بعدما لاحت في الأفق معركة سياسية ساخنة حول أولوية إعادة تشغيل الاقتصاد الأميركي بين الجمهوريين والديمقراطيين، ومع نفاد صبر بعض المحتجين على سياسة الإغلاق، اختار الرئيس الأميركي دونالد ترمب مساراً حذراً، يتيح المجال أمام فتح أكبر اقتصاد في العالم تدريجاً على ثلاث مراحل، لكنه ترك القرار لحكام الولايات الأميركية الـ 50 لاتّخاذ الإجراءات المناسبة لذلك. وهو ما يعني عدم اندفاع ترمب وتراجعه عن تصريحاته السابقة بأنه يملك سلطة اتخاذ هذا القرار، والاكتفاء بإصدار توجيهات إرشادية لحكام الولايات مع التعهّد بزيادة المساعدات الصحية، بخاصة ما يتعلّق بإجراءات اختبار فيروس كورونا وتعقّب المخالطين للمصابين.
غير أن الجدل السياسي والشعبي تواصل في الداخل الأميركي، واستمرت حالة الانقسام بين المؤيدين لرفع سياسة الإبقاء في المنزل من أجل تحريك الاقتصاد المتوقف، وبين المتخوفين من عواقب التسرع بفتح شرايين الاقتصاد من دون اتخاذ الاحتياطات الكافية لتأمين عدم انتشار الإصابة بالفيروس على نطاق أوسع ممّا هو عليه الآن.
نفاد الصبر
في ولاية ميشيغان، نفد صبر مئات الأميركيين الذين ملّوا البقاء في المنزل وراحوا يتظاهرون ضد حاكمة الولاية غريتشن ويتمير، معتبرين أن استمرار سياسة الإغلاق والبقاء في المنزل يمثل نوعاً من القمع، في وقت كان السيناتور الجمهوري تيد كروز، عضو مجلس الشيوخ، يتباهى في تغريدة له عبر تويتر بأنه ذهب إلى الشاطئ في عطلة نهاية الأسبوع.
وفي ظل حالة الإحباط العام لدى بعض الفئات، توالت الأخبار السيئة بصدور بيانات جديدة بانضمام 5.2 مليون شخص إلى قائمة العاطلين عن العمل، ليصبح العدد الإجمالي لمن فقدوا وظائفهم منذ منتصف مارس (آذار) الماضي، 22 مليون شخص، وهو رقم مفزع لم يكن أحد يتخيّله قبل أسابيع.
وكلّما بدا الاقتصاد الأميركي في حالة سقوط حر، زاد الضجر الاجتماعي والضجيج السياسي وارتفعت أصوات المحتجين، الأمر الذي دفع الرئيس ترمب إلى ممارسة ضغوط أكبر على حكام الولايات الذين تبيّن له دستورياً وقانونياً أنهم من يملكون قرارات فتح أو إغلاق أوجه الحياة الاقتصادية والاجتماعية في ولاياتهم.
خطوة حذرة
ومع إطلاق ترمب عدداً من الخطوط الإرشادية، أعلنت مجموعة من حكام ولايات الغرب الأوسط الأميركي من الحزبين الجمهوري والديمقراطي تشكيل تحالف إقليمي لتقييم خطوتهم المقبلة وما إذا كان يتعين عليهم البدء في فتح الاقتصاد تدريجاً، وفق المراحل الثلاث التي تحدث عنها رئيس البلاد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يتكون هذا التحالف من ولايات إلينوي وميشيغان وأوهايو وويسكونسن ومينيسوتا وإنديانا وكنتاكي، وهو يماثل تحالفات إقليمية أخرى ضمّت حكام الولايات على الساحل الشرقي والغربي للولايات المتحدة، استهدفت تنسيق المواقف ومواجهة محاولات ترمب اتّخاذ قرار بفتح الاقتصاد.
غير أن التوجيهات الصادرة من الرئيس الأميركي بدت متّسقة الآن مع مواقف بعض الحكام، مثل جافين نيوسوم حاكم ولاية كاليفورنيا، من حيث ضرورة أن تمر أولاً النقطة الأسوأ في منحنى الإصابات والوفيات جراء فيروس كورونا قبل الحديث عن فتح الاقتصاد، وأن أجزاءً من البلاد يمكن أن تُفتح في وقت أبكر من غيرها، مع أهمية تحسين اختبارات وفحوصات حالات كورونا وتعقّب الحالات المصابة والمُخالطين لها.
