على الرغم من أنه لا تزال هناك ثلاث سنوات لحلول موعد الانتخابات في تركيا فإن الأجواء السياسية بدأت تَسخُن شيئاً فشيئاً، فبعد انتخابات بلدية إسطنبول في 31 مارس (آذار) 2019 وبهزيمة مرشح أردوغان أمام مرشح المعارضة (أكرم إمام أوغلو)، انهار الاعتقاد السائد بأن حزب العدالة والتنمية لن يُقهَر في الانتخابات، كما أن هذه الرياح السياسية جلبت فجأة وجهاً جديداً أمام الجماهير.
ولكن ما كان لهذا الوضع الجديد أن يروق للرئيس السابق عبد الله غول، الذي لا نتوقع منه أن يخلي الساحة لهذا المنافس الجديد الذي بزغ نجمه بعد فوزه الكاسح في انتخابات البلدية.
فكان عليه أن يستبق الوضع ولا يخلي الساحة أمام أكرم إمام أوغلو الذي لا يستبعد المراقبون ترشحه لمناصب رفيعة أخرى بما فيها رئاسة الجمهورية.
وكان الرئيس غول يتجنب في تصريحاته السابقة مواجهة أردوغان بوجه صريح، بل يكتفي بتعريضات يمكن تأويلها بشكل من الأشكال. ولكنه اختار الصراحة في هذه المرة ليستخدم أسلوباً مباشراً في المقابلة الصحافية التي أجرتها معه صحيفة "قرار" اليومية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فقد كان غول يعلن في هذه المقابلة دعمه الصريح، المفتوح للحزب الذي يؤسسه علي باباجان، وأوشك على الإعلان عنه في غضون أيام. وكانت هذه المقابلة، في الوقت ذاته، أول ظهور لعبد الله غول أمام الصحافة بعد فترة صمت طويلة.
ومن المعلوم أن عبد الله غول لم يجدد عضويته لدى حزب العدالة والتنمية بعد انتهاء فترة رئاسته، ولكنه كان يتحاشى في أسلوبه من مصادمة صريحة ضد حزبه القديم والرئيس رجب طيب أردوغان. ولكنه بهذه الخطوة الأخيرة لم يكتف بإغلاق الباب أمام حزب العدالة والتنمية بل أعلن أنه سيناهضه في المرحلة المقبلة.
وتدل تصريحاته على أنه سيتخذ بعد هذه المرحلة موقفاً معارضاً في قضايا ستجعله على طرف النقيض من أردوغان وحزبه في كثير من القضايا الرئيسة.
وتأتي على رأس تلك القضايا تصريحه الذي قال فيه، "إنه ينبغي العود إلى النظام البرلماني". ويكون بذلك واعداً جمهوره بالقضاء على النظام الرئاسي الذي من خلاله استحوذ أردوغان على جميع السلطات التنفيذية.
وبالأخص حينما قال غول في سياق كلامه، "لم يسبق على مجلس الأمة (البرلمان) زمن فقد فيه أهميته مثل هذه الفترة، وبالفعل تعيش تركيا مضاعفات هذه الظاهرة". وكان يلوِّح إلى أنه يعتزم إطاحة أردوغان وحرمانه من الرئاسة. وقد تكون ذلك إشارة إلى أن هناك أرضية مناسبة في النظام البرلماني للتعاون المشترك مع جميع أحزاب المعارضة، بما فيها حزب الشعب الديمقراطي (الحزب الكردي)، ضد حزب العدالة والتنمية.
ولعل ثاني أهم النقاط الأخرى في تصريحات عبد الله غول، التي من شأنها أن تثير حفيظة أردوغان وإزعاجه ما قاله، "بأن أحداث (جيزي) شرف لنا". في إشارة إلى الانتفاضة التي انطلقت عام 2013 احتجاجا على قطع الأشجار في منتزه جيزي، ثم تطورت الأحداث لتأخذ بُعداً مجتمعياً سرت إلى سائر محافظات البلاد.
وبالمناسبة إنني بصفتي من أحد المشاركين في تلك الاحتجاجات أستطيع القول إنه باستثناء تصرفات بعض المجموعات المتطرفة التي تعمدت توتير الأجواء، لم تكن هذه الاحتجاجات إلا انتفاضة سلمية في المجتمع التركي ضد ممارسات السياسيين الإسلامويين.
