خلال العام الماضي، شهد السودان صراعات قبلية في شرقه أكثر من مرة، وهو ما شكّل نوعاً من أنواع الصدمة لقوى الثورة السودانية، من حيث استمرار قدرة النظام البائد على التلاعب بالمكونات القبلية في الأطراف، على نحو يهدّد استقرار الدولة، ويضع أعباءً إضافية على كاهل الحكومة الانتقالية المثقلة أساساً بأعباء غير محتملة.
ولا يعدّ تطور الصراع القبلي في السودان بغريب على التفاعلات السودانية السياسية تقليدياً، فالعامل القبليّ يعد إحدى أدوات الصراع السياسي بين القوى السودانية المختلفة، وذلك إلى جانب كونه إحدى سمات مراحل الانتقال السياسي، خصوصاً بعد الثورات التي تعاني فيها الدول من حالات سيولة مشهودة، ولعلنا نذكر في مصر هذه الحالة من الصراع في أعقاب ثورة يناير (كانون الثاني) 2011 بين قبيلتي الدابوداية ذات الأصول النوبية وبني هلال أصحاب الأصول العربية، الذي أسفر عن سقوط عشرات من القتلى، وقد استدعى الأمر تدخّل المشير حسين طنطاوي، وزير الدفاع آنذاك، على خلفية أنه نوبيّ الأصل، فضلاً عن تمثيله للمؤسسة العسكرية، المنوط بها ضبط هذا النوع من الصراعات المهدّد للاستقرار السياسي والاقتصادي.
في الحالة السودانية، انطلقت الصراعات القبلية في شرق السودان في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي في منطقة ميناء بور سودان، ولكنها تجدّدت أخيراً في كسلا القريبة منها، وبطبيعة الحال يبدو عامل الصراع السياسي بين قوى النظام القديم وقوى النظام الجديد واضحة للعيان، وإن كانت الرافعة القبلية تبدو مناسبة للاستخدام بين الأطراف كبديل يخفّض مستوى سخونة الصراع ولا يطوّره لأبعاد أكثر خطورة، حيث انطلقت شرارة صراع بو سودان بين قبيلة بني عامر وقبيلة الأمرار على خلفية ندوة سياسية أقيمت في المنطقة، واستدعى إخماد الصراع ولو مؤقتاً زيارة من جانب رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، إلا أن تجدد الصراع مرة أخرى يشير بشكل واضح إلى خلل لم يتم التعامل معه بجديّة، لا من جانب الحكومة السودانية، ولا من جانب القوى السياسية، وهو ما أسفر عن تجدده في المنطقة نفسها.
وفي سياق مماثل، اندلعت مواجهات قبلية في غرب دارفور بمنطقة الجنينة مع مطلع العام الحالي، وهو ما استدعى أيضاً زيارة عاجلة من رئيس الوزراء، ورئيس قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وعدد من وزراء الإقليم، وهي الزيارة التي كادت تودي بحياة وزير العدل بعد انفجار طائرة كان من المفترض أن يستقلها في طريق عودته إلى الخرطوم.
عوامل عدة
هذه التطورات المؤسفة من صراعات مسلحة في مجمل الجسد السوداني، تبدو ناتجة عن عدد من العوامل، ولعل أهمها ما يشهده السودان من مرحلة انتقال سياسي، تتسم بالسيولة الشديدة، تسعى فيها الأطراف المحسوبة على الإسلام السياسي عامة، وحزب المؤتمر الوطني خاصة، إلى إرباك، بل ومحاولة إضعاف الحكومة الانتقالية خصوصاً وأنها تملك وسائل ذلك عبر وجودها في مستويات الحكم الولائي والمحلي لثلاثة عقود على الأقل، وتملك علاقات على الأرض مقاومة لأي تغيير يصبّ في صالح النظام الجديد، ونظراً لافتقاد هذه القوى لخطاب سياسي يستطيع أن يؤثر في المجال العام، بعد أن ثبت فساد نخبه السياسية، على المستويين الفكري العقائدي، والمالي ذي الأبعاد الأخلاقية، فإنهم مضطرون على ما يبدو إلى استخدام الورقة القبلية حتى يستطيعوا الوصول لهدفهم الاستراتيجي في إضعاف النظام وإنهاء الفترة الانتقالية، للوصول إلى محطة الانتخابات المبكرة التي يملكون أدواتها في هذه اللحظة من قدرات تمويلية وعلاقات على الأرض، وربما علاقات إقليمية.
