تشير أكثر السيناريوهات تفاؤلاً إلى ارتفاع العجز بميزانيات الدول العربية في المتوسط إلى أكثر من 10 في المئة، نتيجة الآثار السلبية لوباء فيروس كورونا (كوفيد 19) التي يضاعف من تبعاتها هبوط أسعار النفط. ويؤخذ في الاعتبار أن تلك التقديرات، التي صدرت غالبيتها الشهر الماضي، لم تتضمّن توقعات استمرار إجراءات الإغلاق فترات أطول، وتراجع فرص الانتعاش مع الفتح الجزئي للاقتصاد.
كما أنّ سيناريوهات تقديرات ارتفاع العجز والدَّين العام للحكومات في المنطقة أُعدّت أيضاً على أساس نماذج سابقة من الأزمة المالية العالمية في 2008 - 2009 وما قبلها، لكن الأيام تثبت باضطراد أن ما يواجهه الاقتصاد العالمي ركودٌ من نوع جديد، كما الفيروس المستجَد.
لكن، ذلك لم يمنع مؤسسات رئيسة في العالم، من صندوق النقد والبنك الدوليين إلى مؤسسات التصنيف الائتماني الرئيسة، وإدارات الاستثمار في بنوك ومؤسسات مالية كبرى، من تلمُّس قدرة الاقتصاد العالمي ودول العالم والمناطق الاقتصادية على مواجهة تحديات وباء كورونا. وبما أنّ المنطقة العربية تقع ضمن نطاق إمّا الاقتصادات الصاعدة وإمّا النامية فإنها من بين المناطق الأكثر تضرراً في الأغلب، والأقل قدرة على مواجهة التحديات الاقتصادية للوباء.
ورغم التباين في اقتصادات دول المنطقة فإن هناك قواسم مشتركة، تمكِّن المتخصصين والمحللين من تحديد متوسطات ووضع تقديرات على أساسها، كما فعل صندوق النقد الدولي مثلاً في تقريره حول مستقبل الاقتصادات العربية في ظل الآثار السلبية لوباء فيروس كورونا.
يذكر أن تضرر الاقتصادات الصاعدة والنامية يعتبر أكبر ليس فقط بالأرقام المجردة، التي قد تكون أفضل نسبياً من اقتصادات متقدمة، كما في أوروبا وأميركا، التي تظهر يومياً أرقاماً أكثر قتامة وسلبية، إنما لأن نسب نموها وفرصها للتحسّن تعاني أكثر. من هنا يأتي تقدير الضرر الأكبر.
مثالٌ على ذلك، أنّ تقديرات المؤسسات الدولية لانكماش الاقتصاد العالمي هي 3.1 في المئة بالمتوسط، بينما بالمنطقة العربية تقدّر نسبة الانكماش بنحو 3.3 في المئة على الأقل. تلك النسبة تعدُّ ضارة جداً لاقتصادات كانت تنمو بمعدل يزيد على نمو أكبر اقتصاد بالعالم، الاقتصاد الأميركي، وأكثر من ضعف نمو اقتصاد أوروبا.
العجز والنمو
حسَب أرقام صندوق النقد الدولي في أحدث تقاريره نهاية الشهر الماضي، سيرتفع العجز في ميزانيات الدول العربية بالمتوسط إلى أكثر من 10 في المئة، مقابل نسبة عجز عند 2.8 في المئة العام الماضي 2019. ويقدّر الصندوق أنّ الناتج الإجمالي لدول المنطقة سيفقد نحو 425 مليار دولار على الأقل، منها أكثر من 250 مليار دولار ستفقدها دول الخليج النفطية، نتيجة تراجع أسعار النفط بسبب انهيار الطلب الناجم عن توقف الاقتصاد العالمي بإجراءات الوقاية من الوباء.
ورغم أنّ غالبية دول المنطقة أعلنت إجراءات ضبط إنفاق وتقشّف في مصروفات الميزانية، فإنّ العجز المتوقع مرشحٌ للزيادة بشكل متفاوت بين اقتصادات دول المنطقة، إنما في حدود المتوسط المقدّر. وفي حال استمرار عمليات الإغلاق الاقتصادي فترة أطول ولو قليلاً ربما يضطر كثيرٌ من الحكومات إلى طرح "حزم دعم وتنشيط جديدة"، لتفادي الأضرار الاقتصادية، ما سيعني مزيداً من العجز في الميزانيات العامة.
لضبط الحسابات، تلجأ الحكومات العامة إلى سدّ العجز، أو أكبر قدر منه، عبر الاقتراض للحيلولة من دون توقف الإنفاق العام الذي يعني في غالبية اقتصادات المنطقة تضاعف الانكماش الاقتصادي. فرغم استمرار جهود التنوّع الاقتصادي وزيادة مساهمة القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي والناتج المحلي الإجمالي يظل الإنفاق الحكومي العام المكوِّن الرئيس، والعامل الأهم في معدلات النمو الاقتصادي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لذا، تتوقّع المؤسسات الدولية، ومنها صندوق النقد الدولي، أن ترتفع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية في المتوسط إلى نحو 95 في المئة وربما أكثر. قد لا تبدو نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي تلك عالية جدّاً في ظل أزمة مثل التي يشهدها العالم نتيجة وباء كورونا. لكنها بالنسبة إلى دول المنطقة العربية ليست جيدة على الإطلاق، نتيجة تأثيرها الهائل في فرص النمو الاقتصادي بعد انحسار الوباء.
