الأكثر تضرراً من هذه الجائحة على المدى القصير، وها هو القطاع السياحي الذي يعدُّ أهم موردٍ للاقتصاد التركي يستعدُ لإغلاق موسمه هذا العام، ربما بأكبر خسارة يتعرّض لها في الآونة الأخيرة. ولا يظن أحدٌ بعودة بعض الفعاليات المتوقفة إلى ممارسة نشاطها بمجرد انكسار شوكة هذه الجائحة في غضون أسبوعين أو ثلاثة، وأن تتحول تركيا مجدداً وبشكل فجائي إلى وجهة للسياحة.
تعدُّ تركيا من أشهر الوجهات السياحية في الشرق الأوسط، تستقطب السيّاح من مختلف دول العالم، بما في ذلك أوروبا، غير أن غالبية السياح القادمين إلى تركيا هم من أصحاب الدخل المتوسط المتأثرين سلباً من جائحة كورونا كما هو الحال في تركيا، ومن المرجّح أن تفكّر الشريحة الكبيرة من أصحاب المهن الصغيرة والعاملين في قطاع الخدمات بسبب البطالة أو الإجازة المؤقتة غير المأجورة، أن يصرفوا مدخراتهم، التي خصصوها لقضاء عطلاتهم هذا العام، في تغطية خسائرهم في هذه الفترة بدل قضاء العطلة، ويعد هذا الوضع أحد أهم العوامل المؤثرة سلباً في السياحة الخارجية حول العالم. ومن ناحية أخرى يجب على تركيا لإنعاش قطاعها السياحي أن تعزز الثقة في محاربتها لجائحة كورونا، ولا يوجد مؤشر على ذلك في الوقت الراهن.
وأكثر ما يتصدّر جدول أعمال السلطات التركية اليوم تلك المخاوف المتعلقة بالوضع الاقتصادي للبلاد، ولا أحد يستطيع أن ينكر ذلك، ومن شأن الاقتصاد الراكد اليوم أن يؤدي في الأيام اللاحقة بفعل تفشي كورونا إلى أزمات حادة، ولن تفلح الحكومة في خداع أحدٍ بمحاولاتها الرامية إلى ربط الأزمة الاقتصادية التي تعانيها البلاد، الناشئة من عدم إجراء إصلاحات هيكلية، بعامل كورونا.
ولذلك حاولت الحكومة جاهدة تأجيل حظر التجوّل، خشية أن يؤدي ذلك إلى تطورات من شأنها أن يتوقّف الإنتاج بشكل كامل وتنفجر البطالة، وتزداد الأزمة في أوساط الفئات ذات الدخل المنخفض، غير أنه من المرجح أن يزيد هذا التأجيل من حجم التكلفة الاقتصادية التي ستدفعها تركيا.
وتعدُّ عطلة نهاية الأسبوع كما هي الحال في جميع أنحاء العالم فرصةً للتسوق وتلبية الحاجات العامة والاستجمام، لذا كان من الأجدر لحكومة تحترم مواطنيها أن تفرض هذا الحظر في وقت يترك للمواطنين فرصة لتلبية حاجاتهم الأساسية، وقد جنحت السلطات مع تحسُّن الطقس في أنحاء البلاد وخشية أن تتهاون الناس بتوصيات الحكومة بالتزام المنازل إلى اتخاذ قرار مفاجئ بحظر التجوّل نهاية الأسبوع، فإن كان بإمكانكم أن تتخذوا مثل هذه الإجراءات في نهاية الأسبوع فلِمَ لم تتخذوها في الأسابيع الماضية؟ ربما قلل ذلك من تفشي الوباء، ولا يعكس ذلك أي أثر سلبي في الاقتصاد.
ولعل من أفحش الأخطاء أن يُعلَن حظر التجوّل قبل ساعتين من تنفيذه، وإنه لمِن سوء الإدارة أن يعلم كثير من البلديات عن كنه القرار وقت الإعلان عنه، وتأخّر علم المواطنين به إلى ما بعد زوال فرصتهم للتسوق لتلبية حاجاتهم الخاصة، ناهيك بأنه وبفضل هذا القرار المفاجئ ربما حدث في غضون هاتين الساعتين من انتقال العدوى نتيجة التزاحم والتدافع ما كان يخشى وقوعه خلال أسبوع، وليس من المستبعد رؤية انعكاساتها بعد 14 يوماً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يعود عدم مبالاة الشارع التركي بتفشي كورونا ومواصلته المخالطة إلى ضعف مهارة المسؤولين في شرح مخاطر تفشي فيروس كورونا للجماهير، كما أنّ عدم حسبان الذعر الذي من شأنه أن يراود الشعب التركي إذا ما علم بفرض حظر التجوّل بعد ساعتين يُظهر افتقار المسؤولين إلى الوعي المحلي والوطني، وأن الإدارة التي لا تدرك السلوك الاجتماعي لمواطنيها وردود أفعالهم ستواجه بحملةٍ لمساءلة مشروعيتها في عيون مواطنيها.
يتحدّث كثير من الأوساط حول كيفية إحداث هذا الوباء تحوّلات اجتماعية واقتصادية وسياسية. توجد أفكار كثيرة تُطرح في هذا الصدد، ذهب بعضها إلى أن المكافحة الفعالة ضد الأوبئة تكون بأساليب استبدادية، وهذا إمّا أن يعزز النماذج الإدارية القائمة على هذا الاتجاه، وإمّا أن النماذج الديمقراطية ستتغير نحو الاستبداد.
ظنّت السلطة الحاكمة في تركيا أنها بتحويل جهود مكافحة هذه الجائحة إلى صراع مع البلديات المعارضة أنها وجدت فرصة جديدة لتعزيز الاستقطاب الاجتماعي الذي تتغذى عليه، وحاولت القضاء على سُبل وصول الإدارات المحلية إلى الشعب بكفاءة عالية وبسرعة أقل، واعتقاد عدم انكشاف ذلك خطأٌ آخر يُدرج إلى قائمة أخطائها.
إن جائحة كورونا تحتّم ظهور مفهوم جديد للإنسان والمجتمع حول العالم، ومن الآراء التي تطرح في هذا الصدد أن الإنسان سيكون في محور هذا المفهوم، وسيبني علاقته الجديدة بروح التضامن الاجتماعي وبإحساس جديد، وقد شكّل قرار الحظر المُتخذ في تركيا ليلة العاشر من أبريل (نيسان) وطريقة إعلانه إلى الشعب نقطة تحوّل في تحقيق هذا النوع من التطور والارتقاء.
إن الأيام المقبلة تدعو السلطات الحاكمة إلى إدارة ديمقراطية وذات رؤية بعيدة تراعي شعور مواطنيها، ولا تستهين بهم، وترى همومهم فوق همومها.
اندبندنت تركية