ويملك التوظيف القبلي للصراع السياسي في السودان تاريخاً طويلاً ربما يكون الأشهر فيه والأكثر مأساوية هو أن اندلاع أزمة دارفور التي راح ضحيتها مئات الآلاف، ونزح عن مناطقهم وقراهم مئات آلاف أخرى، بعضهم إلى دول مجاورة كمصر وتشاد، كما استدعت تدخلاً دولياً في السودان بقوات للأمم المتحدة استجابة لقرارت من مجلس الأمن تحت ولاية البند السابع، فقد لعب الشيخ حسن الترابي مؤسس الجبهة القومية الإسلامية، ومهندس انقلابها العسكري عام 1989 دوراً رئيساً في اندلاع أزمة دارفور واتّساعها على نحو غير مسبوق في تاريخها الممتد من عام 1961، وذلك على خلفية إقصاء البشير له عن السلطة عام 1999، حيث لجأ إلى التحريض ضد الأخير في دارفور تأسيساً على أبعاد عرقية وقبلية، ونشر ذلك في ما سمي بـ"الكتاب الأسود" عن اختلال موازين توزيع السلطة والثروة في السودان، بل وأسّس حركة دارفورية مسلحة هي حركة العدل والمساواة، وتطور الصراع ليأخذ أبعاداً دموية بين القبائل المنتمية للأصول العربية وأخرى من العرق الزنجي، وهو الأمر الذي ترتّب عليه تحالفات لها طابع إقليمي مرتبطة بالامتدادت القبلية للزغاوة في كل من تشاد والسودان، وهي التحالفات التي تملك تأثيراً حتى اللحظة على المعادلات الداخلية السودانية.
ومع تجذّر العوامل القبلية في المعادلات السودانية تاريخياً، وتطورها بشكل كبير في فترة حكم الإنقاذ، تبدو أسباب القصور الحكومي في المرحلة الراهنة واضحة لعدد من العوامل، هي الضغوط الاقتصادية الشاملة على الدولة، وانشغال رموز الحكم المطلق بهذه الأزمة، فضلاً عن معضلة تعيين الولاة التي تراوح مكانها بسبب رفض قوى الهامش السوداني، خصوصاً الجبهة الثورية في دارفور، لهذه الخطوة تأسيساً على أن تعيين الولاة مرتبط بمسارات مفاوضات السلام، على الرغم من التعهّد الحكومي بأن يكون التعيين مؤقتاً. من هنا يكون من الطبيعي أن تفقد الحكومة الآليات المناسبة لممارسة سياستها التنفيذية على الأرض في الولايات، والتي جعلت رموز النظام القديم ما زالوا يملكون آليات التحكّم المحلي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
محاولات حزبية وسياسية
وفي هذا السياق، يحاول تحالف الحرية والتغيير سدّ هذا الفراغ الحكومي بالتحرّك السريع في مناطق الصراعات اعتماداً على لجنة طوارئ مؤسسة لأغراض حلّ أي مشكلات ناشئة، وتعتمد أيضاً على لجان المقاومة الشبابية المنضوية تحت التحالف، ولكن يبدو أن أثر هذا التفاعل مؤقت ونتائجه محدودة، حيث لا تملك قوى الحرية والتغيير أدوات تأثير مؤسسية وممتدة ولها صلاحيات في ضوء حالة عدم تعيين ولاة الولايات.