وللأسف لم يكن لدى المتدينين الأتراك في تلك المرحلة وعي يجعلهم يستشرفون مخاطر السياسيين الإسلامويين على المجتمع التركي كما نعيشه الآن، وبالتالي لم يشارك فيها من المتدينين إلا نزر يسير من أتباع فتح الله غولن وأفراد آخرين، ممن لم ينسهم أردوغان إلى أن زج بكثير منهم في السجون ونكّل بهم أيما تنكيل.
ومن النقاط اللافتة للنظر أن عبد الله غول، الذي كان من أبرز رموز السياسيين الإسلامويين صرح بأن "مشروع الإسلام السياسي قد انهار في جميع أنحاء العالم". وهذا تصريح له مغزى سياسي بهذه المرحلة المفصلية في السياسة التركية، ويهدف إلى جذب تعاطف الشرائح المجتمعية التي صوتت في الانتخابات الأخيرة لصالح أكرم إمام أوغلو، الذي سطع نجمه في الآونة الأخيرة وحصل على أصوات عدد لا بأس به من اليساريين والليبراليين والعلويين وسائر المتدينين الذين لم يصوّتوا لحزب العدالة والتنمية.
ولست متأكداً عمّا إذا كان سينجح في هذه المناورة، ولكن الذي لا أشك فيه هو أن تأييده للحزب الجديد الذي يتزعمه علي باباجان سيلحق الخسارة بأردوغان، أكثر من داوود أوغلو.
وفي هذا السياق أود التأكيد على أن الفرق بين داوود أوغلو وعبد الله غول هو أن هدف الأول الرئيس هو الإضرار بأردوغان والانتقام منه، وليس الوصول إلى السلطة بالدرجة الأولى، في حين أن الأخير يريد أن يصبح رئيساً للجمهورية مرة أخرى. لذا فقد أظهر غول أنه ربما يتنازل عن مبادئه ليكون المرشح للرئاسة على الأقل.
ولكن كيف سيقنع غول سائر المرشحين المحتملين بمن فيهم رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال قليتشدار أوغلو، والمرشحون الرئاسيون المحتملون أكرم إمام أوغلو، وعمدة أنقرة منصور يافاش، ورئيس بلدية أسكي شهير يلماز بويوك أَرشَنْ؟ فهذا لغز لا يزال ينتظر حلاً من غول.
نعم، مهما كان موعد الانتخابات يبدو بعيداً، فالأجواء السياسية بدأت تسخن تدريجيا، مما يجعلنا نشعر بأن شيئاً ما ربما سيطرأ على الساحة التركية في أي لحظة.
وفي الأسبوع الماضي برّأت المحكمة عثمان كافالا المعتقلَ بتهمة ضلوعه في أحداث (جيزي)، ولكن بعد يوم واحد من إفراجه تم اعتقاله بتهمة أخرى بعدما احتج أردوغان على إطلاق سراحه.
ولا نستبعد أن أردوغان يحتفظ بعثمان كافالا وأمثاله من المعتقلين في تركيا كرهائن في السجون بمن فيهم عشرات الآلاف من المتهمين بالانتماء إلى حركة غولن، و850 طفلا لا يزالوا في الزنازين مع أمهاتهم، بالإضافة إلى أكثر من مئة صحافي يقبعون في السجون.
ولن أستغرب أنه إذا لزم الأمر سيستغلهم كبطاقة رابحة في الانتخابات المقبلة أو يستخدمهم كورقة مساومة ضد معارضيه، وهو ما يوضح لنا كيف يحاول أردوغان السيطرة على البلاد من خلال التحكم في السلطة القضائية بطريقة لا تتوافق مع حقوق الإنسان.
ويبدو أن عبد الله غول من خلال هذه الحملة الأخيرة يستفز أردوغان الذي يتجنب خوض الانتخابات في الظرف الحالي، ولكنه لن يتمالك زمام أمره من المغامرة إذا رأى منافسيه في الميدان، ومن الواضح أن الخوض في حرب خاسرة أهون على أردوغان من الخوض في انتخابات يفقد فيها السيطرة على البلاد. الجميع يعلم أن أردوغان ليس واثقاً من النتائج هذه المرة، وأنه ليس من المستبعد أن يخسر الانتخابات مثلما رجع بالخيبة من الحروب التي خاضها.