فحسَب أكثر من دراسة لأكاديميين واقتصاديين كبار في السنوات الأخيرة فإنّ زيادة نسبة الدّين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي على 90 في المئة تؤدي إلى تراجع فرص النمو الاقتصادي 50 في المئة، وإذا كانت اقتصادات معقدة ومتقدمة كما في أوروبا وأميركا الشمالية يمكنها تحمُّل تلك النسبة من تراجع النمو، فإنها بالنسبة إلى الاقتصادات الصاعدة والنامية تعدُّ عقبة كبرى أمام تطورها على المديين المتوسط والطويل.
الاقتراض والائتمان
يتوقّع صندوق النقد الدولي ارتفاع الدين العام لحكومات الدول العربية 19 في المئة، ما يعني ديوناً حكومية جديدة، بما يقارب مئتي مليار دولار (190 مليار دولار)، ليرتفع حجم الدين العام للدول العربية مقترباً من تريليون ونصف التريليون دولار (1.46 تريليون دولار). ذلك حسَب أحدث تقديرات رسمية صدرت في النصف الثاني من أبريل (نيسان).
وفي ظل وضع ائتماني عالمي صعب، ويزداد صعوبة مع لجوء المستثمرين في سوق السندات والدَّين إلى تسييل مراكزهم، والهروب نحو ملاذات آمنة سيكون على الحكومات الاعتماد على مدى مرونة سوق الائتمان المحلية، لتغطية سندات الدين. خصوصاً أن السوق المحلية أقل تأثراً بالتصنيف الائتماني للحكومات من السوق الأولية العالمية.
وبدأت غالبية مؤسسات التصنيف الرئيسة في العالم خفض تصنيفاتها الائتمانية لديون دول العالم، بما فيها ديون دول عربية بدرجات متفاوتة، أسوأها مثلاً لبنان وسلطنة عمان. وفي تلك الحالات ليس أمام حكومات تلك الدول سوى تغطية سندات الدين الحكومي من السوق الداخلية. وتعتمد في ذلك على حجم المدخرات في البنوك المحلية، وربما الاحتياطي النقدي لديها أو صناديق الثروة، سيادية أو خاصة.
صحيحٌ، أن بعض الاقتصادات المتماسكة، كما في السعودية والإمارات مثلاً، ما زال إصدار السندات يحظى بتغطية تفوق أضعاف قيمتها، كما حدث أخيراً مع سندات إماراتية بقيمة سبعة مليارات دولار، وأخرى سعودية بقيمة مماثلة. لكن ذلك قد لا يكون كافياً لسد العجز المتوقع في الميزانيات العامة على الرغم من إجراءات ضبط الإنفاق الحكومي.
وهنا، تلجأ الحكومات إلى السحب من الاحتياطي أو تمويل العجز من فوائض لديها في صناديق ثروة سيادية. والمثال الأوضح على ذلك ما أعلنه وزير المالية السعودي في مقابلة تلفزيونية حديثة، حين ذكر أن الحكومة ستصدر سندات دين بما يصل إلى 26 مليار دولار، بينما ستلجأ إلى تغطية العجز بالسحب من الاحتياطي وصندوق الثروة السيادي بنحو 32 مليار دولار.
وإذا كان ذلك ممكناً من دون أضرار كبيرة في حالة السعودية والإمارات، فإنّ دولاً نفطية خليجية أخرى، مثل الكويت ربما لا تجد صعوبة في تغطية العجز بهذه الطريقة. فرغم استمرار قوة أسواق الأسهم العالمية، فإن صناديق الثروة السيادية الخليجية لا تستثمر إلا قدراً من أموالها في سوق الأسهم، والبقية في أصول يصعب تسييلها بسرعة، كما أن قيمتها قد تكون تراجعت بشدة في ظل الأوضاع الحالية، سواء أكانت أصولاً عقارية أو نسب ملكية في شركات عالمية.
ومع أنه من الصعب الحصول على أرقام رسمية دقيقة حول حجم صناديق الثروة السيادية في المنطقة، فإنّ تقديرات كثيرة وضعتها بنهاية العام الماضي عند نحو تريليوني دولار. والأرجح أنّ أصولها تراجعت بنسب متفاوتة في الأشهر الأخيرة.
يبقى المتاح دوماً للحكومات هو تغطية القطاع المصرفي المحلي لسندات الدَّين السيادي لسد العجز في الميزانية. ومع أنّ معدلات الادخار تظل قوية، خصوصاً في ظل تراجع الإنفاق الاستهلاكي نتيجة الإغلاق بسبب وباء كورونا، فإنّ بعض الدول سيتعرّض إلى انخفاض معدلات الادخار نتيجة عودة العمالة المهاجرة إلى الدول المصدرة لها من الدول النفطية الغنية.