حقل ألغام
وتمثل قضية فتح الاقتصاد حقل ألغام للقادة السياسيين في واشنطن الذين يخوضون نقاشاً على المستوى الوطني العام قبل موعد الانتخابات التشريعية والرئاسية بعد أقل من سبعة أشهر. فالجمهوريون يخاطبون المخاوف الاقتصادية لدى العمال والموظفين والشركات، من أن الحلم الأميركي يتلاشى مع ارتفاع معدلات البطالة وانخفاض مبيعات التجزئة بمعدلات تاريخية، بينما يحذر الديمقراطيون وحلفاؤهم من خبراء الصحة العامة من أن عودة الاقتصاد والرفع المتسرع لسياسة التباعد الاجتماعي، يمكن أن تكون لهما عواقب مميتة، خصوصاً أن الولايات المتحدة تحقق الآن أعلى معدلات وفاة في العالم، بلغت أكثر من 2000 حالة يومياً خلال الأيام الثلاثة الماضية.
وتحذّر نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب، في رسالة لها إلى الديمقراطيين من أنه على الرغم من تخصيص تريليونات الدولارات لإغاثة الشركات والعمال الذين تضرّروا من الوباء، إلّا أنّهم يجب أن يصغوا إلى نصائح خبراء الصحة العامة عندما يتعلّق الأمر بفتح الاقتصاد والمجتمع.
تباين جمهوري
وبينما اصطف بعض الجمهوريين إلى جانب الديمقراطيين في ضرورة توسيع حملة الاختبارات الخاصة بالفيروس مثل السيناتور الجمهوري لامار أليكسندر، الذي ربط بين هذه الاختبارات والقدرة على احتواء المرض، إلّا أنّ السيناتور الجمهوري تيد كروز حذّر من أن تدمير الاقتصاد لفترة طويلة يحمل في طياته مخاطر صحية. وقال "عندما تنهار المشاريع الاقتصادية الصغيرة والعائلية، تتبخّر مدخرات الأسرة ويحل اليأس في العائلة، ما يؤدي إلى الإحباط وظهور أمراض عقلية وزيادة معدلات الانتحار، وهي جميعاً تُعدُّ مخاطر صحية عامة".
ودق جمهوريون آخرون جرس إنذار من مخاطر استمرار إغلاق الاقتصاد، معتبرين أن الاقتصاد أهم من الصحة العامة، وأنه على الكونغرس وصُناع السياسة إعادة فتح المجتمع حتى لو كان ذلك يعني زيادة الوفيات جراء فيروس كورونا، في حين قال النائب الجمهوري تيري هولينغسورث، إنه عندما نفاضل بين أن نفقد أسلوب حياتنا كأميركيين وبين فقدان أرواح بعض الأميركيين، فإننا نضحي بالأخيرة.
الرئيس بين نارين
أما الرئيس ترمب، فإن المراقبين يقولون إنّ أفضل فرصة لإعادة انتخابه هي عودة الاقتصاد إلى النشاط والإنتاج، أملاً في أن يستعيد عافيته قبل موعد الانتخابات الرئاسية المقررة في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. لكن الرئيس يشعر الآن على الرغم من ذلك بالقلق من أن إعادة فتح البلاد قبل الآوان، يمكن أن تأتي بنتائج عكسية إذا ارتفعت حالات الإصابة بالفيروس من جديد، وأثارت حفيظة أسواق المال ودفعت الاقتصاد إلى مزيد من التدهور.
ويقول جوليان زليزر، المؤرخ السياسي في جامعة برينستون الأميركية، إن الرئيس ترمب يضغط بشدة لإنجاز هدفه بتشغيل الاقتصاد، لأنه يستشعر أن ذلك سيفيده ويعزز موقفه.
انقسام شعبي
ووسط الانقسام السياسي في واشنطن، أظهرت استطلاعات رأي جرت أخيراً انقساماً شعبياً بين الأميركيين، إذ أوضح استطلاع أعدّه مركز "بيو" أن ثلث الأميركيين الأفارقة والأميركيين من أصول تعود لأميركا اللاتينية والأقل دخلاً، يشعرون بأنهم معرضون بنسبة أكبر للإصابة بفيروس كورونا بعد صدور تقارير إحصائية تشير إلى ذلك، مقارنة بـ 17 في المئة فقط من الأميركيين البيض الذين يشعرون بذلك القلق.
وأظهر استطلاع آخر قاده معهد "غالوب" قبل أيام، أن أربعة من بين كل خمسة أشخاص يفضلون عدم التسرع بفتح الاقتصاد والانتظار أيام أو أسابيع أخرى قبل استئناف نشاطهم العادي، في حين أن الجمهوريين يشعرون براحة أكبر من غيرهم لاستئناف حياتهم الطبيعية.
غير أن هذه التوقعات تتغير بمرور الوقت ووفق تغير الأوضاع، إذ أشارت تقارير إلى أن المناطق الريفية بدأت تتأثر بعدوى فيروس كورونا مثلما حدث في ولاية واشنطن الواقعة في غرب البلاد.