أما على مستوى القوى السياسية، فإن حالة الضعف والتشظي التي أصابتها، قد أسهمت بشكل أساسي في تدني التفاعلات البينية بين المواطنين في المناطق من مستوى التفاعلات تحت مظلة الأحزاب السياسية، إلى مستوى التفاعلات القبلية، وذلك لأسباب مرتبطة بأن الأحزاب قد فقدت قدراتها بسبب ضغوط نظام البشير الممنهجة ضدها، على مدى 30 عاماً، وذلك من حيث هندسة الانقسامات الحزبية داخلياً بسياسات "العصا والجزرة"، ولكن ذلك لا يعفي هذه الأحزاب من مسؤولية تبدو واضحة للعيان، كانت سبباً رئيساً في فقدان هذه الأحزاب لقواعدها الجماهيرية، ومن هذه الأسباب الجمع بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية في الحزبين الكبيرين على مدى التاريخ السياسي السوداني الحديث. فمثلاً، الحزب الاتحادي في شرق السودان يتزعمه السيد عثمان الميرغني في وضع مخالف لفترة ما بعد الاستقلال، حيث كان للحزب زعيم سياسي، بدأ بالزعيم إسماعيل الأزهري، ولم يمتد بعده، حيث يسيطر على الحزب حالياً ابنا السيد الميرغني الذي تتناقل الأوساط السياسية الاتحادية حالة التنافس الداخلي بينهما.
كما يجمع السيد الصادق المهدي ما بين إمامته لطائفة الأنصار وزعامته لحزب الأمة، الذي تبدو فيه الأسرة المهدية مؤثرة جداً على صناعة القرار الحزبي، مما أفقد الحزب زعامات سياسية تاريخية خلال العام الماضي، وجعل هيمنته على مناطق غرب السودان شبه مفقودة، بعد أن تجلّت الأجيال الدارفورية الجديدة في أطر فصائل مسلحة ضد المركز في وسط السودان والحزب معاً، كما بدا أن قطاعات واسعة من الشباب المنتمي لثورة ديسمبر (كانون الأول) لديها تحفظات على أداء الحزب السياسي.
وحالة الفشل الحزبي في السودان انسحبت أيضاً على الأحزاب التي أخذت طابعاً قبلياً منذ البداية، مثل حزب مؤتمر البجا المنتمي لقبيلة البجا في شرق السودان والذي تأسّس عام 1958، حيث استجاب لعوامل الانقسام خصوصاً في فترة حكم الإنقاذ أكثر من استجابته لشروط التماسك الحزبي المطلوب.
أما على مستوى الأحزاب اليسارية، خصوصاً الحزب الشيوعي، فقد ارتبط بالمدن أكثر من الأرياف، وفي ضوء ضعف النشاط الصناعي إجمالاً في السودان، فقد اقتصرت القواعد الجماهيرية للحزب الشيوعي على عمال سكك الحديد، والنخب المتعلمة من طلبة الجامعات، وهي أوضاع تنسحب أيضاً على أحزاب الوسط مثل حزب المؤتمر السوداني بزعامة عمر الدقير، أو الحزب الناصري برئاسة جمال إدريس، وبطبيعة الحال تبدو هذه التركيبة بعيدة إلى حد كبير عن التفاعلات في الأطراف السودانية، والمرتبطة بالأبعاد القبلية.
إجمالاً، يبدو أن معضلة القبلية في السودان تحتاج إلى تضافر الجهود الداخلية على جميع المستويات، ليس على المستويات الأمنية فقط بطبيعة معالجاتها المؤقتة، ولكن أيضاً على مستوى إدراك المستويات التنفيذية بضرورة تأسيس خلايا تفكير، وأدوات تنفيذية تلعب أدوراً مؤثرة على الأرض، وذلك حتى تستعيد أحزاب سياسية رشدها، وأخرى عافيتها لإنقاذ السودان من أتون الصراع القبلي.