كانا صديقين منذ خمسة وثلاثين عاماً، وكلاهما نشأ تحت رعاية نجم الدين أربكان، وقد ترعرعا في الأحزاب السياسية التي أنشأها إلى أن بزغ نجمهما في حزب الرفاه الذي كان محضناً للإسلام السياسي.
ومن تجليات القَدر أن الرَّجلين تعاونا في الانشقاق عن زعيمهما وأستاذهما أربكان في وقت واحد، وقاما بإنشاء حزب العدالة والتنمية، وعندما وصل هذا الحزب إلى السلطة أصبح عبد الله غول رئيساً للوزراء.
وعندما تم رفع الحظر السياسي عن رجب طيب أردوغان تم الوصول إلى حل سياسي من أجل انتخابه نائباً في البرلمان، فاستقال غول من منصب رئاسة الوزراء وترك مقعده لأردوغان، وأصبح غول وزيراً للخارجية، وفي عام 2007 تم انتخابه رئيساً للجمهورية.
وفي أغسطس (آب) 2014 حدث أمرٌ غريب في "العدالة والتنمية"، حيث كان الحزب يستعد للمؤتمر الاستثنائي الذي يُنتخَب فيه رئيس الحزب الذي سيصبح بدوره رئيساً للوزراء، فاجتمع مجلسه التنفيذي (MKYK) برئاسة أردوغان ليقرر عقد المؤتمر في 27 أغسطس، أي قبل يومٍ واحد من حفل تسليم الرئيس غول منصبه لأردوغان. لأن الفترة الرئاسية لعبد الله غول كانت تنتهي في 28 من الشهر ذاته، ما يعني أنه فاته الترشح لرئاسة الحزب بفارق يوم واحد فقط، لأن القانون لم يكن يسمح حينذاك بعضوية رئيس الجمهورية في أي حزب من الأحزاب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان عبد الله غول قد صرح بأنه يريد العودة إلى حزبه القديم. نعم، إنه كان يريد أن يترأس الحزب ويصبح رئيساً للوزراء، لكن أردوغان سرعان ما خيَّب آمال رفيق دربه الذي سار معه على مدى 35 عاماً، ولم يتوقف عند هذه النقطة بل رد على كل تصريح سياسي صدر من غول، بلهجة بالغة القسوة ووصمه بتعبيرات مهينة مثل: الخائن، الخبيث، الانتهازي، إلخ.
والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا تصرَّف أردوغان بهذه الطريقة؟ والجواب هو أن أردوغان كان يعرف جيداً أن هناك في الحزب عدداً لا بأس به من الموالين لعبد الله غول، فإذا رجع إلى الحزب ربما يتفلت الأمر من يده ويَفقد السيطرةَ الكاملة على الحزب بعد توليه منصب رئاسة الجمهورية.
وهذه لمحة موجزة لبعض مراحل العلاقة بين الزميلين السابقين في مسيرتهما السياسية. وقد مضت ستة أعوام على الحادث، ولكننا لم نشهد موقفاً صارماً من غول ضد أردوغان، بل إننا لم نسمع منه أي ردِّ على الإهانات ضد شخصه.
وحتى في القضايا الجوهرية التي تهم البلاد، لاحظنا أن غول يتخذ في معظمها موقفاً أقرب ما يكون إلى الحياد أو يقولُ شيئاً ثم إذا قوبل بردة فعلٍ فسرعان ما يتراجع عن موقفه ولا يكون مصراً في حال من الأحوال.
وهذا يرجع إلى سببين رئيسيين، أحدهما يتعلق بعبد الله غول والآخر بأردوغان؛ ولتجلية الموضوع أود أن أتحدث عن تجربة مررتُ بها شخصياً، ففي صيف عام 2015 سافرت من القاهرة إلى أنقرة، والتقيت هناك صديقي الصحافي مصطفى أونال، وقد كان حينذاك ذا علاقة قريبة من أردوغان وغول. وكان أونال وعدني بأن يجمعني بشخصٍ نتناقش معه قضايا الشرق الأوسط وكذا قضايا السياسة التركية.
اجتمعنا بالشخص في مكتب فخم في الطابق الـ15 بمبنى كبير، واستقبَلَنا هذا الشخص الذي يُدْعَى حسن مراد مَرجان، وكان ذا علاقة قوية مع غول ومن أقرب أصدقائه المقربين، وقد حصل على درجة الدكتوراة في جامعة فلوريدا بالولايات المتحدة وعمل كمحاضر في جامعات كليفلاند ستيت، وبِيلْكَنْتْ. وهو عضو مؤسس لحزب العدالة والتنمية، وقد انتُخب نائباً في البرلمان في دورتين انتخابيتين، وشَغَل في إحدى هاتين الدورتين منصب رئاسة الوفد التركي في الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا، وفي الدورة الأخرى شغل منصب رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان التركي. وفي 3 فبراير (شباط) 2012 تم تعيينه نائباً لوزير الطاقة والموارد الطبيعية، ثم استقال من منصبه في 5 سبتمبر (أيلول) 2014، كردة فعل ضد إغلاق الطريق إلى الحزب أمام عبد الله غول.
وبعد جلسة طويلة تجاذبْنا فيها أطراف الحديث مع هذا الرجل، سألناه: لماذا لا يزال غول لا يتخذ موقفاً واضحاً ضد أردوغان، ولديه تعاطف جاد مع حزب العدالة والتنمية (طبعاً في ذلك الوقت)؟
أجاب الرجل "بالضبط نحن أيضاً ننتظر منه ذلك، ولكن السيد غول، للأسف، جبان ولا يزال يأمل من أردوغان أن يدعوه ليترأس الحزب". وتوصلنا من خلال حديثنا مع صديقه هذا إلى أنه إذا كان غول لا يجابه أردوغان فليس هذا ناشئاً من أدبه أو لطفه تجاهه، بل إنه لا يزال يحسب حسابات راغبة أو راهبة.
وأما الجانب المتعلق بأردوغان فإنه يتجلى في هذا الشخص أيضاً، حيث إن أردوغان عيَّنه لاحقاً سفيراً لتركيا لدى طوكيو ولا يزال في هذا المنصب، حيث إن أردوغان قدَّم مناصب مهمة في الدولة للمقربين إلى عبد الله غول وداود أوغلو وعلي باباجان الذين انشقوا عنه، كما أنه هدّد بعضاً منهم بالسجن، وبهذه الطريقة نجح في كبح جماح سبعين في المئة من الموالين للمنشقين، علماً بأن صديقي الغالي مصطفى أونال الذي أخذني إلى هذا الاجتماع لا يزال في السجن.
وهذا هو السر في ضآلة تأثير الحزبين الجديدين الذين أنشأهما داود أوغلو وعلي باباجان، لأن كوادرهما ضعيفة ولم يلتحق بهما عددٌ كبير من الموالين لهما في حزب العدالة والتنمية.
ولو أن عبد الله غول دخل حلبة السياسة فور استبعاده من الحزب واتخذ موقفاً واضحاً ضد أردوغان، لربما كان رئيساً للبلاد في الظرف الحالي، ولكنه لم يغتنم الرياح التي هبت لصالحه، وفوَّت على نفسه فرصاً يصعب تعويضها.